ليبيا بين الداخل والخارج.. كيف نبني هوية اقتصادية تصديرية؟
تاريخ النشر: 24th, July 2025 GMT
في سياق السعي المستمر للنهوض بالدولة الليبية، بات من الضروري العمل على مسارين متوازيين: أولهما التنمية الداخلية، وثانيهما تعزيز العلاقات مع دول الجوار، ومدّ استثمارات الدولة في محيطها القاري. إذ يُمثّل هذا التوجّه ركيزةً أساسية للحفاظ على توازن العلاقات الإقليمية، وبناء عمق اقتصادي استراتيجي، وإعادة تعريف هوية الدولة خارج حدودها.
في هذا الإطار، يُخطئ من يُقيّم تجربة ليبيا الاستثمارية في إفريقيا خلال عهد القذافي باعتبارها فاشلة بالكامل. فالفكرة في جوهرها لم تكن خاطئة، إنما الخلل كان في طريقة التنفيذ. فقد اتسم التوجّه حينها باندفاع غير محسوب، تمثّل في ضخّ استثمارات ضخمة في بيئات غير مستقرة، تفتقر إلى الحوكمة والشفافية.
جاءت تلك السياسات محمّلة بشعارات سياسية مثل “القضاء على الهيمنة الغربية في إفريقيا”، وغالبًا كردّ فعل على العزلة الدولية التي واجهتها ليبيا في التسعينيات عقب فرض العقوبات الأممية. فطُرحت القارة الإفريقية حينها كبديل سياسي واقتصادي عن أوروبا. غير أن هذا التوجّه، وإن لم يكن خاطئًا في مضمونه، افتقر إلى الرؤية الاقتصادية الرشيدة، وتحوّل في كثير من الأحيان إلى أداة للبروباغندا الداخلية وتلميع صورة النظام، بدلًا من أن يُبنى على أسس تنموية مستدامة.
كانت النتيجة سلسلة من المشاريع العشوائية ضعيفة الإعداد، افتقر كثير منها إلى الحد الأدنى من التنظيم المؤسسي والوضوح القانوني في الملكية والعقود، ما جعلها عرضة للتجميد أو الانهيار أو التورط في نزاعات طويلة الأمد.
ورغم التحديات القانونية والدبلوماسية التي واجهت الاستثمارات الليبية في إفريقيا، فإن المسار لم يكن عبثيًا بالكامل. فاليوم، وبعد تحولات عديدة، يُعاد طرح فكرة التوازن بين الداخل والخارج، ولكن بمنطق جديد، تمثّله مؤسسات مثل محفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار، التي أعلنت توجّهها نحو تعزيز الاستثمار الداخلي دون التخلي عن استثماراتها الخارجية.
هذا هو التوجّه الصحيح: لا قطيعة مع الخارج، ولا اندفاع غير محسوب، بل توازن استثماري يربط بين دعم الاقتصاد المحلي وتعزيز النفوذ الاقتصادي الليبي في الإقليم، لا سيّما في القارة الإفريقية.
وفي الحديث عن الاستثمار الليبي الخارجي، تبرز الحاجة إلى أن تُعبّر هذه الاستثمارات عن هوية اقتصادية واضحة. ليبيا تُعرف إقليميًا ودوليًا بأنها دولة نفطية بامتياز، إذ تملك نحو 39% من احتياطيات النفط في إفريقيا، وتعتمد على عائداته كمصدر رئيسي للموازنة العامة والعملة الأجنبية.
فلماذا لا يُستثمر هذا الواقع في بناء هوية استثمارية خارجية تتمحور حول النفط ومشتقاته؟
في هذا السياق، تبرز شركة “أولى إنرجي” التابعة لمحفظة ليبيا إفريقيا للاستثمار كمثال عملي. ورغم ما مرّت به من فترات اضطراب، بدأت الشركة تستعيد توازنها تدريجيًا منذ عام 2023، عقب تعيين مجلس إدارة جديد بدعم من مجلس إدارة المحفظة الذي أُعيد تشكيله عام 2022.
تُمثّل “أولى إنرجي” اليوم نموذجًا متكاملًا لشركة ليبية ذات طابع إقليمي، تنشط في مجالات متعددة تشمل توزيع الوقود عبر شبكة تتجاوز 1500 محطة في 17 دولة إفريقية، وإنتاج وتسويق زيوت التشحيم عبر 8 مصانع، وتقديم خدمات تزويد الطائرات، إلى جانب أنشطة أخرى متنوعة.
هذا التنوع يعكس قدرة الشركة على توسيع الحضور الاقتصادي الليبي خارج الحدود، وتصدير نموذج يحمل هوية وطنية واضحة في قطاع الطاقة.
وقد أوضحت المحفظة، منذ البداية، أن أولويتها تكمن في الاستثمار داخل ليبيا، لكنها في الوقت ذاته دعمت جهود استعادة “أولى إنرجي” لعافيتها وتعزيز أدائها التشغيلي، وهو ما انعكس فعليًا على نتائجها المالية. فقد أعلنت الشركة عن تحقيق صافي أرباح بلغ 34.5 مليون يورو في عام 2024، مقارنة بـ29.8 مليون يورو في 2023، و11.2 مليون يورو في 2022، مما يدلّ على تحسن ملموس وأداء تصاعدي مستقر.
ورغم التحديات الإقليمية التي يواجهها قطاع الطاقة، تُثبت “أولى إنرجي” أنها قادرة على أن تكون ذراعًا تجارية ليبية المنشأ، إقليمية الحضور، خاصة في أسواق شمال إفريقيا.
كما تتولى “أولى إنرجي” حاليًا مسؤولية تطوير شركة ليبيا للنفط المشتركة، وهي شركة أخرى تعمل المحفظة على إعادة هيكلتها وتعزيز حضورها في السوق المحلي، في إطار رؤية استراتيجية منضبطة لإدارة الموارد وتوجيهها نحو الأولويات الاقتصادية الوطنية.
تقف ليبيا اليوم أمام فرصة حقيقية لإعادة بناء حضورها الاقتصادي في إفريقيا، من خلال مسارين متكاملين: استثمار داخلي مسؤول، وتوسّع خارجي محسوب. غير أن هذا المسار لا يكتمل دون هوية اقتصادية واضحة ومُصدّرة.
ولأن ليبيا تُعرف بأنها دولة نفطية بامتياز، فمن المنطقي أن تتمحور استثماراتها الخارجية حول ما يعزّز هذه الهوية ويُرسّخها، تمامًا كما تفعل دول الخليج العربي. فرغم سعيها إلى تنويع مصادر دخلها، لا تزال هذه الدول تستخدم ثقلها النفطي لبناء نفوذ اقتصادي عالمي عبر علامات تجارية قوية في قطاع الطاقة.
من هنا، فإن إعادة بناء هوية اقتصادية ليبية تصديرية تتطلّب تخطيطًا عقلانيًا، وتنفيذًا كفؤًا، واستثمارًا ذكيًا في ما نملكه من موارد وخبرات، وعلى رأسها قطاع الطاقة. وبهذه المقاربة فقط، يمكن أن تصبح ليبيا رقمًا فاعلًا في المعادلة الاقتصادية الإقليمية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: هویة اقتصادیة قطاع الطاقة فی إفریقیا أولى إنرجی التوج ه
إقرأ أيضاً:
تفاصيل اليوم الذي غيرت فيه القبائل اليمنية كل شيء
في لحظة فارقة من تاريخ اليمن، وبينما كان العدوان الغاشم يضغط بكل ثقله لإسقاط الجبهة الداخلية، جاءت فتنة ’’عفاش’’ في الثاني من ديسمبر كخيانة صريحة تستهدف الوطن من الداخل بعد فشله في اختراقه بكل أدوات العدوان العسكرية في المواجهة المباشرة، لكن القبائل اليمنية بخبرتها المتجذرة ووعيها العميق والتفافها حول دعوة السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي يحفظه الله، للثبات أمام المؤامرات، قرأت تلك الدعوة منذ اللحظة الأولى باعتبارها امتداداً مخططاً لمشروع تفكيك الصف الوطني وإسقاط الانتصارات التي صُنعت بدماء أبنائها.
يمانيون / تقرير / طارق الحمامي
ومع إدراكها لطبيعة المخطط، تحركت القبائل بسرعة وحسم، فأغلقت منافذ الفتنة، وحاصرت تحركات عفاش قبل أن تتوسع، وثبّتت الجبهات عبر إبقاء مقاتليها في مواقعهم لإفشال رهانه على انهيار الداخل، وبوعيها الاستراتيجي، وموقفها التاريخي المتماسك، تمكنت القبائل من إسقاط الخيانة خلال ساعات، مثبتة أنها الحصن الأول للوطن، وأن التضحيات التي قدمتها ليست مجالاً للمقامرة السياسية ولا ورقة في يد أي طرف يساوم على أمن اليمن وسيادته.
هذه الوقفة القبلية الصلبة، التي التقت مع رؤية السيد القائد في مواجهة العدوان وإسقاط المؤامرات، لم تنقذ صنعاء فحسب، بل حفظت وحدة البلاد، وأكدت أن اليمن محصّن برجاله ودمائهم، وأن الخيانات تُدفن حيث تولد، وأن الوطن فوق كل الأشخاص وكل الانقلابات وكل التحالفات العابرة.
القبيلة اليمنية .. ذاكرة دم لا تقبل العبث
على امتداد سنوات العدوان، كانت القبائل اليمنية، خصوصاً قبائل الطوق، تمثل الركن الأساس في حماية العاصمة والجبهات. وقدّمت خيرة أبنائها وأثمن الرجال دفاعاً عن دين الله وعن الأرض والكرامة، لذلك لم تتردد لحظة في اعتبار خطاب عفاش خطوة تستهدف تلك التضحيات مباشرة، بل وتحوّلها إلى ورقة لتمرير تحالفاته المشبوهة مع دول العدوان.
ومع الساعات الأولى للأحداث، كان الوعي القبلي أعلى من أن يُستدرج إلى صراع داخلي، وقد ظهرت ملامح ذلك في أحاديث الشيوخ ومجالس القبائل التي رأت في خطاب عفاش تكراراً لأسلوبه القائم على المقامرة السياسية حتى لو كان الثمن سقوط الوطن.
التفاف القبائل حول دعوة السيد القائد .. نقطة التحول الحاسمة
قبل اندلاع فتنة ديسمبر، كانت القبائل قد استجابت بقوة لدعوة السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي للثبات أمام العدوان وكشف المؤامرات التي تستهدف الداخل، وقد لعب هذا الالتفاف دوراً مركزياً في بناء جبهة صلبة موحّدة جعلت القبائل أكثر قدرة على كشف أي محاولة للاختراق الداخلي.
لقد استوعبت القبائل، عبر هذه الدعوة، أن المعركة ليست فقط في الحدود ولا في الجبهات، بل في وحدة الداخل التي كان العدو يسعى لإسقاطها بالمال والإعلام والتحريض السياسي.
ومن هذا الإدراك، تشكلت لدى القبائل قناعة أن أي دعوة تهدف لشق الصف أو خلق صراع داخلي ليست سوى جزء من استراتيجية العدوان، مهما حاولت أن تظهر بوجه وطني.
ولذلك، عندما خرج عفاش بخطابه، كانت القبائل قد بنَت لنفسها حصانة فكرية وسياسية تجاه المؤامرات، وأصبحت أكثر استعداداً لرفض أي تحرك يستهدف الثبات الداخلي الذي دعت إليه القيادة.
لقد كانت دعوة السيد القائد أحد أهم الأسس التي جعلت القبائل تتعامل مع خطاب صالح باعتباره امتداداً واضحاً لمخطط خارجي لا يمكن السماح له بالعبور.
قراءة القبائل للفتنة .. الخيانة بلا تورية
لم يمض وقت طويل بعد خطاب عفاش حتى اتضحت لدى القبائل العلاقة بين دعوته وتحركات إعلامية متزامنة صادرة عن قنوات دول العدوان كانت تنتظر لحظة انفجار القتال الداخلي.
وفي تلك اللحظة، باتت الصورة واضحة، أن ما يحدث ليس خلافاً سياسياً، بل خيانة صريحة تحاول فتح ثغرة للعدو.
وقد عبّر مشائخ القبائل عن ذلك بوضوح في اجتماعاتهم التي سارعوا إليها، مؤكدين أن خيانة الداخل أخطر من قذائف العدوان الخارجي، وأن أي قبول لمغامرة عفاش وخيانته يعني السماح للعدو بتحقيق ما لم يستطع تحقيقه في سنوات القصف.
موقف القبائل على الأرض .. سرعة في الحسم ودقة في التقدير
تحركت القبائل لإغلاق الطرق المؤدية إلى مواقع حساسة، ومنعت تحركات مجاميع عفاش التي حاولت استغلال الفتنة.
وفي الوقت نفسه، حافظت على تماسك الجبهات بإصدار أوامر واضحة لمقاتليها بالثبات، فأسقطت بالضربة الأولى أهم رهانات عفاش الذي اعتمد على انهيار الجبهة لتمكين مشروعه.
ومع تماسك الجبهات، وانتشار القبائل في محيط صنعاء، باتت الفتنة محاصرة من كل الجهات، وأصبح واضحاً أن مشروع الخيانة فقد كل أسباب نجاحه، وكانت النتيجة أن الخيانة تسقط والوطن يثبت .
خاتمة
في الثاني من ديسمبر، كشفت القبائل اليمنية أنها الحصن الذي لا يُكسر، وأنها تملك البصيرة التي تميز بين الخلاف السياسي والخيانة، وبالتفافها حول دعوة القيادة للثبات، وبموقفها الحاسم من دعوة عفاش، أكدت القبيلة اليمنية أن الوطن فوق الأشخاص، وأن تضحياتها ليست جسراً يمر عليه أحد لتحقيق طموحات شخصية.
لقد سقطت خيانة ديسمبر لأن قبائل اليمن قررت أن وحدة الصف هي خط الدفاع الأول، وأن المؤامرات تُدفن قبل أن تولد، وأن الوطن لا يُباع ولا يُسلَّم للعدو تحت أي ظرف.