تبدو الكاتبة اليابانية يوكو تاوادا، إنسانا مترحلا في روحه وجوهره. يتخطى أدبها أيضا الحدود المرسومة، لتدعو القارئ لمغادرة اليابان إلى ألمانيا، ومن ألمانيا إلى فرنسا، ومن فرنسا إلى أراضٍّ خيالية، لخوض غمار مغامرة حيث كلّ التحولات ممكنة، إذ يمتزج فيها الغريب بالخيالي، وحيث يرافق الكائن البشري كلّ ما يتعدّى أيّ تعريف لأن الرحلة التي يخوضها هي وقبل أيّ شيء آخر، رحلة تقوده إلى حدود الفن السحري.
كانت تاوادا قد وصلت إلى أوروبا في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وهي تكتب أحيانا باللغة اليابانية وأحيانا بالألمانية، وبين اللغتين، تعرف كيف تخلق شخصيات بديلة، خيالية، على وشك التبخر، على وشك تغيير الهُوية أو اللغة؛ تتجول في عالم حيث الاضطرابات هي القاعدة، عالم سكانه هم "ورثة الهاربين المزعجين" الذين يتعارضون مع عمل كوبو آبي [كاتب ياباني] ولكن أيضًا مع "المنشقين الشجعان" الذين، من سيرفانتس إلى شاميسو، انطلقوا لغزو "اللا مكان العظيم"، بينما يروون لأنفسهم قصصًا ويضعون أمام أنفسهم تحدي طمس الخطوط والمعالم والمسارات، ليصبحوا بعيدي المنال، إذ من الصعب فك رموزهم، من دون أن يتوقفوا عن المساهمة في بناء "سفينة نوح" ترحب بشخصيات تبحث عن مؤلف، ومسرنمين يمشون فوق حبل مشدود، وهاربين لا يبحثون عن ميناء للرسو ولكن عن أرض لا إنسان فيها من شأنها أن تعدهم بمستقبل مليء بالشكوك؛ وهم بذلك متسلحون بشعور عنيد بعدم الانتماء يفتخر بالهروب الدائم من أي تصنيف.
في رواية "قطار ليل مع مشتبه بهم"، تأخذ مصممة رقص يابانية تعيش في هامبورغ القارئ معها في رحلة "متهورة" من غراتس إلى بومباي عبر إيركوتسك. وبينما تبتعد عن وجهتها الأصلية، تتخلى المرأة الضائعة عمّا اعتقدته جزءًا من كيانها، ومع فقدانها المتزايد لشعورها بالواقع، تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه رغم خطر التفكك الذي تُعرّض نفسها له. في رواية "العين المجردة"، تتجول طالبة فيتنامية تائهة في الغرب قبيل سقوط جدار برلين، "لتعبر المرآة" (مثل "أليس في بلاد العجائب") يوميًّا عبر مشاهدة أفلام من بطولة كاثرين دونوف. أما في رواية "رحلة إلى بوردو"، تقرر الشابة اليابانية يونا، التي تعيش في ألمانيا، (قرين خيالي آخر ليوكو تاوادا)، الذهاب إلى فرنسا لاكتشاف ذلك البلد وتعلّم لغته. تصل إلى "جيروند" (مدينة بوردو) حيث تبدأ تشعر بالترنح من جراء اكتشافاتها ولقاءاتها، وأولها اللغة، إذ تشعر بأنها فقدت الكثير من ذاتها الماضية، بعد أن عرفت لغة جديدة.
يقترن تجوال هؤلاء البطلات -الفضوليات للغاية بشأن الآخرين، واللواتي يضعن أنفسهن أحيانا في مواقف سريالية يعيشنها- يقترن بتجوال عقلي: فشخصيات تاوادا الهاربة تضاعف بشغف التجارب التي تكشف لهم الهاوية، لكنها تسترشد بإحساس أكيد جدًا بما يمهد الطريق لكل الغرابة التي يهاجرن إليها من مساحة متحركة إلى أخرى، ويقدمن أنفسهن كعلامة حاشدة للحاجة المطلقة للتحول.
لا تختلف رواية "قصة كنوت"، عن روايات يوكو تاوادا السابقة التي تتناول تجسيدات المنشقين في هروبهم الكامل. فعلى غرار رواية "حرب السمندل"، حيث يصف كاريل تشابيك [كاتب تشيكي] بفكاهة لاذعة كيف تأتي السحالي، المستعبدة من قبل البشر، لتنظيم ثورة ومحاولة الاستيلاء على السلطة، تروي رواية يوكو تاوادا مصير ثلاثة دببة قطبية: الجدّة، "نجمة السيرك البائسة التي سقطت"، والأم، توسكا، وكنوت، الحفيد، بطل حماية البيئة المتوّج (لنتذكر أن كنوت كان موجودًا بالفعل، وأنه الدب القطبي الشهير في حديقة حيوان برلين، الذي كانت ولادته ووفاته محور جدل كبير في ألمانيا). في منزل يوكو تاوادا، تكتب الجدّة، المولودة في الاتحاد السوفييتي، والتي هاجرت إلى ألمانيا الغربية ثم إلى كندا، سيرتها الذاتية، بينما تقول لنفسها إنه بالنسبة لها، التي اعتادت على التباهي والرقص على كرة ضخمة أو ركوب دراجة ثلاثية العجلات، فإن قرار نشر نصوصها الحميمة سيكون بمثابة حركة بهلوانية أكثر خطورة.
تتناوب هذه الدببة القطبية الثلاثة على الكلام للتأكيد على عدم اهتمامها بالهوية الوطنية: "في بلادهم، من الشائع الحمل في غرينلاند، والولادة في كندا، وتربية الأطفال في الاتحاد السوفييتي. ليس لديهم جنسية ولا جواز سفر، ويعبرون الحدود دون إذن، وبالتالي لا يعيشون في منفى حقيقي أبدًا". كما يتحدثون مثل قطة معلم اللغة الإنجليزية في رواية سوسيكي "أنا هرّ"، أو مثل كلب أوسكار بانيزا في رواية "مذكرات كلب" الرائعة، وهما من روائع الأدب الياباني والألماني، اللذين ينافسان نصوص كافكا عن "جوزفين السوبرانو أو شعب الفئران" (من أواخر قصصه). ربما علينا أن نتذكر أيضا الحمار في رواية "بلاتيرو وأنا" لخوان رامون خيمينيث، أو "الخلد والغرير" في رواية "الريح في الصفصاف" لكينيث جراهام، حتى وإن كانت رواية يوكو تاوادا ليست مثلاً حيث الحيوان هو الملك، بل حكاية خرافية تخريبية عن الكتابة الذاتية، ومجتمع المشهد، ودوار المنفى.
تكاد صحبة هذه الدببة المرحة، المراقبة لأعراف وعادات سكان الأرض، تُنسي المرء كم "تفوح منها رائحة النفاق والقلق": مع "هؤلاء الفنانين الثلاثة"، يدخل قارئ تاوادا عالمًا متحررًا من الجاذبية، حيث نجدهم متحررين مما يُقيدهم في ضرورات الحياة الاجتماعية، لذا يمرح "الرفاق البشوشون" في مياه عكرة، ويعلنون، ضد كل أشكال الخضوع، وكذلك كل أشكال القومية، استقلالًا روحيًّا كبيرًا ورغبة مُلحة في إلغاء القيود.
تدعونا يوكو تاوادا لنقتفي أثر هؤلاء الرفاق الثلاثة المشاغبين، الذين تُخمد الكتابة في أعينهم. على متن السفينة التي تستقبلهم، ستتاح للقارئ فرصة مقارنة عالمهم المصغر بعالمنا. وحتى لو لم يكن التشبيه هو ما يحرك الكاتبة، فإن مغامرات الدببة القطبية الثلاثة، عندما انغمست في المعركة وطالبت بحقوقها، تُذكرنا بالثورات الاجتماعية التي تهز المجتمع البشري.
لكن ربما يجدر بنا قراءة قصص هذه الكائنات، قبل كل شيء، كجزء جديد من مشروع زعزعة الاستقرار الذي تنفذه يوكو تاوادا، من خلال أعمالها، منذ سنوات. فبدلاً من أن تقدم للقارئ حكايةً طريفة عن عالم الحيوان، تحاول أن تُحدث انقلابًا، فاتحةً أبواب هذا العالم السفلي حيث تُخفي الرواية قاعًا ثلاثيًّا، حيث من المناسب التخلي عن الإيمان بسيادة العقل أو بتفوق البشر. "قصة كنوت"، كغيره من كتب يوكو تاوادا، هو أيضًا قصة تحررات متتالية.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
نفاد رواية “عالمي يتنفس الموت” لمارجو حداد ومنذر رياحنة من معرض عمّان الدولي للكتاب
نفذت جميع النسخ المعروضة من رواية “عالمي يتنفس الموت”، للكاتبة الدكتورة مارجو حداد والفنان منذر رياحنة، وذلك بعد الإقبال الواسع عليها خلال مشاركتها في معرض عمان الدولي للكتاب، ما يعكس اهتمام القرّاء بالمضامين الفكرية والإنسانية التي تتناولها الرواية.
وتُعرض الرواية حاليًا في معرض الرياض الدولي للكتاب ضمن جناح الإصدارات العربية الحديثة، لتواصل جذب الزوار والنقاد، بفضل رؤيتها العميقة التي تلامس قضايا الإنسان والمصير، وتطرح أسئلة وجودية بطرح واقعي مؤثر.
رواية عالمي يتنفس الموت تجربة أدبية فريدة تمزج بين الحس السينمائي والبعد الفلسفي، في مقاربة فكرية للحياة والموت، تجمع بين قلم الكاتبة وبصمة الفنان في عمل واحد يثير التفكير والتأمل.