مغالطة الصفقة السلطوية في تونس.. مقال نوفل سعيد نموذجا
تاريخ النشر: 4th, August 2025 GMT
تحليل نقدي لمبررات مسار تونس ما بعد 2021
مقدمة: تفكيك سردية "التصحيح"
في قلب الجدل الدائر حول مستقبل تونس، يبرز مقال نوفل سعيد، شقيق الرئيس قيس سعيد وأحد أبرز الفاعلين في دائرته السياسية، كنص "تأسيسي" يقدّم المبررات الفكرية والإيديولوجية للقطيعة السياسية التي حدثت في 25 جويلية 2021. يطرح المقال سردية مفادها أن المسار الديمقراطي الذي اتبعته تونس لعقد من الزمن قد وصل إلى طريق مسدود، وأفرز نخبة سياسية فاسدة وغير فعالة، وأن تدخلاً "تصحيحياً" كان ضرورياً لاستعادة هيبة الدولة وتحقيق "الإرادة الحقيقية للشعب".
لا يمكن قراءة هذا الطرح بمعزل عن موقع كاتبه، الذي لا يقتصر دوره على كونه قريباً للرئيس، بل يتجاوزه ليجسد دور القريب المتنفّذ في الحكم، في تسويق سخيف، لدور "المثقف العضوي" ؛ أي تلك الشخصيةالفكرية التي لا تنبثق من طبقة إجتماعية وإنما من بنية سلطة جديدة وتعمل على صياغة خطابها وتوفير الشرعية الهيمنية لها. إنتأثير نوفل سعيد ليس مجرد تأثير عائلي أو فكري، بل هو تأثير هيكلي يتجلى في دوره المحوري في تعيينات سياسية رئيسية، مثل تعيين أحمد الحشاني رئيساً للحكومة، واستمرار نفوذه في كواليس قصر قرطاج. خلفيته كأستاذ للقانون الدستوري، إلى جانب نشاطه السياسي وعلاقاته مع شخصيات من مختلف الأطياف السياسية، تشير إلى جهد استراتيجي للشقيق لبناء إجماع جديد حول مشروع شقيقه.
تتمثل الأطروحة المركزية لهذا المناقشة في أن هذه السردية الرسمية تقدم تشخيصاً مغلوطاً ومتعمداً للأزمة التي كانت تعيشها تونس قبل 25 جويلية. فهي تخلط بشكل منهجي بين إخفاقات طبقة سياسية محددة، وإخفاق النظام الديمقراطي نفسه. هذا التشخيص المغلوط لم يكن سوى ذريعة لتبرير الإنقلاب على الديمقراطية والدستور والمؤسسات الشرعية ومن ذلك تفكيك المؤسسات وتركيز السلطات، وهو "الحل" الذي أدى، كما سيوضح هذا التحليل بالأدلة والبيانات، إلى تفاقم الأزمات التي ادعى أنه جاء لمعالجتها.
القسم الأول ـ تشريح الأزمة العضوية ـ تونس قبل 25 تموز / يوليو 2021
لفهم السياق الذي أدى إلى نكسة 25 تموز / يوليو، من الضروري تحليل الفترة الممتدة من 2011 إلى 2021 من خلال منظور "الأزمة العضوية" لغرامشي الذي يبدو أنه حبيب لنوفل سعيد. لقد تميزت هذه الفترة بـ"أزمة سلطة"، حيث فقدت الطبقة السياسية الحاكمة، وخاصة الأحزاب الممثلة في البرلمان، الكثير من رضا وقبول قطاعات واسعة من الشعب، مما خلق فراغاً في الشرعية وشعوراً متزايدا بالإحباط. لقد وُجدتبالفعل أسباب موضوعية لهذا السخط الشعبي؛ فرغم تحقق بعض المكاسب على مستوى التشغيل والرفع من الأجور إلا أن الأداء الاقتصادي كان ضعيفاً، مع معدلات نمو متواضعة لم تكن كافية لمعالجة البطالة المتفشية، وتراكم الدين العام الذي أصبح عبئاً متزايداً على موارد الدولة.
كما أن حالة عدم الاستقرار السياسي وتعاقب الحكومات الائتلافية الهشة أعاق تنفيذ الإصلاحات الهيكلية الضرورية. لكن على الرغم من هذه التحديات العميقة، كانت تونس تمثل استثناءً ديمقراطياً بارزاً في المشهد العربي. ففي سنوات 2018، و2019، و2020، صُنفت تونس باستمرار على أنها الدولة الأكثر ديمقراطية في العالم العربي، ورغم تصنيفها كـ"ديمقراطية معيبة" أو "نظام هجين" في بعض الأحيان، إلا أنها كانت تتقدم بفارق كبير عن نظيراتها في المنطقة. هذا التصنيف يعود لوجود عمليات انتخابية تعددية، وحريات مدنية، ومجتمع مدني نشط، وصحافة حرة كانت تلعب دور الرقيب على السلطة حدّ الترذيل.
يكمن الخلل المنطقي في سردية نظام قيس سعيد في الخلط المتعمَّد بين أداء الفاعلين السياسيين وطبيعة النظام السياسي نفسه فالأزمة لم تكن أزمة ديمقراطية، بل أزمة أداء سياسي داخل إطار ديمقراطي. حيث فشلت النخب السياسية في استخدام الأدوات التي وفرتها الديمقراطية (الانتخابات، المساءلة البرلمانية، النقاش العام) لتحقيق حوكمة فعالة تلبي تطلعات المواطنين. وبالتالي، فإن "التصحيح" الذي تم في 25 جويلة لم يكن حلاً للمشكلة الحقيقية (سوء الحوكمة وضعف الأداء)، بل كان هجوماً على النظام الذي سمح بكشف هذه المشكلة ومناقشتها ومحاسبة المسؤولين وتوفير فرص للتداول على السلطة. لقد كانت خطوة لإلغاء المساءلة السياسية تحت ستار استعادة سلطة الدولة التي تبيّن في المحصّلة أنها ليست إلاّ سلطة الفرد .
القسم الثاني: "العلاج" أسوأ من المرض: تقييم متعدد الأوجه لتونس ما بعد 25 تموز / يوليو
يقدم هذا القسم تحليلاً مقارناً ومبنياً على البيانات، يوضح أن المسار الذي اتبعته تونس بعد إنقلاب 25 جويلة 2021 لم يؤدِ فقط إلى تراجع سياسي وحقوقي، بل فاقم أيضاً التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مما يثبت أن "العلاج" المقترح كان في الواقع أشدّ ضرراً من العطب الأصلي.
أولا ـ الإنحدار السياسي والمدني : تفكيك الجمهورية:
شهدت السنوات التي تلت 25 جويلة 2021 تفكيكاً منهجياً للمؤسسات التي شكّلت ركائز الديمقراطية الناشئة في تونس. بدأت العملية بتجميد ثم حل البرلمان الشرعي المنتخب، وتواصلت باستبدال الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بهيئة معينة من قبل الرئيس، وبلغت ذروتها بحل المجلس الأعلى للقضاء، وهو ما وجه ضربة قاصمة لاستقلالية السلطة القضائية. هذا التراجع لم يكن مجرد تصور سياسي، بل هو حقيقة موثقة بالأرقام في المؤشرات الدولية، كما يوضح الجدول التالي.
المرتبة 118 (تراجع 24 مرتبة عن 2022)
المصادر:. ملاحظة: بعض البيانات قد لا تكون متوفرة لكل السنوات في المصادر المتاحة.
يظهر الجدول بوضوح كيف تحولت تونس من كونها "ديمقراطية معيبة" تتصدر العالم العربي إلى "نظام هجين" يتراجع بشكل مطّرد في التصنيفات العالمية. كما أن التدهور الحاد في مؤشر حرية الصحافة يعكس مناخ التضييق على الإعلام واستخدام قوانين زجرية،
مثل المرسوم 54، لملاحقة الصحفيين وإسكات الأصوات الناقدة..
ثانيا ـ الأداء الاقتصادي ومفارقة السيادة
كان الوعد الضمني لمسار 25 جويلية تحقيق الإستقرار والإزدهار الإقتصادي مقابل التنازل عن بعض الحريات السياسية. إلا أن البيانات الإقتصادية تظهر أن هذا الوعد لم يتحقق، بل إن الوضع الإقتصادي إستمر في التدهور حد الإنهيار، وكشف عن مفارقة عميقة بين خطاب السيادة المعلن والواقع الاقتصادي المعتمد على الخارج.
جدول 2 : المؤشرات الاقتصادية الكلية – مقارنة بين مرحلتي ما قبل وما بعد 25 يوليو (2018-2024)
المصادر:. البيانات مجمعة من مصادر متعددة وقد تختلف قليلاً. أرقام 2020 متأثرة بشدة بجائحة كوفيد-19.
تكشف الأرقام عن واقع اقتصادي صعب. فبعد الإنتعاش الطفيف في 2021 و2022 من صدمة الجائحة، عاد النمو إلى التباطئ الشديد في 2023. والأخطر من ذلك هو أن معدلات التضخم ارتفعت إلى مستويات قياسية بعد 2021، مما أدّى إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين بشكل حاد. وفيما يتعلق بالدين العام، فإنه لم يتراجع بل إستمر في مستوياته المرتفعة، مما يبقي البلاد تحت ضغط مالي هائل وخطير . هنا تبرز مفارقة السيادة. لقد تم تسويق رفض اتفاقية صندوق النقد الدولي على أنه إنتصار للسيادة الوطنية ورفض لـ"الإملاءات" الأجنبية. لكن هذا القرار لم يؤدِ إلى الاستقلال الاقتصادي، بل دفع تونس إلى شكل آخر من التبعية، أكثر غموضاً وربما أكثر تكبيلًا للسيادة. ففي غياب تمويلات الصندوق الشفافة والمشروطة بإصلاحات فنية، اضطرت الدولة إلى الإعتماد بشكل مفرط على الإقتراض الداخلي من البنوك المحلية، مما أدّى إلى مزاحمة القطاع الخاص وخلق ضغط على السيولة ،واللجوء إلى قروض ثنائية من دول مثل الجزائر، والدخول في اتفاقيات مثيرة للجدل مع الإتحاد الأوروبي حول الهجرة مقابل مساعدات مالية بخسة، وهو ما يحوّل تونس فعلياً إلى حارس للحدود الأوروبية، في تناقض صارخ مع خطاب السيادة. حيث تم استبدال "تبعية" شفافة وقائمة على قواعد فنية، وإن كانت مؤلمة، بتبعية غامضة مبنية على ولاءات سياسية ومقايضات تكتيكية في ظل دولة فاشلة وإقتصاد يتهاوى..
ثالثا ـ التفكك الاجتماعي وتآكل رأس المال البشري
كان للأزمة السياسية والإقتصادية المتفاقمة تداعيات إجتماعية وخيمة، تمثلت في تسارع نزيف الكفاءات وتدهور الخدمات العامة وانتشار مناخ من الخوف.
إن المسار الذي تسلكه تونس ليس فريداً من نوعه، بل هو يكرر أنماطاً تاريخية موثقة لتجارب حكم فردي انتهت إلى كوارث وطنية. إن وضع التجربة التونسية في هذا السياق التاريخي المقارن يكشف عن المخاطر الجسيمة الماثلة أمامها..ـ هجرة الأدمغة: أصبح هروب الكفاءات ظاهرة مقلقة تهدد مستقبل البلاد حيث تشير الإحصاءات إلى أن حوالي 39 ألف مهندس من أصل 90 ألف مسجلين في الهيئة قد غادروا البلاد، بمعدل 20 مهندساً يومياً، مدفوعين بضعف الأجور (راتب مهندس مبتدئ قد لا يتجاوز 300 يورو) وغياب آفاق التطور المهني. وينطبق الأمر نفسه على الأطباء والكوادر الجامعية، مما يفرغ البلاد من أهم مواردها، رأس مالها البشري.
ـ تدهور الخدمات العامة: يعاني المواطنون من تراجع حادّ في جودة الخدمات الأساسية، لاسيما في قطاعات الصحة والتعليم والنقل. تشير التقارير إلى نقص الإستثمار في الصحة العامة، وتدهور البنية التحتية للمستشفيات، ونقص الأدوية والمعدّات، مما يعمق الفوارق بين الجهات ويدفع من يستطيع إلى القطاع الخاص المُكلف ويحرم الضعيف من حقه في الصحّة.
ـ مناخ الخوف: وثقت منظمات حقوقية دولية ومحلية، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية حملة قمع ممنهجة ضد المعارضة والمجتمع المدني، شملت هذه الحملة إعتقالات تعسفية لعشرات السياسيين والمحامين والصحفيين والنشطاء بتهم فضفاضة فاقدة لأدنى الأدلة مثل "التآمر على أمن الدولة". وقد أدت هذه الممارسات، المقترنة بخطاب رسمي يخوّن المعارضين، إلى خلق "مناخ من الخوف" والرقابة الذاتية، مما قضى على مساحة النقاش العام التي كانت من أبرز مكاسب ثورة 2011.
القسم الثالث ـ بنية الرؤية المعطوبة: نقد بدائل النظام
في مواجهة فشل النموذج الديمقراطي السابق، قدّم نظام قيس سعيد مجموعة من البدائل التي تم تسويقها على أنها حلول جذرية لمشاكل تونس الهيكلية. لكن التدقيق في هذه البدائل يكشف عن رؤية شعبوية تفتقر إلى الجدوى الاقتصادية وتستخدم أدوات الدولة لأغراض سياسوية..
الشركات الأهلية كحل سحري : تم تقديم "الشركات الأهلية" كحجر الزاوية في النموذج الاقتصادي الجديد، وهي مبادرة تهدف إلى تمكين المجتمعات المحلية من خلق الثروة. ومع ذلك، تُظهر البيانات فجوة هائلة بين الخطاب والواقع. فبينما تم تأسيس أكثر من 100 شركة أهلية قانونياً حتى أواخر عام 2024، لم يبدأ سوى عدد قليل جداً منها (حوالي 15 شركة) نشاطه الفعلي بعد الحصول على تمويل. يرى المحللون أن هذه الشركات، بحكم هيكلتها وحجمها، تفتقر إلى القدرة التنافسية والإستدامة، ولا يمكن أن تشكل بديلاً حقيقياً لنموذج تنموي متكامل، بل هي أقرب إلى أداة لكسب الولاءات المحلية وتوزيع الريع على نطاق ضيق..
ـ "الحرب على الفساد" كسلاح سياسي : شكلت مكافحة الفساد والريع شعاراً مركزياً لمسار 25 جويلية. ورغم أن الفساد يمثل بالفعل معضلة حقيقية في تونس، إلا أن الحملة التي شنتها السلطة اتّسمت بالإنتقائية وغياب الشفافية والإجراءات القانونية السليمة. إن إستهداف شخصيات سياسية ورجال أعمال غير موالين، بتهم فساد دون محاكمات عادلة يشير إلى أن الهدف الأساسي من هذه "الحرب" ليس إرساء سيادة القانون، بل هو تصفية الخصوم السياسيين وترهيب دوائر المال والأعمال لضمان ولائها القسري .
ـ السلطوية الآكلة لذاتها (Cannibal Authoritarianism): يمكن استعارة مفهوم "الرأسمالية الآكلة للحوم البشر" (Cannibal Capitalism) للمنظرّة النقدية نانسي فريزر التي يستشهد بها شقيق الرئيس نوفل سعيد لوصف طبيعة النظام الحالي. فريزر ترى أن الرأسمالية تلتهم بشكل منهجي الأسس غير الاقتصادية التي تحتاجها للبقاء (الأسرة، الطبيعة، وظائف الدولة). بالقياس، يمكن القول إن نظام قيس سعيد يمارس "سلطوية آكلة لذاتها". فهو، من أجل تأمين بقائه وتكريس السلطة الفردية، يلتهم بشكل منهجي المؤسسات والهياكل التي تشكل الدولة الحديثة. إنه يلتهم استقلالية القضاء لملاحقة معارضيه، ويلتهم الشرعية البرلمانية ليحكم بالمراسيم، ويلتهم المحكمة الدستورية ليبقى حاكما مطلقا بلا رقيب وبلا بديل دستوري، ويلتهم الثقة المجتمعية والمجتمع المدني للقضاء على أي صوت معارض، ويلتهم الإمكانات الاقتصادية للبلاد عبر سياسات معزولة وعدائية تجاه الشركاء والمستثمرين ليسد الفجوة المالية التي أدت إليها خياراته الفاشلة . هذه العملية ليست بناءً للدولة كما تدّعي السردية الرسمية، بل هي إستهلاك للدولة، مما يؤدي على المدى المتوسط إلى دولة أضعف وأكثر هشاشة، غير قادرة على أداء وظائفها الأساسية، حتى وإن بدت سلطة الرئيس مطلقة في الظاهر..
القسم الرابع ـ أصداء الماضي.. تونس في مرآة السلطويات الفاشلة
إن المسار الذي تسلكه تونس ليس فريداً من نوعه، بل هو يكرر أنماطاً تاريخية موثقة لتجارب حكم فردي انتهت إلى كوارث وطنية. إن وضع التجربة التونسية في هذا السياق التاريخي المقارن يكشف عن المخاطر الجسيمة الماثلة أمامها..
المسار الشعبوي نحو الخراب.. فنزويلا تحت حكم هوغو تشافيز
توجد أوجه تشابه مقلقة بين تجربة تشافيز في فنزويلا ومسار قيس سعيد في تونس. كلاهما وصل إلى السلطة كشخصية من خارج المنظومة السياسية التقليدية، مستفيداً من السخط الشعبي العارم تجاه طبقة سياسية متهمة بالفساد والفشل. كلاهما تبنى خطاباً سيادياً قويّاً مناهضاً لـ"الإمبريالية" و"الخونة" في الداخل، وعمل بشكل منهجي على تفكيك المؤسسات الديمقراطية القائمة (البرلمان، القضاء) وتركيز السلطات في يديه باسم تأسيس "جمهورية جديدة" تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية.
توجد أوجه تشابه مقلقة بين تجربة تشافيز في فنزويلا ومسار قيس سعيد في تونس. كلاهما وصل إلى السلطة كشخصية من خارج المنظومة السياسية التقليدية، مستفيداً من السخط الشعبي العارم تجاه طبقة سياسية متهمة بالفساد والفشل. كلاهما تبنى خطاباً سيادياً قويّاً مناهضاً لـ"الإمبريالية" و"الخونة" في الداخل، وعمل بشكل منهجي على تفكيك المؤسسات الديمقراطية القائمة (البرلمان، القضاء) وتركيز السلطات في يديه باسم تأسيس "جمهورية جديدة" تعبر عن إرادة الشعب الحقيقية. الدرس الفنزويلي قاس وواضح : السياسات الشعبوية التي تهدف إلى إعادة توزيع الثروة (في حالة فنزويلا من عائدات النفط، وفي حالة تونس من خلال الإقتراض ومحاربة الريع)، عندما تقترن بتدمير المؤسسات الرقابية والتشريعية، تؤدي حتماً إلى كارثة اقتصادية. ففي غياب الشفافية والمساءلة، تحوّل الإقتصاد الفنزويلي إلى اقتصاد ريعي فاسد، مما أدّى إلى انهيار الإنتاج، وتضخم جامح، ونقص حاد في السلع الأساسية، وأزمة إنسانية هائلة دفعت الملايين إلى الهجرة.
الديكتاتورية النيوليبرالية.. المجلس العسكري في الأرجنتين (1976-1983)
على الرغم من اختلافها الإيديولوجي، تقدّم تجربة الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين دروساً مهمة حول العلاقة بين القمع السياسي والفشل الاقتصادي. إذ قام المجلس العسكري، تماماً كما يفعل نظام سعيد، بقمع كافة أشكال المعارضة، وخاصة النقابات العمالية، من أجل فرض رؤيته الاقتصادية بالقوة. كانت النتيجة كارثية، سياسات الانفتاح الاقتصادي غير المدروس، والإقتراض الخارجي المفرط لتمويل المشاريع والمضاربات المالية، وتفكيك القطاع الصناعي المحلي، أدت إلى أزمة ديون خانقة، وتضخم مفرط، وارتفاع هائل في معدلات الفقر من 5.8\% عام 1974 إلى 37\% عام 1982. تُظهر التجربة الأرجنتينية أن السلطة التنفيذية المطلقة، عندما تنفذ سياسات اقتصادية جذرية دون أي نقاش مجتمعي أو آليات للمساءلة والتصويب، تقود البلاد حتماً إلى الانهيار.
خاتمة: انهيار الصفقة السلطوية
يكشف التحليل المفصل القائم على البيانات والأدلّة أن المبررات التي سيقت لمسار 25 تموز / يوليو، كما عبر عنها شقيق الرئيس نوفل سعيد وغيره من منظري النظام، قد تم دحضها بالكامل على أرض الواقع بعد اربع سنوات من الحكم الفردي المطلق . لقد فشلت "الصفقة السلطوية" الضمنية التي عرضت على التونسيين ـ التخلي عن الحرية مقابل الإستقرار والرخاء ـ فشلاً ذريعاً. فالواقع اليوم هو تراجع في الحريات مصحوب بتدهور متزامن في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية..
إن الإخفاق الجوهري لنموذج ما بعد 2021 يكمن في عدائه المنهجي للمؤسسات. فمن خلال تفكيك
المؤسسات السياسية والقضائية والمدنية، دمّر النظام الآليات الضرورية لصناعة سياسات رشيدة، وتصويب الأخطاء، وبناء الثقة المجتمعية الواسعة التي لا غنى عنها لتنفيذ أي إصلاحات اقتصادية مؤلمة.
إن الطريق الوحيد القابل للحياة للمضي قدماً في تونس لا يكمن في البحث عن "رجل قوي" آخر أو نموذج اقتصادي سحري، بل في إعادة بناء مسار ديمقراطي تشاركي ومؤسسي. هذا ليس خيار إيديولوجي، بل هو ضرورة عملية لخلق بيئة من الإستقرار والشفافية والمساءلة والتوافق الاجتماعي والمبادرة والثقة في السوق، وهي الشروط الأساسية التي لا يمكن بدونها مواجهة الأزمات العميقة والمتشعبة التي تعصف بالبلاد.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء تونس الاقتصادي اقتصاد تونس سياسة رأي توجهات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بشکل منهجی قیس سعید فی تونس ما بعد إلا أن
إقرأ أيضاً:
معركة هوليوود.. كيف تسعى الصناديق الخليجية لشراء نفوذ في الإعلام الأمريكي؟
نشرت صحيفة "تليغراف" تقريرًا تناولت فيه تصاعد نفوذ الصناديق السيادية الخليجية في الإعلام الأمريكي، حيث بدأت السعودية وأبوظبي وقطر في ضخ نحو 24 مليار دولار لدعم صفقة استحواذ باراماونت على وارنر براذرز، وهو ما يعكس ثقل هذه الصناديق في رسم ملامح الصفقة.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي 21"، إن الحكام الخليجيين الذين يسعون إلى تعزيز نفوذهم الخارجي يرون في أستوديو وارنر براذرز، أحد أبرز رموز هوليوود، جائزة بالغة الأهمية، وأوضحت الصحيفة أن حجم اهتمام الشرق أوسط بهذا العملاق السينمائي لم يتضح إلا الشهر الماضي، حين ظهرت تقارير تفيد بأن شركة باراماونت استعانت بثلاثة صناديق سيادية لدعم عرض استحواذ بقيمة 108 مليارات دولار.
وأفادت الصحيفة أن باراماونت سارعت إلى نفي تلك الأنباء ووصفتها بأنها "غير دقيقة"، إلا أن الوثائق المالية كشفت لاحقًا أن السعودية وأبوظبي وقطر تضخ نحو 24 مليار دولار في الصفقة، أي ضعف ما التزمت به عائلة إليسون، المساهم الرئيسي في الشركة.
وأضافت الصحيفة أن الصناديق السيادية الخليجية تشكل ما يقارب ثلاثة أخماس التمويل الكلي للصفقة. ويعكس تردد أستوديو هوليوود في الكشف عن داعميه الخليجيين لحساسية الموقف، خاصة بعد دخول عائلة إليسون السوق الإعلامي الأمريكي عبر صفقة باراماونت بقيمة ثمانية مليارات دولار هذا العام، وسعيها لمواصلة بناء إمبراطوريتها بأي وسيلة.
ومع ذلك، هناك مؤشرا على أن إدارة الرئيس دونالد ترامب أبدت تحفظًا على جرأة نهج باراماونت العدائي وثقتها بأن الرئيس سيدعم الصفقة مقابل الحصول على امتيازات، وأشارت الصحيفة إلى أن الأنظار باتت تتجه إلى احتمال انتقال أحد أشهر استوديوهات هوليوود وشبكة إخبارية كبرى إلى أيدي قوى أجنبية، في وقت يواجه فيه البيت الأبيض قرارًا مصيريًا سيحدد مستقبل القوة الناعمة الأمريكية.
بالنسبة لديفيد إليسون، نجل الملياردير لاري إليسون ورئيس باراماونت العملاقة التي تبلغ قيمتها 15 مليار دولار، فقد انهارت سريعًا محاولته لشراء وارنر براذرز، وبعد أن قوبل بالرفض المتكرر من ديفيد زاسلاف، رئيس وارنر براذرز، عقب اجتماعات في قصر الأخير ببيفرلي هيلز وخلال مأدبة عشاء، أقدم أحدث أقطاب الإعلام في أمريكا على محاولة يائسة أخيرة.
وفي رسالة نصية إلى زاسلاف الخميس الماضي، كتب ديفيد إليسون أكد فيها احترامه وإعجابه بالشركة، معتبرًا أن الشراكة معه وامتلاك هذه الأصول الشهيرة سيكون "شرفًا عظيمًا"، لكن النتيجة كانت واضحة بالفعل، إذ لم يتلق إليسون أي رد، وفي صباح اليوم التالي أعلنت وارنر موافقتها على بيع استوديوهاتها وخدمات البث لشركة نتفليكس مقابل 83 مليار دولار.
وأفادت الصحيفة أن محاولات إليسون لكسب ود الرئيس ترامب في واشنطن باءت بالفشل، رغم تقارير تحدثت عن تعهده الصريح بإعادة هيكلة شبكة "سي إن إن"، التي يكرهها ترامب بشدة، وأشارت الصحيفة إلى أن مسؤولين في البيت الأبيض شعروا بالإحباط من هذا المسعى الذي بدا أقرب إلى الفساد، ونقل مصدر مطلع أن "إليسون ظن أنه يلعب شطرنج معقد بينما كان في الواقع يمارس لعبة بسيطة".
وقالت الصحيفة إن ترامب هاجم شركة باراماونت علنًا يوم الإثنين عبر منصته "تروث سوشال"، منتقدًا عائلة إليسون ومعتبرًا أنهم "لا يختلفون عن المالكين السابقين"، وأوضحت أن المراقبين لم ينخدعوا بمحاولات إليسون، بل بدأوا يركزون على حجم تورط الصناديق السيادية الخليجية في الصفقة.
وأشارت الصحيفة إلى أن عرض باراماونت يمنح كل صندوق سيادي حصة تبلغ 19 بالمئة من الشركة المدمجة، بما يعادل نحو 60 بالمئة من الملكية الإجمالية، وقال دانيال بريت، رئيس الأبحاث في "جلوبال إس دبليو إف"، إن ذكر السعودية وقطر وأبوظبي صراحة في صفقة واحدة داخل قطاع أمريكي حساس أمر لافت، مشيرًا إلى أن ذلك يعكس توافق هذه الصناديق على ضخ استثمارات كبيرة في أصول إستراتيجية بالولايات المتحدة وأوروبا، بشرط أن تكون بشكل سلبي لا يمنحها السيطرة وتقبله الجهات التنظيمية.
وأفادت الصحيفة أن جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، يشارك أيضًا في تمويل الصفقة، ويرجَّح أنه لعب دورًا محوريًا في انضمام دول الخليج إليها، وكان كوشنر، الذي شغل منصب مستشار كبير لترامب خلال ولايته الأولى وساهم في تمرير اتفاقيات إبراهيم لتطبيع العلاقات بين الشرق الأوسط وإسرائيل، قد أسس بعد خروجه من البيت الأبيض شركة الاستثمار "أفينيتي بارتنرز" الممولة بشكل رئيسي من قطر والإمارات والسعودية.
ووفقًا للتقارير، تجاوز ولي العهد السعودي محمد بن سلمان اعتراضات مسؤولين سعوديين ليوافق شخصيًا على استثمار بقيمة 2 مليار دولار في الشركة، فيما سبق أن تعاونت "أفينيتي" مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي في صفقة استحواذ على شركة الألعاب العملاقة "إي إيه" بقيمة 55 مليار دولار.
وأشارت الصحيفة إلى أن كوشنر وإليسون أبديا انفتاحًا على الشراكة مع دول الخليج، في حين أبدى زاسلاف تحفظًا، إذ أظهرت الوثائق أن مجلس إدارة وارنر عبّر عن قلقه من "الشروط المتبادلة للتمويل"، رغم ما تتمتع به الصناديق السيادية من مصداقية وقدرة مالية كبيرة.
"فرص الدمج"
ومن اللافت أيضًا أن باراماونت هي الجهة الوحيدة المهتمة بأصول وارنر في قطاع القنوات، والتي تشمل "ديسكفري" و"تي إن تي سبورتس" في الولايات المتحدة، إضافة إلى شبكة "سي أن أن"، وقالت الصحيفة إن نتفليكس وكومكاست تجاهلتا أصول وارنر في قطاع القنوات، وركزتا على الاستوديوهات المربحة وخدمات البث.
وأشارت الصحيفة إلى أن العرض الكامل أثار تساؤلات حول دوافع باراماونت، والأهم من ذلك داعميها من الصناديق السيادية، للسيطرة على شبكة إخبارية أمريكية عريقة، ولم تخف دول الشرق الأوسط رغبتها في تعزيز قوتها الناعمة عبر بناء إمبراطوريات عالمية في الرياضة والإعلام والترفيه.
"السمعة والقوة الناعمة"
تستضيف الإمارات هذا الأسبوع قمة "بريدج" الأولى وسط اهتمام واسع، بمشاركة شخصيات بارزة من بينها الممثل إدريس إلبا، وأوضحت الصحيفة، نقلًا عن مصدر لمجلة "فاريتي"، أن ما يهم دول الخليج هو السمعة والقوة الناعمة. وقد بدأت هذه الدول بالفعل الدخول في مجال الإعلام.
وذكرت الصحيفة أن سي أن أن بيزنس العربية تُعد ثمرة شراكة بين وارنر و"الشركة العالمية للاستثمارات الإعلامية" المدعومة من أبوظبي، والتي مُنعت سابقًا من الاستحواذ على صحيفة التليغراف، بينما يُدار الموقع بترخيص من سي أن أن. ورأى مراقبون أن محاولة "ريدبيرد آي إم آي" شراء التليغراف كانت خطوة نحو الهدف الأكبر للصندوق، والمتمثل في امتلاك سي أن أن، في إطار سعيه لإثبات قدرته كمالك موثوق لوسائل إعلام غربية.
وأضافت الصحيفة أن باراماونت قدمت عرضها بوصفه الأسرع للحصول على الموافقات التنظيمية، مع إعلان صناديق الثروة السيادية و"أفينيتي بارتنرز" المملوكة لجاريد كوشنر تخليها عن أي حقوق حوكمة، بما في ذلك مقاعد مجلس الإدارة، وهو ما تقول الشركة إنه يضع الصفقة خارج نطاق لجنة الاستثمار الأجنبي الأمريكية.
وأشارت الصحيفة إلى أن الصفقة قد تواجه تدقيقًا من اللجنة الفيدرالية للاتصالات ووزارة العدل، وسط مخاوف من تأثير اندماج اثنين من أكبر استوديوهات هوليوود على المنافسة، كما يُرجّح أن يزيد تعهّد باراماونت بخفض ستة مليارات دولار من التكاليف من هذه المخاوف. وفي المقابل، أقرت نتفليكس بأن عرضها قد يخضع لمراجعات قد تمتد إلى 18 شهرًا، خصوصًا بسبب الجمع بين نتفليكس وإتش بي أو ماكس وما قد يترتب على ذلك من تأثيرات على الأسعار.
وبيّنت الصحيفة أن تمويل باراماونت من صناديق الثروة السيادية قد يشكل عقبة إضافية، إذ تحظر القواعد البريطانية على الجهات المرتبطة بكيانات سياسية امتلاك تراخيص بث، وهو ما دفع "أوفكوم" سابقًا لسحب ترخيص قناة "سي جي تي إن" الصينية. وترى جهات رقابية أن ارتباط صناديق الخليج بالعائلات الحاكمة قد يضع باراماونت ضمن هذه القيود، مهددًا ترخيص "سي أن أن" في المملكة المتحدة، فيما تتوقع الشركة أن تُقدّم دفاعًا بأن هذه الصناديق مجرد مستثمرين سلبيين بلا حقوق حوكمة، على نحو يشبه حجة "ريدبيرد" في محاولتها الفاشلة لشراء التليغراف.
وتابعت الصحيفة أن دعم باراماونت يأتي، على خلاف عرض "ريدبيرد آي إم آي" الممول من الشيخ منصور، من شركة "العِماد القابضة" برئاسة الشيخ طحنون، في مؤشر محتمل على تغيرات داخل دوائر النفوذ في أبوظبي عقب فشل محاولة شراء التليغراف.
ووفق الصحيفة، لا تقتصر المخاوف من النفوذ الأجنبي على التمويل الخليجي، إذ تمثل علاقات باراماونت بالصين مصدر قلق آخر؛ فـ"ريدبيرد كابيتال" – ثاني أكبر مساهم والممول الرئيسي للعرض – يرأس مجلس إدارتها جون ثورنتون، الذي خضع لتدقيق سابق بسبب صلاته ببكين، وهو عضو كذلك في مجلس إدارة باراماونت. وفي حال نجاح العرض، ستتمتع الشركة بنفوذ كبير على شبكة سي أن أن.
وأضافت الصحيفة أنه رغم استقلال الجهات التنظيمية، يظل دونالد ترامب صاحب القرار النهائي في الصفقة، وقد عبّر عن استعداده للتدخل، ما يزيد من تعقيداتها السياسية. فالجمهوريون يهاجمون عرض نتفليكس، بينما يثير متشددون مثل توم كوتن مخاوف بشأن التمويل الأجنبي لعرض باراماونت، وسط تململ داخل الحزب من نفوذ ترامب، وصل إلى حد انتقاد السيناتور توماس ماسي لزملائه.
وفي السياق نفسه، يبرز رفض ديمقراطي واضح؛ إذ وصفت إليزابيث وارين صفقة نتفليكس بـ"الانقلاب المناهض للاحتكار"، وانتقدت عرض باراماونت–سكايدانس بسبب ارتباطه بمقربين من ترامب وتمويل من الشرق الأوسط، معتبرة ذلك تهديدًا للشفافية والأمن القومي، وتبحث وارنر العروض وسترفع توصيتها خلال عشرة أيام، وسط توقعات بزيادة عائلة إليسون قيمة عرضها استجابة لمطالبة زاسلاف برفع السعر إلى 35 دولارًا للسهم بدلًا من 30.
وختمت الصحيفة بأنه مع تزايد اهتمام دول الخليج بالأصول الإعلامية الأمريكية، بات واضحًا أن معركة هوليوود ستتخذ طابعًا سياسيًا صريحًا، في ظل توقعات محللين بأن تظل السياسة عاملًا حاسمًا في مسار العملية حتى عام 2026.