في زمن التحولات الكبرى، لا تُطبخ المشاريع الجيوسياسية في العلن، بل في الغرف الرمادية، على نارٍ هادئة، وبمقادير دقيقة يتقنها طباخو المخابر الاستراتيجية. هكذا يبدو ما يفعله المبعوث الأمريكي «توماس باراك» وهو يتحرك بهدوء في الميدان «السوري-اللبناني»، مستعرضًا وصفته الجديدة لتثبيت الأمن ظاهريًا، وتفكيك البنية الحليفة للمقاومة فعليًا.

في ظاهر الحكاية، يتقدم باراك بمقترح تشكيل «قوة حماية» على الحدود بين سوريا ولبنان، عنوانها «مكافحة الإرهاب ومنع التهريب»، وتغليفها برنامج تدريبي ممول من البنتاجون نفسه، تحت مظلة حماية الاستقرار الداخلي في الجنوب السوري، وتحديدًا في محافظة السويداء. يتسلل الخطاب بلغة احترافية ناعمة: تنسيق، تأهيل، دعم، مراقبة، و«غرفة عمليات مشتركة» بين الجيشين السوري واللبناني. ولكن من يُمعن في التركيبة يدرك سريعًا أن الغاية تتجاوز الحدود الجغرافية إلى العمق السياسي والعقائدي.

ليست هذه القوة الأمنية المقترحة بريئة في ولادتها، ولا في مهمتها. هي ليست «قوة دولية»، ولا «حماية محايدة»، بل إعادة تشكيل لميزان القوى في خاصرة الشام الجنوبية، تمهيدًا لإعادة ضبط الإيقاع الإقليمي بما يتناغم مع إيقاع المشروع الأمريكي-الإسرائيلي القديم المتجدد.

فالحديث عن ثلاثية «المخدرات والسلاح والإرهاب» ليس جديدًا، لكنه هذه المرة يُطرح بلغة مزدوجة، في العلن بوصفه مكافحة للجريمة العابرة للحدود، وفي الخفاء كإعادة برمجة للأولويات العسكرية السورية، وربما جرّها في اتجاه صدام غير مباشر مع حزب الله، عبر احتكاك محسوب يُزرع على تخوم البقاع والقصير، وربما الجنوب السوري.

والمفارقة أن هذا الطرح يأتي بعد هدوء نسبي في جبهات الجنوب، وبعد تطورات داخلية في السويداء توحي بأن ما يجري ليس فقط بحثًا عن أمن الحدود، بل توظيفًا للأرضية الاجتماعية والدينية في الجنوب لتنفيذ نموذج شبيه بالتنسيق الأمني الذي يجمع السلطة الفلسطينية بجيش الاحتلال الإسرائيلي. نموذج يُبقي المقاومة تحت المجهر، ويُشغل الدولة المركزية بمعارك جانبية، ويُطبع العلاقة بين "المتدرب والممول"، حتى لو اختلفت الأعلام.

ورغم أن دمشق تُدرك خطورة ما يُطبخ، إلا أن المشهد يبدو مفتوحًا على مفارقات عديدة. فمن جهة، هناك حاجة لضبط الانفلات الحدودي ومواجهة تمدد العصابات والتهريب المنظم. ومن جهة أخرى، ثمة محاولة لتوريط الدولة السورية في صراع داخلي مع حليفها الاستراتيجي، دون إعلان حرب، ولكن عبر احتكاك بارد تتزايد حرارته مع كل طلقة وهمية في الظل.

أما الفصائل المحلية المسلحة، التي يُظهر بعضها حماسة للعب دور في ملاحقة "الطرف اللبناني"، فليست سوى أدوات مؤقتة في لعبة كبرى قد تبتلعها هي أولًا. ولعل أخطر ما في هذا السيناريو، هو محاولته تأسيس حالة "فتنة أمنية" بين ما يُسمى "جيش سوري جديد" وبين قوات حزب الله، بما يشبه إعادة تدوير لحرب الوكالة، ولكن هذه المرة تحت رعاية مؤسسات رسمية وشرعية وبدعم فني أمريكي - فرنسي مشترك.

باراك لا يتحرك في الفراغ. خلفه شبكات مصالح، ومراكز قرار، ومصانع سرديات. وما يهمه ليس حماية السويداء من الفوضى، بل استثمار الفوضى في الجنوب كرافعة لمشروع قديم: ضرب العمق الاستراتيجي للمقاومة، وتحويل الجيش السوري إلى طرف محايد - وربما لاحقًا خصم - في معادلة الحدود، بعد إفراغها من أي بعد عقائدي أو سيادي.

في الخلاصة، لا شيء بريء في هذه "الطبخة". عنوانها الظاهر أمني، ومضمونها سياسي، وغايتها إعادة رسم خطوط النفوذ وفقًا للخرائط الجديدة التي تُرسم على الورق قبل أن تُجرب على الأرض. ولكن هل دمشق في وارد الوقوع في الفخ؟ أم أن ما يجري هو مجرد اختبار آخر لقدرة الدولة السورية على التماسك والتمييز بين “الشراكة التقنية” و”الاصطفاف السياسي”؟.

في هذه اللحظة الحرجة، يبدو أن الإجابة ستتوقف على من يكتب السيناريو الأخير: وزارة الدفاع السورية؟ أم البنتاجون؟

(كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية).

اقرأ أيضاً«البنتاجون» يعلن انسحاب المارينز من لوس أنجلوس

تضارب بين البنتاجون و «CIA» بشأن نتائج استهداف ترامب نووي إيران

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: سوريا لبنان جيش الاحتلال البنتاجون السلطة الفلسطينية الدولة السورية الاصطفاف السياسي الشراكة التقنية

إقرأ أيضاً:

انقلاب تروسيكل في الصف يصيب 9 عمال ويشعل الفوضى المرورية

أصيب مساء الأربعاء، تسعة عمال بجروح مختلفة إثر انقلاب تروسيكل بمركز الصف جنوب محافظة الجيزة، في حادث أثار حالة من الهلع بين المارة والسائقين على الطريق الزراعي.

تفاصيل الحادث

تلقت غرفة عمليات المرور إخطارا عاجلا من إدارة شرطة النجدة يفيد بوقوع حادث مروري وانقلاب تروسيكل على الطريق الزراعي بمركز الصف، مما أسفر عن إصابة مجموعة من العمال.

انتقلت على الفور فرق المرور والإسعاف إلى موقع الحادث، حيث تبين لهم انقلاب التروسيكل أمام بوابة الدسمي باتجاه الصف. وقامت فرق الإسعاف بمعاينة المصابين ميدانيا، قبل نقلهم إلى المستشفى لتلقي الرعاية الطبية اللازمة، فيما تتراوح الإصابات بين كسور وجروح سطحية لم تؤثر على حياة المصابين بشكل خطير.

باشرت إدارة المرور تأمين مكان الحادث ومنعت تجمع المركبات على الطريق لضمان انسيابية الحركة المرورية، بينما قام رجال المرور بتنظيم السير وتوجيه السيارات بعيدا عن موقع الانقلاب.

حررت الجهات الأمنية محضرا بالواقعة لتوثيق الحادث واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، كما تم رفع التروسيكل المتضرر من الطريق لتجنب أي مخاطر إضافية قد تنجم عن بقائه في مسار الحركة.

تابعت فرق المرور والأمن الإجراءات الوقائية على الطريق الزراعي لحين الانتهاء من إزالة آثار الحادث، مع التأكيد على ضرورة توخي السائقين الحذر أثناء القيادة، خصوصا على الطرق الزراعية التي تشهد كثافة مرور للمركبات الصغيرة والثقيلة على حد سواء.

وأكدت مصادر طبية أن حالة المصابين مستقرة بعد تلقيهم الإسعافات الأولية، وأن المستشفى يقوم بمتابعة حالتهم الصحية للتأكد من عدم وجود مضاعفات.

كما دعت الإدارة العامة للمرور المواطنين إلى الالتزام بقواعد المرور، والقيادة بسرعة مناسبة على الطرق الزراعية لتفادي الحوادث المفاجئة.

نجاة أولاد شقيقة الفنان مصطفى بسيط من حادث أتوبيس مدرسي بلا إصابات الحريق المأساوي في برادفورد يؤدي لمقتل امرأة وأطفالها إطلاق نار على قوات حفظ السلام اللبنانية يثير توترا عند الخط الأزرق سقط من السماء على الأرض .. مأساة شاب تهز قرية سلامون بسوهاج مأساة صعقة كهربائية تهز كركوك وفاة امرأة وإصابة عامل وسط المدينة اليوم بلاغ رسمي يسلط الضوء على اتهامات التحريض في قضية الفنان سعيد مختار سقوط مأساوي من الطابق السادس أمام الجامعة الأمريكية يروع التجمع النيابة العامة المغربية تعلن تفاصيل فاجعة فاس.. مقتل 22 شخصا بانهيار بنايتين رعب على الطريق: تصادم ربع نقل وكارو يودي بإصابة ثلاثة أشخاص مصرع سبعيني في حادث دراجة نارية مروع بأركمان المغرب

مقالات مشابهة

  • باراك يتحدث عن علاقة إسرائيل بجيرانها ويرجح قرب الاتفاق مع سوريا
  • بري: تصريحات باراك بضم لبنان إلى سوريا “غلطة كبيرة”
  • حنان يوسف تنضم إلى مسلسل أب ولكن .. رمضان 2026
  • إصابة لبناني بإنفجار لغم ارضي عند الحدود السورية - اللبنانية
  • المرصد السوري: إنفلات أمني يهدد المدنيين ويُنذر بمزيد من الفوضى في اللاذقية
  • الأضخم في تاريخ أمريكا .. إقرار مشروع قانون دفاعي بقيمة 900 مليار دولار
  • الانتقالي الجنوبي: خطواتنا العسكرية هدفها حماية الأمن القومي واستقرار المحافظات
  • من الفوضى إلى الهيكلة: الطريق إلى تنظيم العمل السياسي
  • انقلاب تروسيكل في الصف يصيب 9 عمال ويشعل الفوضى المرورية
  • انتهاكات مستمرة.. قوات الاحتلال تتوغل في الجنوب السوري وتعتقل شابا