تحليل نقدي لمبررات مسار تونس ما بعد 2021

مقدمة: تفكيك سردية "التصحيح"

في قلب الجدل الدائر حول مستقبل تونس، يبرز مقال نوفل سعيد، شقيق الرئيس قيس سعيد وأحد أبرز الفاعلين في دائرته السياسية، كنص "تأسيسي" يقدّم المبررات الفكرية والإيديولوجية للقطيعة السياسية التي حدثت في 25 جويلية 2021. يطرح المقال سردية مفادها أن المسار الديمقراطي الذي اتبعته تونس لعقد من الزمن قد وصل إلى طريق مسدود، وأفرز نخبة  سياسية فاسدة وغير فعالة، وأن تدخلاً "تصحيحياً"   كان ضرورياً لاستعادة هيبة الدولة وتحقيق "الإرادة الحقيقية للشعب".



لا يمكن قراءة هذا الطرح بمعزل عن موقع كاتبه، الذي لا يقتصر دوره على كونه قريباً للرئيس، بل يتجاوزه ليجسد دور القريب المتنفّذ في الحكم، في تسويق سخيف، لدور "المثقف العضوي" ؛ أي تلك الشخصيةالفكرية التي لا تنبثق من طبقة إجتماعية وإنما من بنية سلطة جديدة وتعمل على صياغة خطابها وتوفير الشرعية الهيمنية لها. إنتأثير نوفل سعيد ليس مجرد تأثير عائلي أو فكري، بل هو تأثير هيكلي يتجلى في دوره المحوري في تعيينات سياسية رئيسية، مثل تعيين أحمد الحشاني رئيساً للحكومة، واستمرار نفوذه في كواليس قصر قرطاج. خلفيته كأستاذ للقانون الدستوري، إلى جانب نشاطه السياسي وعلاقاته مع شخصيات من مختلف الأطياف السياسية، تشير إلى جهد استراتيجي للشقيق لبناء إجماع جديد حول مشروع شقيقه.

تتمثل الأطروحة المركزية لهذا المناقشة في أن هذه السردية الرسمية تقدم تشخيصاً مغلوطاً ومتعمداً للأزمة التي كانت تعيشها تونس قبل 25 جويلية. فهي تخلط بشكل منهجي بين إخفاقات طبقة سياسية محددة، وإخفاق النظام الديمقراطي نفسه. هذا التشخيص المغلوط لم يكن سوى ذريعة لتبرير الإنقلاب على الديمقراطية والدستور والمؤسسات الشرعية ومن ذلك تفكيك المؤسسات وتركيز السلطات، وهو "الحل" الذي أدى، كما سيوضح هذا التحليل بالأدلة والبيانات، إلى تفاقم الأزمات التي ادعى أنه جاء لمعالجتها.

القسم الأول ـ تشريح الأزمة العضوية ـ تونس قبل 25 تموز / يوليو 2021

لفهم السياق الذي أدى إلى نكسة 25 تموز / يوليو، من الضروري تحليل الفترة الممتدة من 2011 إلى 2021 من خلال منظور "الأزمة العضوية" لغرامشي الذي يبدو أنه حبيب لنوفل سعيد.  لقد تميزت هذه الفترة بـ"أزمة سلطة"، حيث فقدت الطبقة السياسية الحاكمة، وخاصة الأحزاب الممثلة في البرلمان، الكثير من رضا وقبول قطاعات واسعة من الشعب، مما خلق فراغاً في الشرعية وشعوراً متزايدا بالإحباط. لقد  وُجدتبالفعل أسباب موضوعية لهذا السخط الشعبي؛ فرغم تحقق بعض المكاسب على مستوى التشغيل والرفع من الأجور إلا أن الأداء الاقتصادي كان ضعيفاً، مع معدلات نمو متواضعة لم تكن كافية لمعالجة البطالة المتفشية، وتراكم الدين العام الذي أصبح عبئاً متزايداً على موارد الدولة.

كما أن حالة عدم الاستقرار السياسي  وتعاقب الحكومات الائتلافية الهشة أعاق تنفيذ الإصلاحات الهيكلية الضرورية. لكن على الرغم من هذه التحديات العميقة، كانت تونس تمثل استثناءً ديمقراطياً بارزاً في المشهد العربي. ففي سنوات 2018، و2019، و2020، صُنفت تونس باستمرار على أنها الدولة الأكثر ديمقراطية في العالم العربي، ورغم تصنيفها كـ"ديمقراطية معيبة" أو "نظام هجين" في بعض الأحيان، إلا أنها كانت تتقدم بفارق كبير عن نظيراتها في المنطقة. هذا التصنيف يعود لوجود عمليات انتخابية تعددية، وحريات مدنية، ومجتمع مدني نشط، وصحافة حرة كانت تلعب دور الرقيب على السلطة حدّ الترذيل.

يكمن الخلل المنطقي في سردية نظام قيس سعيد في الخلط المتعمَّد بين أداء الفاعلين السياسيين وطبيعة النظام السياسي نفسه فالأزمة لم تكن أزمة ديمقراطية، بل أزمة أداء سياسي داخل إطار ديمقراطي. حيث فشلت النخب السياسية في استخدام الأدوات التي وفرتها الديمقراطية (الانتخابات، المساءلة البرلمانية، النقاش العام) لتحقيق حوكمة فعالة تلبي تطلعات المواطنين. وبالتالي، فإن "التصحيح" الذي تم في 25 جويلة لم يكن حلاً للمشكلة الحقيقية (سوء الحوكمة وضعف الأداء)، بل كان هجوماً على النظام الذي سمح بكشف هذه المشكلة ومناقشتها ومحاسبة المسؤولين وتوفير فرص للتداول على السلطة. لقد كانت خطوة لإلغاء المساءلة السياسية تحت ستار استعادة سلطة الدولة التي تبيّن في المحصّلة أنها ليست إلاّ سلطة الفرد .

القسم الثاني: "العلاج" أسوأ من المرض: تقييم متعدد الأوجه لتونس ما بعد 25 تموز / يوليو

يقدم هذا القسم تحليلاً مقارناً ومبنياً على البيانات، يوضح أن المسار الذي اتبعته تونس بعد  إنقلاب 25 جويلة 2021 لم يؤدِ فقط إلى تراجع سياسي وحقوقي، بل فاقم أيضاً التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مما يثبت أن "العلاج" المقترح كان في الواقع أشدّ ضرراً من العطب الأصلي.

أولا ـ الإنحدار السياسي والمدني : تفكيك الجمهورية:

شهدت السنوات التي تلت 25 جويلة 2021 تفكيكاً  منهجياً للمؤسسات التي شكّلت ركائز الديمقراطية الناشئة في تونس. بدأت العملية بتجميد ثم حل البرلمان الشرعي المنتخب، وتواصلت باستبدال الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بهيئة معينة من قبل الرئيس، وبلغت ذروتها بحل المجلس الأعلى للقضاء، وهو ما وجه ضربة قاصمة لاستقلالية السلطة القضائية. هذا التراجع لم يكن مجرد تصور سياسي، بل هو حقيقة موثقة بالأرقام في المؤشرات الدولية، كما يوضح الجدول التالي.



المرتبة 118 (تراجع 24 مرتبة عن 2022)
المصادر:. ملاحظة: بعض البيانات قد لا تكون متوفرة لكل السنوات في المصادر المتاحة.

يظهر الجدول بوضوح كيف تحولت تونس من كونها "ديمقراطية معيبة" تتصدر العالم العربي إلى "نظام هجين" يتراجع بشكل مطّرد في التصنيفات العالمية. كما أن التدهور الحاد في مؤشر حرية الصحافة يعكس مناخ التضييق على الإعلام واستخدام قوانين زجرية،
مثل المرسوم 54، لملاحقة الصحفيين وإسكات الأصوات الناقدة..

ثانيا ـ  الأداء الاقتصادي ومفارقة السيادة

كان الوعد الضمني لمسار 25 جويلية تحقيق الإستقرار والإزدهار الإقتصادي مقابل التنازل عن بعض الحريات السياسية. إلا أن البيانات الإقتصادية تظهر أن هذا الوعد لم يتحقق، بل إن الوضع الإقتصادي إستمر في التدهور حد الإنهيار، وكشف عن مفارقة عميقة بين خطاب السيادة المعلن والواقع الاقتصادي المعتمد على الخارج.

جدول 2 : المؤشرات الاقتصادية الكلية – مقارنة بين مرحلتي ما قبل وما بعد 25 يوليو (2018-2024)



المصادر:. البيانات مجمعة من مصادر متعددة وقد تختلف قليلاً. أرقام 2020 متأثرة بشدة بجائحة كوفيد-19.

تكشف الأرقام عن واقع اقتصادي صعب. فبعد الإنتعاش الطفيف في 2021 و2022 من صدمة الجائحة، عاد النمو إلى التباطئ الشديد في 2023. والأخطر من ذلك هو أن معدلات التضخم ارتفعت إلى مستويات قياسية بعد 2021، مما أدّى إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين بشكل حاد. وفيما يتعلق بالدين العام، فإنه لم يتراجع بل إستمر في مستوياته المرتفعة، مما يبقي البلاد تحت ضغط مالي هائل وخطير . هنا تبرز مفارقة السيادة. لقد تم تسويق رفض اتفاقية صندوق النقد الدولي على أنه إنتصار للسيادة الوطنية ورفض لـ"الإملاءات" الأجنبية. لكن هذا القرار لم يؤدِ إلى الاستقلال الاقتصادي، بل دفع تونس إلى شكل آخر من التبعية، أكثر غموضاً وربما أكثر تكبيلًا للسيادة. ففي غياب تمويلات الصندوق الشفافة والمشروطة بإصلاحات فنية، اضطرت الدولة إلى الإعتماد بشكل مفرط على الإقتراض الداخلي من البنوك المحلية، مما أدّى إلى مزاحمة القطاع الخاص وخلق ضغط على السيولة ،واللجوء إلى قروض ثنائية من دول مثل الجزائر، والدخول في اتفاقيات مثيرة للجدل مع الإتحاد الأوروبي حول الهجرة مقابل مساعدات مالية بخسة، وهو ما يحوّل تونس فعلياً إلى حارس للحدود الأوروبية، في تناقض صارخ مع خطاب السيادة. حيث  تم استبدال "تبعية" شفافة وقائمة على قواعد فنية، وإن كانت مؤلمة، بتبعية غامضة مبنية على ولاءات سياسية ومقايضات تكتيكية في ظل دولة فاشلة وإقتصاد يتهاوى..

ثالثا ـ التفكك الاجتماعي وتآكل رأس المال البشري

كان للأزمة السياسية والإقتصادية المتفاقمة تداعيات إجتماعية وخيمة، تمثلت في تسارع نزيف الكفاءات وتدهور الخدمات العامة وانتشار مناخ من الخوف.

إن المسار الذي تسلكه تونس ليس فريداً من نوعه، بل هو يكرر أنماطاً تاريخية موثقة لتجارب حكم فردي انتهت إلى كوارث وطنية. إن وضع التجربة التونسية في هذا السياق التاريخي المقارن يكشف عن المخاطر الجسيمة الماثلة أمامها..ـ هجرة الأدمغة: أصبح هروب الكفاءات ظاهرة مقلقة تهدد مستقبل البلاد حيث تشير الإحصاءات إلى أن حوالي 39 ألف مهندس من أصل 90 ألف مسجلين في الهيئة قد غادروا البلاد، بمعدل 20 مهندساً يومياً، مدفوعين بضعف الأجور (راتب مهندس مبتدئ قد لا يتجاوز 300 يورو) وغياب آفاق التطور المهني. وينطبق الأمر نفسه على الأطباء والكوادر الجامعية، مما يفرغ البلاد من أهم مواردها، رأس مالها البشري.

ـ تدهور الخدمات العامة: يعاني المواطنون من تراجع حادّ في جودة الخدمات الأساسية، لاسيما في قطاعات الصحة والتعليم والنقل. تشير التقارير إلى نقص الإستثمار في الصحة العامة، وتدهور البنية التحتية للمستشفيات، ونقص الأدوية والمعدّات، مما يعمق الفوارق بين الجهات ويدفع من يستطيع إلى القطاع الخاص المُكلف ويحرم الضعيف من حقه في الصحّة.

ـ مناخ الخوف: وثقت منظمات حقوقية دولية ومحلية، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية حملة قمع ممنهجة ضد المعارضة والمجتمع المدني، شملت هذه الحملة إعتقالات تعسفية لعشرات السياسيين والمحامين والصحفيين والنشطاء بتهم فضفاضة فاقدة لأدنى الأدلة مثل "التآمر على أمن الدولة". وقد أدت هذه الممارسات، المقترنة بخطاب رسمي يخوّن المعارضين، إلى خلق "مناخ من الخوف" والرقابة الذاتية، مما قضى على مساحة النقاش العام التي كانت من أبرز مكاسب ثورة 2011.

القسم الثالث ـ بنية الرؤية المعطوبة: نقد بدائل النظام

في مواجهة فشل النموذج الديمقراطي السابق، قدّم نظام قيس سعيد مجموعة من البدائل التي تم تسويقها على أنها حلول جذرية لمشاكل تونس الهيكلية. لكن التدقيق في هذه البدائل يكشف عن رؤية شعبوية تفتقر إلى الجدوى الاقتصادية وتستخدم أدوات الدولة لأغراض سياسوية..

الشركات الأهلية كحل سحري : تم تقديم "الشركات الأهلية" كحجر الزاوية في النموذج الاقتصادي الجديد، وهي مبادرة تهدف إلى تمكين المجتمعات المحلية من خلق الثروة. ومع ذلك، تُظهر البيانات فجوة هائلة بين الخطاب والواقع. فبينما تم تأسيس أكثر من 100 شركة أهلية قانونياً حتى أواخر عام 2024، لم يبدأ سوى عدد قليل جداً منها (حوالي 15 شركة) نشاطه الفعلي بعد الحصول على تمويل. يرى المحللون أن هذه الشركات، بحكم هيكلتها وحجمها، تفتقر إلى القدرة التنافسية والإستدامة، ولا يمكن أن تشكل بديلاً حقيقياً لنموذج تنموي متكامل، بل هي أقرب إلى أداة لكسب الولاءات المحلية وتوزيع الريع على نطاق ضيق..

ـ "الحرب على الفساد" كسلاح سياسي : شكلت مكافحة الفساد والريع شعاراً مركزياً لمسار 25 جويلية. ورغم أن الفساد يمثل بالفعل معضلة حقيقية في تونس، إلا أن الحملة التي شنتها السلطة اتّسمت بالإنتقائية وغياب الشفافية والإجراءات القانونية السليمة. إن إستهداف شخصيات سياسية ورجال أعمال غير موالين، بتهم فساد دون محاكمات عادلة يشير إلى أن الهدف الأساسي من هذه "الحرب" ليس إرساء سيادة القانون، بل هو تصفية الخصوم السياسيين وترهيب دوائر المال والأعمال لضمان ولائها القسري .

ـ السلطوية الآكلة لذاتها (Cannibal Authoritarianism): يمكن استعارة مفهوم "الرأسمالية الآكلة للحوم البشر" (Cannibal Capitalism) للمنظرّة النقدية نانسي فريزر التي يستشهد بها شقيق الرئيس نوفل سعيد لوصف طبيعة النظام الحالي. فريزر ترى أن الرأسمالية تلتهم بشكل منهجي الأسس غير الاقتصادية التي تحتاجها للبقاء (الأسرة، الطبيعة، وظائف الدولة). بالقياس، يمكن القول إن نظام قيس سعيد يمارس "سلطوية آكلة لذاتها". فهو، من أجل تأمين بقائه وتكريس السلطة الفردية، يلتهم بشكل منهجي المؤسسات والهياكل التي تشكل الدولة الحديثة. إنه يلتهم استقلالية القضاء لملاحقة معارضيه، ويلتهم الشرعية البرلمانية ليحكم بالمراسيم، ويلتهم المحكمة الدستورية ليبقى حاكما مطلقا بلا رقيب وبلا بديل دستوري، ويلتهم الثقة المجتمعية والمجتمع المدني للقضاء على أي صوت معارض، ويلتهم الإمكانات الاقتصادية للبلاد عبر سياسات معزولة وعدائية تجاه الشركاء والمستثمرين ليسد الفجوة المالية التي أدت إليها خياراته الفاشلة . هذه العملية ليست بناءً للدولة كما تدّعي السردية الرسمية، بل هي إستهلاك للدولة، مما يؤدي على المدى المتوسط إلى دولة أضعف وأكثر هشاشة، غير قادرة على أداء وظائفها الأساسية، حتى وإن بدت سلطة الرئيس مطلقة في الظاهر..

القسم الرابع ـ أصداء الماضي.. تونس في مرآة السلطويات الفاشلة

إن المسار الذي تسلكه تونس ليس فريداً من نوعه، بل هو يكرر أنماطاً تاريخية موثقة لتجارب حكم فردي انتهت إلى كوارث وطنية. إن وضع التجربة التونسية في هذا السياق التاريخي المقارن يكشف عن المخاطر الجسيمة الماثلة أمامها..

المسار الشعبوي نحو الخراب.. فنزويلا تحت حكم هوغو تشافيز

توجد أوجه تشابه مقلقة بين تجربة تشافيز في فنزويلا ومسار قيس سعيد في تونس. كلاهما وصل إلى السلطة كشخصية من خارج المنظومة السياسية التقليدية، مستفيداً من السخط الشعبي العارم تجاه طبقة سياسية متهمة بالفساد والفشل. كلاهما تبنى خطاباً سيادياً قويّاً مناهضاً لـ"الإمبريالية" و"الخونة" في الداخل، وعمل بشكل منهجي على تفكيك المؤسسات الديمقراطية القائمة (البرلمان، القضاء) وتركيز السلطات في يديه باسم تأسيس "جمهورية جديدة" تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية.

توجد أوجه تشابه مقلقة بين تجربة تشافيز في فنزويلا ومسار قيس سعيد في تونس. كلاهما وصل إلى السلطة كشخصية من خارج المنظومة السياسية التقليدية، مستفيداً من السخط الشعبي العارم تجاه طبقة سياسية متهمة بالفساد والفشل. كلاهما تبنى خطاباً سيادياً قويّاً مناهضاً لـ"الإمبريالية" و"الخونة" في الداخل، وعمل بشكل منهجي على تفكيك المؤسسات الديمقراطية القائمة (البرلمان، القضاء) وتركيز السلطات في يديه باسم تأسيس "جمهورية جديدة" تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية. الدرس الفنزويلي قاس وواضح : السياسات الشعبوية التي تهدف إلى إعادة توزيع الثروة (في حالة فنزويلا من عائدات النفط، وفي حالة تونس من خلال الإقتراض ومحاربة الريع)، عندما تقترن بتدمير المؤسسات الرقابية والتشريعية، تؤدي حتماً إلى كارثة اقتصادية. ففي غياب الشفافية والمساءلة، تحوّل الإقتصاد الفنزويلي إلى اقتصاد ريعي فاسد، مما أدّى إلى انهيار الإنتاج، وتضخم جامح، ونقص حاد في السلع الأساسية، وأزمة إنسانية هائلة دفعت الملايين إلى الهجرة.

الديكتاتورية النيوليبرالية.. المجلس العسكري في الأرجنتين (1976-1983)

على الرغم من اختلافها الإيديولوجي، تقدّم تجربة الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين دروساً مهمة حول العلاقة بين القمع السياسي والفشل الاقتصادي.  إذ قام المجلس العسكري، تماماً كما يفعل نظام سعيد، بقمع كافة أشكال المعارضة، وخاصة النقابات العمالية، من أجل فرض رؤيته الاقتصادية بالقوة. كانت النتيجة كارثية، سياسات الانفتاح الاقتصادي غير المدروس، والإقتراض الخارجي المفرط لتمويل المشاريع والمضاربات المالية، وتفكيك القطاع الصناعي المحلي، أدت إلى أزمة ديون خانقة، وتضخم مفرط، وارتفاع هائل في معدلات الفقر من 5.8\% عام 1974 إلى 37\% عام 1982. تُظهر التجربة الأرجنتينية أن السلطة التنفيذية المطلقة، عندما تنفذ سياسات اقتصادية جذرية دون أي نقاش مجتمعي أو آليات للمساءلة والتصويب، تقود البلاد حتماً إلى الانهيار.

خاتمة: انهيار الصفقة السلطوية

يكشف التحليل المفصل القائم على البيانات والأدلّة أن المبررات التي سيقت لمسار 25 تموز / يوليو، كما عبر عنها شقيق الرئيس نوفل سعيد وغيره من منظري النظام، قد تم دحضها بالكامل على أرض الواقع بعد اربع سنوات من الحكم الفردي المطلق . لقد فشلت "الصفقة السلطوية" الضمنية التي عرضت على التونسيين ـ التخلي عن الحرية مقابل الإستقرار والرخاء ـ فشلاً ذريعاً. فالواقع اليوم هو تراجع في الحريات مصحوب بتدهور متزامن في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية..

إن الإخفاق الجوهري لنموذج ما بعد 2021 يكمن في عدائه المنهجي للمؤسسات. فمن خلال تفكيك
المؤسسات السياسية والقضائية والمدنية، دمّر النظام الآليات الضرورية لصناعة سياسات رشيدة، وتصويب الأخطاء، وبناء الثقة المجتمعية الواسعة التي لا غنى عنها لتنفيذ أي إصلاحات اقتصادية مؤلمة.

إن الطريق الوحيد القابل للحياة للمضي قدماً في تونس لا يكمن في البحث عن "رجل قوي" آخر أو نموذج اقتصادي سحري، بل في إعادة بناء مسار ديمقراطي تشاركي ومؤسسي. هذا ليس خيار إيديولوجي، بل هو ضرورة عملية لخلق بيئة من الإستقرار والشفافية والمساءلة والتوافق الاجتماعي والمبادرة والثقة في السوق، وهي الشروط الأساسية التي لا يمكن بدونها مواجهة الأزمات العميقة والمتشعبة التي تعصف بالبلاد.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء تونس الاقتصادي اقتصاد تونس سياسة رأي توجهات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بشکل منهجی قیس سعید فی تونس ما بعد إلا أن

إقرأ أيضاً:

رسمياً.. أهلي جدة يعلن ثالث صفقاته الصيفية

واصل نادي أهلي جدة تعزيز صفوفه خلال سوق الانتقالات الصيفية استعداداً لانطلاقة الموسم الكروي الجديد، حيث أعلن اليوم الخميس عن ثالث صفقاته الرسمية، بالتعاقد مع الجناح الشاب صالح أبو الشامات قادماً من نادي الخليج بعقد يمتد لثلاث سنوات.

النادي السعودي كشف عن الصفقة عبر فيديو نشره الحساب الرسمي على منصة "إكس"، تحت عنوان: "ما الحب إلا للحبيب الأول"، في إشارة إلى أن اللاعب صاحب الـ22 عاماً بدأ مسيرته الكروية داخل قطاع الناشئين بالأهلي قبل أن يخوض تجارب احترافية مع أندية القادسية والتعاون ثم الخليج.

ويعد أبو الشامات من المواهب الواعدة في الكرة السعودية، حيث يمتاز بقدرته على شغل جميع مراكز الخط الأمامي، خصوصاً على الأطراف كجناح أيمن وأيسر، ما يمنح الجهاز الفني خيارات هجومية متنوعة خلال الموسم المقبل.

وخلال الموسم الماضي، خاض أبو الشامات 31 مباراة مع الخليج في مختلف البطولات، سجل خلالها هدفاً وصنع 6 أهداف، في مؤشر على تطوره الهجومي وقدرته على صناعة الفارق في المباريات.

وكان الأهلي قد استهل تعاقداته هذا الصيف بضم عبد الإله الخيبري من نادي الرياض، ثم تبعه بالتعاقد مع محمد عبد الرحمن من الاتفاق، ليصبح أبو الشامات الصفقة الثالثة ضمن خطة "الراقي" لتدعيم الصفوف وتكوين فريق قادر على المنافسة بقوة على الألقاب المحلية والقارية في الموسم المقبل.

طباعة شارك نادي أهلي جدة أهلي جدة سوق الانتقالات الصيفية صالح أبو الشامات

مقالات مشابهة

  • اتحاد العاصمة يلتحق بالأندية الجزائرية في تونس
  • لانس الفرنسي يضم سعود عبد الحميد.. تعرّف إلى تفاصيل الصفقة
  • مسرح الصوت والضوء في جرش يستضيف شخصية الشيخ خالد العيطان في بانوراما رجالات جرش
  • سيميوني يجد «الجوهرة الضائعة» بعد 5 سنوات!
  • العيسوي: الملك جعل من الأردن نموذجا في الحداثة والعدالة والثبات على المواقف
  • مختص: فكرة تطبيق الاقتصاد الدائري انطلقت من المملكة نموذجا عالميا رائدا
  • محافظ بورسعيد: شباب مصر سيظلون نموذجاً فى الإنتماء والوطنية
  • رسمياً.. أهلي جدة يعلن ثالث صفقاته الصيفية
  • الفزعة البدوية والحق في المشاركة السياسية