في حضرة الشعر، لا تُطرح الأسئلة بحثا عن إجابات جاهزة، بل لإزاحة الستائر عن العوالم الداخلية التي تشكلها التجربة والذاكرة والرؤية. ومع شاعر مثل غسان زقطان، تتخذ الأسئلة نبرة تأمل، إذ لا ينفصل قوله عن نصه، ولا تجربته عن تحولات المكان والشتات والقصيدة.

وغسان زقطان هو شاعر وروائي فلسطيني ولد في بيت جالا عام 1954، ويعد من أبرز الأصوات الشعرية في فلسطين والعالم العربي.

تنقلت حياته بين الوطن والمنافي، فكتب من دمشق وتونس وبيروت ورام الله، وصاغ تجربة شعرية خاصة، تمزج بين تأمل الذات والتصاقها بالمكان، وتجعل من التفاصيل واليومي ركيزة في مواجهة الفقد والمنفى.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2شوي تشينغ قوه بسام: الأدب العربي في الصين كسر الصور النمطية وأعاد العمق الإنساني للعربlist 2 of 2الرسم في اليوميات.. شوق إلى إنسان ما قبل الكتابةend of list

تميز صاحب "غرباء بمعاطف خفيفة" بلغة شعرية شفيفة، تنفذ إلى المعنى بخفة ورهافة، وتترك أثرا دون أن تفرض نفسها على القارئ. وتتراوح تجربة زقطان الشعرية بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، دون أن يفقد توازنه أو صوته المتفرد. ترجمت أعماله إلى لغات عدة، وحاز على جوائز أدبية مرموقة، منها جائزة غريفن للشعر العالمي عام 2013. وإلى جانب الشعر، كتب الرواية والمسرح، وأسهم في الحياة الثقافية الفلسطينية من خلال عمله في مؤسسات ثقافية ومجلات، أبرزها رئاسته لتحرير مجلة "الكرمل" بعد محمود درويش.

وفي هذا الحوار النادر للجزيرة نت، ينفتح غسان زقطان على أسئلة الشعر والمنفى، كما ينظر بعين الصائغ إلى الجمر الذي احتضن صوته عبر عقود. يذهب بنا إلى البذرة الأولى، إلى كوبر، حيث نشأ المكان كشريك في القصيدة، وحيث تحولت الحديقة إلى كتاب، والنوافذ إلى إشارات تؤثث النص. لا يستعيد هنا "نقائض الحنين"، بل يعيد تأملها في مرايا التجربة التي قادته من الشعر الشعبي إلى كتابة السرد دون خيانة للشعر أو تبرؤ منه.

يناقش زقطان العلاقة المعقدة بين قصيدة التفعيلة والنثر، لا كمنفصلين، بل كجريان متصل في تيار واحد، ويرى في "العودة الناقصة" إلى غزة استكمالا للمنفى بصيغة أخرى، تتلبسها الخسارة ويتقد فيها الحنين.

رفقته مع محمود درويش، كما يروي، لم تكن مجرد ظل أو صحبة شاعرية، بل إقامة داخل كتاب الحياة، إصغاء حكيم إلى حركة الناس، ومعرفة تهدي لا إلى البلاغة فحسب، بل إلى المعنى المتخفي.

إعلان

هنا يظهر زقطان أيضا كشاهد شفيف على "أبناء جيله"، في تجربة الثمانينيات الشعرية الفلسطينية والعربية، حين نزل الشعر إلى الشارع، وحين كتبوا بأدوات فردية وموسيقى داخلية عن الخسارة، عن العاديات، عن الحنين الذي لا يصدر عن ذاكرة السياسي، بل عن ضوء البيت ونداء الأم وحنين الغائب.

ویبدو غسان زقطان هنا كما لم يُرَ من قبل: يتحدث عن زهير شقيقه، وكأنه يعيد رسم الغياب على صفحة الحضور، يتأمل مكتبته كما يتأمل النافذة، يرى في الترجمة عبورا لا للقصيدة فقط، بل للوجدان الذي كتبه ذات عزلة.

لذا، هنا لا يحكي الشاعر فقط عن الشعر، بل عن الحياة كما رآها وعاشها: بالقصيدة، وبالصمت، وبالأصدقاء الذين تنمو أشجارهم في الحديقة.

فإلى الحوار:

أصدر غسان زقطان أكثر من 10 أعمال أدبية بينها مجموعات شعرية وروايات ومسرحية (الجزيرة) لكل تجربة شعرية بداية، لكن تجربة غسان زقطان بدت خارجة عن المألوف منذ البدء، فلم تذوِ ظلال بداياتها في مرايا القصيدة. فكيف تشكلت البذرة الأولى لديك، لجهة اقتران شعرية المكان (كوبر) بالقصيدة، بفلسطينك؟

هل أستطيع أن أقول إنني بدأت دون قصد؟ يبدو هذا صحيحا الآن. لم أقصد أن أكون شاعرا، ولا أظن أن الأمر يحدث على هذا النحو. الشعر يحدث إلى جانب شؤون أخرى، عادات وأنماط تتراكم لتشكل في النهاية الحياة نفسها. لم تكن لدي خطة، يا محيي، وليس لدي الآن، ولا تتشابه البدايات.

أنا أحب أن أكتب الشعر، هكذا ببساطة. بدأت بكتابة الشعر الشعبي، بدا لي ذلك كافيا في حينه. أخذتني عبقرية المحكية وحساسيتها التي تدور في جنبات الحياة بعدالة عميقة. كتبت مبكرا جدا للمسرح. كنت أكتب ما أحتاجه، وما زلت. أكتب ما يكفيني، ولكنني أنطلق في ذلك من حياتي: من الطريق، والبيت، والسوق، والمقهى، وحسبة الخضار… حيث تندمج حياتي بحيوات الناس والأمكنة في مجرى متدفق وعظيم.

المكان مهم بالنسبة لي؛ الأصوات، والروائح، والضوء، والعناصر التي تتشارك لتجعل من أي بقعة مكانا. حياتي هي الحيز الأكبر لهذه الأمكنة، وهي المختبر لكتابة الشعر. الشعر بالنسبة لي حاجة.

حسنا، ولدت في بيت فيه مكتبة، مكتبة كانت تحتل مساحة مستقلة لا تقل عن المساحة التي نعيش فيها كأسرة، وكانت تنتقل معنا من مخيم إلى مخيم كما لو أنها الابن البكر، عالم مواز يتراكم في غرفة أشبه بصندوق أسرار. ولكنها، الكتب، كانت جزءا من العائلة. كان أبي شاعرا تقليديا، ولكن مكتبته لم تكن تقليدية. أتذكر رفا طويلا من أجزاء كتاب "الأغاني"، إلى جوار مجلة "شعر" البيروتية، إلى أشعار باسترناك الملحقة بروايته "دكتور زيفاكو" بطبعة لبنانية، إلى "الميثولوجيا السورية" في عدة أجزاء، وكراس غلافه صورة لأنطون سعادة. أصدقاؤه أيضا لم يكونوا تقليديين، كانوا خليطا من الشعراء، والكتاب، والنشطاء السياسيين، والمزارعين، ولاعبي النرد.

هل كانت فلسطين الجغرافيا، أم الحلم، هي التي كتبتك قبل أن تدون الصورة لحظتها الفاجعة على صخور بحر غزة؟

تجولت بأسماء كثيرة، ولكنني كتبت باسمي. كان منفاي كريما، منحني الكثير من المعرفة والألفة: دمشق، تونس، بيروت، موسكو، قبرص… وصولا إلى صحراء سيئون في اليمن. عندما وصلت غزة في (يوليو) تموز عام 1994، كان منفاي معي كاملا، يمدني بقوة المعرفة وأدواتها. حمولة المنفى كانت وسيلتي للتعرف على بلادي.

إعلان

في النصف الثاني من يوليو/تموز، صيف 1994، كان المنفى هو التجربة الوحيدة لنا، نحن الذين وصلنا غزة عن طريق معبر رفح. معظمنا ولد بعد النكبة لأمهات وآباء منفيين. حتى فكرة "الحنين" لم تكن لنا، كانت ملكهم، وقادمة من ذكرياتهم بعد تنظيفها من الألم. كان الحنين كيانا ينمو إلى جانبهم في مخيمات اللجوء ومشقة العيش، وكانوا يواصلون رعايته وتنقيته، كما لو أنهم زرعوا ذكرياتهم في أصص ووضعوها على مداخل بيوتهم ونوافذها في المنفى.

كانت تلك "عودة ناقصة" لوطن لم يكتمل ولم يتخلص من الاحتلال، ما منحه شبهة المنفى الأخير. لقد تعززت الخسارة في تلك العودة، وبدا كل شيء نهائيا، وكان علي أن أحصر هذا "الحنين" في مساحة صغيرة ومحاصرة، بينما بقية البلاد تنأى خارج الأحلام.

في السنوات الأولى لتلك العودة، كان المنفى يقودني، وبدا أنني أبحث عنه في الوطن.

في تجربتك، تجاورت قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر حتى بدت بلا قطيعة تذكر. ما سر هذا الاتساق الجمالي والتقني، وهذا التصالح في البنية الشعرية لديك؟ وهل أنصف النقد تجربتك في التقاط هذا التوازي على مدى عقود؟

الأشكال لا تستنفد، ولكنها تواصل حضورها وحركتها وتطوير تنوعها. هي اقتراحات تنبع من جوهر الشعر وعلاقاته بزمنه ومحيطه، إشارات تنشأ مع تطور العصر وطرائق التعبير وتطور اللغة، ولكنها لا تذهب إلى السكون أو العتمة. الأشكال تتغذى على تدفق الزمن وحيوية اللغة، ولكنها أيضا تستمد حضورها من الذائقة.

الذائقة التي يعكسها الوعي بتنوعها المدهش، هي ما يمنحها الحياة. لا يعني اقتراح شكل جديد موت الشكل الآخر، بقدر ما يعني فضاء لشعر لم يقل بعد، أو يمكن أن يقال بطريقة أخرى. حتى في داخل الأشكال، هناك حركة دائمة واقتراحات جديدة، عابرة لحدود الأشكال. الأمر أكثر تعقيدا وأعمق.

أنا أتعامل مع المنجز الحداثي بصفته امتدادا لخبرة اللغة العربية مع الشعر، وهي خبرة مذهلة لو تأملتها، وليس بديلا لهذه الخبرة.

مدونة الشعر العربي القديم، بتنوعها، ما زالت قادرة على تأثيث النصوص الحداثية وإغنائها. وسيكون من السطحية والجهل حبسها في قوافي العمود. التكنيك كان غنيا ومدهشا، المكان كان واضحا وقادرا على التنفس، السرد المتنوع داخل القصيدة الواحدة، والمبني بمهارات تتنقل من الغزل إلى وصف المكان وإعادة إنتاجه، إلى الطريق، إلى القصد… ما نحتاجه هو القطيعة مع القراءة الساذجة والسطحية لهذا الإرث، وليس القطيعة معه.

دائما ما أنظر بدهشة إلى قوة السرد في القصيدة العربية، من امرئ القيس، إلى المنخل، والأعشى، وطرفة، والشنفرى، إلى آخر هذه الكوكبة المذهلة والملهمة. ليس من الحكمة وضع خط للحداثة يقصي ما قبله. هذه خسارة.

لم أنظر يوما إلى "الرواد" كآباء مؤسسين، ولا أجد لهم أثرا عميقا فيما أكتب. الحقيقة أنني قرأتهم متأخرا، ولا أدين لهم بالكثير. مرة قلت في حوار قديم: إن آبائي هم أبناء جيلي.

رفقة طويلة جمعتك بمحمود درويش في تجربة "مجلة الكرمل". ما الذي أضافته لك تلك التجربة؟ وما أبرز المواقف التي جمعتكما على طاولة الشعر والصداقة؟

أضع صداقتي مع محمود في سلة الحظ وحسن الطالع، في جدول النعم التي حظيت بها حياتي. صداقة منحتني الكثير من كل شيء. أنظر إلى تلك السنوات كما لو أنها إقامة طويلة في كتاب سحري.

كنت كتبت في حفل تسلمي لجائزة محمود درويش شيئا حول هذا، مثل أنك لا تتعلم الشعر مع محمود، ولكنك تهتدي إلى حكمة الإصغاء: الإصغاء إلى الحياة، وحركة الناس، والكائنات، والإصغاء إلى الكتابة.

الآن سأقتبس ما يمكن أن يلامس السؤال من كلمة ألقيتها في تلك الأمسية:

"من هنا تبدو تلك الرفقة وحواراتها غير المنتهية؛ النصائح الصغيرة المتخفية في طيات الكلام، التأمل في الحياة وغايات اليوم ودأب الناس، البلاد بزمنها كاملا وجغرافيتها كاملة. الاحتلال وأقنعة الفاشي وذراعه. كيف يصبح المنفى ثقافة، وينهض سؤال الطريق والبيت. المقاومة كضرورة أخلاقية، المقاومة غنيمتنا النبيلة التي انتزعناها من التاريخ.

إعلان

اندفاع الأشكال، والبحث عن وصفة التوحيدي، والمشي على رؤوس الأصابع كي لا يجفل الحصان الوحيد في مرثية ابن الريب، السؤال الصباحي عن شاعر شاب في القدس، الغارة الليلية على الشجاعية… عبء الأمل، والضجر من السياسيين، الضجر الشديد من السياسيين".

التقيت بـ"الكرمل" قبل لقائي بمحمود. كانت صفحاتها، بالنسبة لجيلنا، النافذة الأرحب والأهم. أتحدث عن جيل الثمانينيات. نصوصنا كانت ممتلئة إلى حوافها بالتمرد. كان هناك عدم رضا عن كل شيء: الشعر السائد، الأشكال، سطوة الحيل البلاغية، هيمنة الاقتراح السياسي على النص، المواضيع والأفكار الكبيرة… ولم يكن تقبّل المؤسسة الثقافية والسياسية لمثل هذا التمرد سهلا. كان احتجاجا داخل ثورة تضخ أحلاما كبيرة، كان حركة معارضة للمتداول والسائد الثقافي والخطاب السياسي، في سياق حركة شعرية شابة تجاوزت المشهد الفلسطيني إلى المحيط العربي.

لطالما اعتبرت تأثير جيل الثمانينيات الفلسطيني/العربي أقرب إلى تأثير ما سمي بجيل "27" في إسبانيا، الذي نقل الشعر إلى الشارع والحياة اليومية وعاديات الناس وغاياتهم البسيطة. بيروت السبعينيات ومطلع الثمانينيات ساهمت في هذا الاحتجاج أيضا، بما قدمته من جدل ثقافي وتجارب واقتراحات، ومن خلال تأثير منابر وشعراء مثل شوقي أبي شقرا في "ملحق النهار" الذي فتح الباب للتجارب الجديدة.

أنا من جيل من الشعراء العرب يطلق عليهم "جيل الثمانينيات"، قبيلة ظهرت من البحرين إلى المغرب مرورا بمصر والشام والعراق. تحدثنا عن الخسارة بآلات فردية وأصوات خفيضة. وبينما كانوا يواصلون النفخ في النحاسيات والطبول في السبعينيات خلفنا، كنا نجلس مع الناس وخساراتهم والعاديات البسيطة، والسعادة الصغيرة التي تنبت في الضواحي والهوامش. وبينما كانوا يصغون بطاعة تامة للخطباء السياسيين، كنا نتبع الجمال القادم من أصوات الدلالين، والباعة، وندل المقاهي، ونداء الأمهات على أولادهن لتناول العشاء.

الخسارة، بجوهرها الإنساني، كانت من مصادرنا. كنا نملك شجاعة رثاء الثورة.

محمود درويش فتح "الكرمل" لهذه المغامرة، ودعم، بولاء الشاعر للشعر، هذه التجربة، ومنحها المنبر الثقافي الأهم والأكثر تأثيرا في المشهد الثقافي العربي، في مواجهة منابر السلطة ومخيلة السياسي وبلاغة الثقافي. ببساطة، قدم اعتراضنا عليه، ولكنه قرأ هذا الاعتراض بعمق، وأضافه إلى تجربته المدهشة العابرة للتجارب، ومنح هذا الاعتراض مقعدا في القاعة المحرمة، ومنح "الكرمل" ذلك الدور الطليعي الذي احتفظت به حتى توقفت في رام الله.

في هذا السياق، يلاحظ تحول بعض الشعراء إلى كتابة الرواية، بل وتبرؤهم من الشعر. كيف تنظر إلى هذه الظاهرة؟ هل هي تحول في رؤية ما استدعاها مكياج الرواية وحضورها، أم تجد في ذلك هروبا مؤقتا للبعض من صرامة القصيدة؟

عندما تكون اللغة هي المادة الخام للعمل، فأنت تتحرك في نفس الحقل. دعني أولا أقول إن العمل السردي الأول الذي كتبته كان في العام 1990، بعنوان "سماء خفيفة"، والثاني "وصف الماضي" بعد ذلك بثلاث سنوات، أي قبل الاندفاعة التي تحولت إلى ظاهرة.

لم يكتنفني أي شعور بأنني أمشي في أرض غريبة. كنت هنا قبل ذلك. ولعل العلاقة مع الشعر شكلت تمرينا أساسيا في تجربة السرد ومهاراته، كما سيتحول السرد، فيما بعد، إلى طاقة جمالية في الشعر. لا أتعامل مع الأمر كما لو أنه خروج عن الشعر، بقدر ما أراه تمرينا مزدوجا يغني التجربة.

لا أتذكر أن كانت لدي خطة لكتابة "رواية". وعندما كتبتها، فعلت ذلك بشروط تجربتي وأدواتها، أي قبل أن يصبح الأمر ظاهرة. من جيلي من الشعراء الفلسطينيين كتبها مبكرا زكريا محمد في تسعينيات القرن الماضي، إبراهيم نصر الله، كذلك الراحل أمجد ناصر، وخالد درويش. أن يكتب الشاعر رواية أمر سائد في الحقيقة: من أراغون، إلى كازنتزاكيس، إلى فيكتور هوغو…

ولكن ثمة ما يمكن أن يقال في أسباب بعض من شاركوا في هذه الظاهرة، مثل: البحث عن جمهور، أو التسرع وقصر النفس، أو السعي خلف جائزة. أما إنكار الشعر، فلا شك أنه نابع من فقر الموهبة والافتقار إلى الوفاء.

اخترت كوبر للعيش والإقامة منذ عقود. هل ترى في ذلك تمسكا بالتراب، وتأملا شعريا في واقع المكان وخيال القصيدة والحديقة المكسورة، أم استحضارا لجذور تشرف من خلال نوافذها القريبة والمطلة على الدوام؟ إعلان

كوبر بلدة تلّية تقع شمال رام الله. كانت اختيارا جماعيا لعدد من العائدين من المنافي ضمن "اتفاقيات أوسلو". معظم المجموعة كانت تعمل في الإعلام والثقافة والفنون في إطار منظمة التحرير. الجبل كان مهددا من قبل المستوطنين في حينه. أتحدث عن النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. دعم الرئيس ياسر عرفات المشروع عبر تسهيلات على شكل قروض ميسرة، ووقَف القائد مروان البرغوثي، وهو أحد أبناء البلدة وتمتلك عائلته أرضا مجاورة للمشروع، بقوة إلى جانب الفكرة وأسهم في نجاحها.

ستتبدل الظروف، وسيغادر البعض إلى مناطق أخرى، وسيعتقَل مروان، ولكن التل الكبير واصل بقاءه، وبقي مطلا على كروم الزيتون والبحر والساحل.

كوبر هو بيت كتابة وقراءة. زرعت في حديقته أشجارا بأسماء أصدقائي. اختاروا أشجارهم، وهي هناك الآن تحمل أسماءهم وتنمو وراء الشبابيك.

ما الأثر الذي تركه رحيل شقيقك زهير؟ وما أضافه هذا الفقد العائلي والشعري العميق إلى علاقتك بالمكان، بالنص، بالصمت الذي يعيد تشكيل حضور القصيدة في الغياب؟

علاقتي بزهير كانت دائما خاصة، وقد أخذت في العقدين الأخيرين شكل الحوار المتصل. أنظر إلى الأمر الآن، بعد رحيله المفاجئ، على أنه كان سعيا غير مقصود لإعادة بناء الذاكرة، وإخراجها من الأبيض والأسود نحو شبكة ملونة من الذكريات والأحلام.

زهير شاعر خاص، ولعل خصوصيته تكمن، في جانب منها، في زهده النقي، وعدم احتفائه بالأضواء. لقد استطاع أن يهتدي إلى تلك العزلة المثمرة التي تطل على الحياة نفسها. كان يسألني، كما تسألني الآن، عن البيت في كوبر، والحديقة، وعن مشهد البحر وراء التلال، وعن النافذة الأقرب إلي في المنزل وإطلالتها. كان معنيا بذلك. كان يتوقف دائما عند سؤال النافذة.

لا أستطيع أن أتذكر زهير بعيدا عن مكتبته التي تشبهه. مكتبته لا تشبه مكتبتي. مكتبته تمنح مساحات واسعة، إضافة إلى الأدب، لرفوف الفلسفة، والتصوف، ونظريات علم النفس، وقراءات في ثقافات الحضارات، وقراءة الموت والحياة في الديانات والمذاهب وميثولوجيا الشعوب… مكتبتي تشبه مكتبة أبي، وتمنح نظريات الأدب معظم مساحتها.

قبل أسابيع، قمت بمراجعة مخطوطته الشعرية التي ستصدر عن "سلسلة الإبداع العربي" في مصر. فكرت، وأنا أقرأ نصوص المجموعة، أن هذا يشبه زهير: وقفته، وزاوية قراءته للأشياء، صيد الذكريات ومنحها مستقبلا، والبحث عن وحدة الوجود في الإشارات، كتابة جملة طويلة، عابرة للوعي، من مكونات تبدو مختلفة، قبل أن تتشكل فيما يشبه توافقا كونيا.

شغفه الخاص في تأثيث الممر بين الحياة والموت بالنور، حيث يتحاور ابن الفارض ويونغ وراهب بوذي كان هنا للتو، بينما هو في رحبة من المكان يتذكر مستقبله.

أفتح صفحات كتابه في كوبر، أمام التلال التي لم يرها، أمام النافذة التي سألني عنها، في البيت الذي لم يزره.

أقرأ النصوص وأرى ذكرياتي.

ترجمت أعمالك إلى لغات عدة. حين يترجم الشعر، هل يفقد بهاءه وصفاءه، أم يكتسب نبرة جديدة؟ وما الذي بقي حيا من قصيدتك في اللغات الأخرى، وفق قراءاتك لها بلغات حية؟

لا أظن أن الترجمة بحد ذاتها تشكل معيارا للنجاح. الأهم هو ما الذي سيحدث بعد الترجمة: كيف وصل النص إلى اللغة الأخرى؟ قدرته على بناء صلة مع الذائقة الأخرى، ذائقة تشكلت بعيدا عن بيئة الكتابة باللغة الأصلية؟ هل احتفظ بمناطق مشتركة؟ الأمر هو: كيف ستحدث القراءة؟ الأمر متعلق إلى حد بعيد بالمترجم نفسه: لغته، وحساسيته، وقدرته على قراءة النص بمستوياته المتعددة.

أنا كنت محظوظا بمبادرة شاعر ومترجم مثل فادي جودة لترجمة المختارات عن جامعة "ييل"، ثم مختارات ثانية عن "كوبر كانيون". وهو ما حدث مع "روبن موغر"، الذي ترجم مختارات شعرية لدار "سيغل"، كما ستصدر ترجمته للمجموعة الأخيرة مترافقة مع الطبعة العربية عن دار "المتوسط".

في السرد، قام "سام وايلدر" بترجمة جميلة لمعظم الأعمال. المترجم في الأدب ليس ناقلا محايدا أو عاملا تقنيا، بل هو شريك كامل في رحلة النص ووصوله إلى اللغة الأخرى.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات محمود درویش من الشعر إلى جانب کما لو لم تکن

إقرأ أيضاً:

6 منتجات تقنية تغير شكل المستقبل

تطلق الشركات التقنية دوما منتجات جديدة ومبتكرة، ولكن قلة منها يمكن أن يغير شكل المستقبل أو يكون له أثر واضح في الحياة اليومية، وفي العادة تمر هذه المنتجات دون أن يدرك البعض أنها موجودة.

بدءا من الأحذية المبتكرة التي تيسر المشي وتزيد من سرعته وحتى أدوات التحكم في الحواسيب والطائرات واليخوت المبتكرة وحتى فرشاة الشعر الذكية التي تصبغ الشعر بشكل متساو، اخترنا لكم مجموعة من أهم التقنيات التي تغير شكل التقنية في المستقبل القريب.

1-خاتم "بادرون" الذكي بديل لفأرة الحاسب

كشفت شركة "بادرون" (Padrone) مؤخرا عن منتج ظلت تعمل على تطويره لمدة جاوزت 10 سنوات، إذ قدمته للمرة الأولى في مقطع دعائي عام 2018، ثم بدأت طباعته بشكل ثلاثي الأبعاد وتجهيزه للأسواق عام 2024، ومن المتوقع أن تطرحه رسميا هذا العام.

يعمل الخاتم بديلا للفأرة، إذ يتم توصيله عبر "البلوتوث" بأجهزة الحاسوب، ويتيح للمستخدم التحكم في جهازه كما لو أنه يمسك بفأرة بيديه، وذلك عبر مجموعة مكونة من مستشعرات حركة وعدسات كاميرا ومعالجات.

 

ويحتاج الخاتم لرؤية إصبع المستخدم والسطح الصلب أسفله وذلك حتى يتمكن من تسجيل الأوامر ونقلها إلى الحاسب مباشرة، ويأتي الخاتم مرفقا معه منصة شحن مخصصة له.

ويقدم الخاتم تجربة فريدة في التحكم بأجهزة الحاسوب بدقة وسلاسة دون الحاجة لنقل الفأرة أو التحرك بها من مكان إلى مكان آخر، وهو ما يمثل ميزة فريدة من نوعها لبعض المستخدمين.

2-أحذية "كريبتيد" (CRYPTIDE) المطبوعة بشكل 3 الأبعاد

كشف المصمم الألماني شتيفان هنريش عن تصميم الأحذية المبتكرة والمستقبلية للغاية التي تستخدم في الركض وتيسير تجربة المشي، وذلك عبر استخدام تصميم مستوحى من المخلوقات الأسطورية.

وتمتاز الأحذية بتصميمها الفريد من نوعه، إذ تأتي بتصميم يفصل بين الأصابع الخمسة فوق كعب الحذاء وهو يحاكي الجوارب حتى يمكن ارتدائها بسهولة ويسر، كما أن الأحذية تنتج على شكل حذاء واحد في المرة، وذلك لأن الشركة تقوم بأخذ مسحة ثلاثية الأبعاد للقدم وتصميم الحذاء ليناسبها.

إعلان

ويذكر أن الأحذية مصنوعة باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد من مواد خاصة وباستخدام معدات خاصة لتنتج حذاء ذا جودة فارهة وملائما للاستخدام بكثرة.

3-جهاز "هولوكونكتس هولوبوكس" لمحادثات الفيديو الحية

تعد أجهزة العرض الهولوغرافي أمرا تسعى العديد من الشركات للبدء في طرحه واستخدامه مع منتجاتها، وخاصة المنتجات المخصصة للأعمال إذ تسعى "مايكروسوفت" و"غوغل" لطرح التقنية الخاصة بها.

ولكن شركة "هولوكونكتس" (Holoconnects) الألمانية قامت بطرح النسخة الخاصة بها من جهاز المحادثات الهولوغرافية الخاص بها، وبدأت استخدامه بالعديد من المستشفيات في أميركا، وتحديدا مستشفى كريسنت الإقليمي الموجودة بولاية تكساس.

 

 

إذ قامت المستشفى باستخدامه للتواصل مع الأطباء عن بعد وإرساله إلى المرضى المقيمين بعيدا عن المستشفى وفي الأماكن النائية ليتمتعوا بتواصل مباشر مع الطبيب.

ويعمل الجهاز على عرض صورة تجعل الطرف الثاني يبدو موجودا في مكان المحادثة نفسه، وهي الخطة التي تعد مفيدة للغاية للعديد من الوظائف بدءا من الأطباء وحتى الاجتماعات ومقابلات العمل عن بعد.

 4-تقنية الهيكل الديناميكي في يخت "ذا مارتيني 6.0"  (The Martini 6.0)

عملت شركة "شاتلورث" (Shuttleworth ) مع باحة تصميم اليخوت "يخوت سيرفو" (Servo Yachts) لتطوير أحدث ابتكاراتها، وهو يخت مزود بهيكل ديناميكي يتجاوب مع الاهتزازات المائية والأمواج بشكل يخفض كثيرا من دوار البحر.

 

وراعت الشركة المصممة أن يحافظ اليخت على سرعته أثناء اختراق أمواج المحيط دون التأثر بالأمواج على الإطلاق، وهو ما يجعله خيارا مثاليا لمحبي السرعة والرحلات البحرية أو حتى من القلقين من أمواج المحيطات والبحار.

وقامت الشركة باختبار النموذج للتأكد من سلامة الفكرة وإمكانية تطبيقها عمليا، وبدأت العمل مباشرة على صناعة اليخت وتطبيقه بشكل واقعي لبدء بيعه في السنوات المقبلة، ويذكر أن طول اليخت يمتد لأكثر من 45 مترا ويصل ارتفاع إلى 3.5 أمتار.

5-فرشاة صبغ الشعر من "لوريال"

كشفت شركة "لوريال" عن أحدث ابتكاراتها في عالم صبغ الشعر، وهي فرشاة جديدة قادرة على خلط صبغات الشعر تلقائيا ثم إنتاج الدرجة المناسبة التي يختارها العميل قبل تطبيقها بسهولة فائقة على الشعر.

 

وتوفر هذه الفرشاة على المستخدمين الحاجة للذهاب إلى خبراء صبغ الشعر، إذ توفر الفرشاة زرا مخصصا لتوزيع اللون بشكل متساو على الشعر والوصول إلى النتيجة المرجوة في أقصى سرعة.

6- طاولة "أوبلا"

تقدم طاولة "أوبلا" (Opula) التي بدأت رحلتها كمشروع يجمع تمويل الجمهور تجربة فريدة ومختلفة من نوعها، فبدلا من أن تأتي الطاولة بشكل منفرد يمكنها التحرك والارتفاع بشكل تلقائي، فإن الشركة قامت بتحويلها إلى طاولة ذكية بالكامل.

 

ويعني ذلك أن الطاولة تأتي مع حاسوب مكتبي مثبت داخلها، إلى جانب شاشة كبيرة مخبئة في جسد الطاولة نفسه، ويمكنها أن تخرج الشاشة والحاسوب بضغطة زر وبآلية سلسلة للغاية.

كما أن الطاولة تأتي بتصميم أنيق للغاية يجعلها ملائمة للاستخدام اليومي في كافة الأماكن، وهي تأتي مع حاسوب داخلي ذي مواصفات رائدة تجعله خيارا مثاليا لمحبي استخدام الحاسوب المكتبي.

مقالات مشابهة

  • سعر ومواصفات جيلي ستار راي 2025 في الإمارات .. صور
  • إيكاد: سفينة "إترينتي سي" التي استهدفها الحوثيون كانت متجهة لميناء جدة السعودي وليست إلى إسرائيل
  • جائحة الشعر الأشقر تجتاح برشلونة
  • ما الذي يحرك الطلب على المشاريع العقارية التي تحمل توقيع المشاهير؟
  • 5 مكونات لكثافة الشعر.. تعرف على التفاصيل
  • الصرامي: مشاركة الهلال في كأس العالم للأندية كانت فاخرة
  • 6 منتجات تقنية تغير شكل المستقبل
  • قصائد الذكريات في بيت الشعر بالشارقة
  • شاهد | استهداف وإغراق السفينة (ETERNITY C) التي كانت متجهة إلى ميناء أم الرشراش في فلسطين المحتلة