لوتان: أرقام تكشف كيف أصبحت غزة بؤرة المجاعة في العالم
تاريخ النشر: 4th, August 2025 GMT
الجوع مهلك في قطاع غزة، إذ إن هذه أول مرة يعاني فيها 100% من السكان، الذين يبلغ عددهم 2.1 مليون نسمة، من انعدام أمن غذائي حاد، حتى بلغ الأمر حد المجاعة.
بهذه الجملة افتتحت صحيفة لوتان تقريرا بقلم دوك كوانغ نغوين يشرح فيه كيف أصبح التحذير الصادر يوم 29 يوليو/تموز عن "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" صرخة إنذار، وماذا تعني هذه الحدود، ولماذا تعتبر غزة اليوم مسرحا لمثل هذه الأزمة الغذائية؟
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إيكونوميست: قائد الجيش الباكستاني يتقرب من ترامبlist 2 of 2خيارات أحلاها مر.. صحيفة أميركية تسرد كفاح عائلة بغزة للبقاء على قيد الحياةend of listكيف يقيس العلم المجاعة؟
عندما يصبح الجوع واقعا يوميا لملايين البشر، يكون شكله المتطرف -وهو المجاعة- قد تحدد منذ عام 2004، حسب معايير علمية دقيقة -كما يقول الكاتب- بنيت على أزمة الغذاء الحادة في الصومال، والحاجة إلى أداة موحدة لتقييم انعدام الأمن الغذائي وتوجيه المساعدات الإنسانية بشكل أفضل.
وباعتبار أن "التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي" هو المرجع الدولي الرائد في قياس أزمات الجوع وتصنيفها، فهو يوحد وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية حول منهجية محددة، ويصنف مقياسه انعدام الأمن الغذائي في 5 مراحل ذات شدة متزايدة، تمثل المرحلة الخامسة، "الكارثة/المجاعة"، قمتها.
شعب بأكمله على شفا الانهيارولإدراك حجم الكارثة، من المفيد مقارنة الأزمة في غزة بأزمات غذائية رئيسية أخرى. فوفقا لبيانات التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، فإن 100% من سكان غزة، أي 2.1 مليون شخص، يعانون من انعدام أمن غذائي حاد، في المراحل من 3 إلى 5، حيث تبدأ ضرورة التدخل العاجل من المرحلة الثالثة.
غير أن ما يميز غزة جوهريا هو شمولية الجوع، فخلافا للسودان، حيث لا تزال الأزمة مركزة في مناطق محددة، فإن القطاع الفلسطيني محاصر بالكامل، بعد أن أصبح 88% من أراضيه تحت أوامر الإخلاء أو مصنفة مناطق عسكرية.
إعلانومع أن عدد سكان السودان في المرحلة الخامسة أكبر من حيث الأعداد المطلقة، فإن غزة لديها أعلى نسبة من سكانها في هذا الوضع الكارثي، إذ وصل 22% من سكانها إلى المرحلة الأكثر حِدّة، مقارنة مع 1% في السودان.
سواء سميناها مجاعة أو كارثة إنسانية أو قتلا جماعيا، فإن النتيجة تبقى كما هي، فغزة تحتضر، وكما تكرر المنظمات غير الحكومية بمرارة فبإعلان المجاعة يكون الأوان قد فات
الموت جوعا قبل إعلان المجاعةغير أن مجرد كون خمس السكان عند أدنى عتبة من انعدام الأمن الغذائي لا يكفي لإعلان المجاعة، لأن تجاوز هذه العتبة يوجب استيفاء 3 شروط حسب التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهي:
-أن يعاني خمس الأسر من نقص غذائي حاد. أن يعاني 30% من الأطفال دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد (الهزال). أن يتجاوز معدل الوفيات شخصين بالغين يوميا أو 4 أطفال لكل ألف نسمة بسبب الجوع، أو ما يتعلق بسوء التغذية.وقد تبدو هذه المعايير التقنية قاسية بعض الشيء، ومع ذلك أكد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي 4 مجاعات في 15 سنة الماضية، أولاها في الصومال عام 2011، وثانيتها وثالثتها في جنوب السودان في عامي 2017 و2020، وثالثتها في السودان عام 2024.
وقد تصبح غزة الخامسة، ولكن عقبة تقنية لا تزال تحول دون ذلك -حسب الصحيفة- بعد استيفاء المعيارين الأولين، إذ لا يزال من الصعب توثيق المعيار الثالث المتعلق بالوفيات باستخدام المنهجية المتبعة.
حصار مدمروتنبع هذه الأزمة من إفقار تدريجي طويل الأمد، عندما فرضت إسرائيل حصارا خانقا تدريجيا لاقتصاد غزة في عام 2007، بعد سيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عليها، مما جعل السكان يعتمدون على المساعدات الدولية.
وردا على هجوم حماس يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فرضت إسرائيل حصارا شاملا، قاطعة بذلك إمدادات الغذاء والماء والدواء والوقود، بالتزامن مع تدمير ممنهج بكثافة نادرة، قتل خلاله أكثر من 60 ألف شخص مباشرة بالقنابل والرصاص، معظمهم من النساء والأطفال، ودمر 70% من المباني أو تضرر، وفقا للأمم المتحدة.
ارتفعت أسعار السلع القليلة المتاحة ارتفاعا حادا، حتى زاد سعر الدقيق بأكثر من 3000%
إضافة إلى ذلك، قضت إسرائيل على جميع الإمدادات الغذائية، وجعلت أكثر من 95% من الأراضي الزراعية غير صالحة للزراعة، ومُنع الصيد والوصول إلى البحر منذ 12 يوليو/تموز، ولم تعد المساعدات القليلة التي تصل سوى قطرة في بحر الاحتياجات اللامتناهية، كما يقول الكاتب.
لذلك ارتفعت أسعار السلع القليلة المتاحة ارتفاعا حادا، حتى زاد سعر الدقيق بأكثر من 3000%، وأصبح الوصول إلى المساعدات مهمة مميتة، قتل خلالها أكثر من ألف شخص وهم يحاولون الحصول على الطعام بين أواخر مايو/أيار وأواخر يوليو/تموز، أغلبهم بالقرب من مواقع التوزيع العسكرية، حسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.
أمام هذا الواقع -كما يقول الكاتب- يفقد التمييز بين المجاعة المعلنة وغير المعلنة معناه. وسواء سميناها مجاعة أو كارثة إنسانية، أو قتلا جماعيا، فإن النتيجة تبقى كما هي، فغزة تحتضر، وكما تكرر المنظمات غير الحكومية بمرارة فبإعلان المجاعة يكون الأوان قد فات.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات ترجمات الأمن الغذائی
إقرأ أيضاً:
مراسلة الجزيرة نت.. قصة أم تطعم أبناءها من رماد المجاعة
غزة- في معركة الجوع يكون صراعك مع شبح وهمي، حتما يهزمك لأنه يوهن قوتك من الداخل، يرديك صريعا، أو يصنع منك جثة واهنة أشبه ما تكون برجل آلي، تجرُّ الخطى جرا.
تحتاج أن تكرر قراءة الخبر كي تفهمه، ويحتاج من يحدثك أن يعيد مرارا كي تدرك ما يقول، ستضطر للجلوس لالتقاط أنفاسك بعد عدة أمتار من المشي.
أنت كصائم منذ مدة، لكن صيامه مستمر لأجل غير معلوم، وليس في جسده وقود مخزّن أو زاد مشبّع إلا بألم الفقد وشحنات الخوف وبؤس النزوح.
وكل ذلك عاشته ولا تزال مراسلة الجزيرة نت في غزة يسرى العكلوك، وهي اليوم تروي تفاصيله كواحدة من أهالي القطاع الذين يواجهون التجويع الإسرائيلي بكل أشكاله، ويعيشون الحصار والحرب دون حول ولا قوة بتأمين حتى أبسط احتياجاتهم.
الصحفية الأم
صباح أمس، هرول طفلي الصغير نحوي حاملا حذاءه، يطلب مني أن أساعده في انتعاله، أسأله عن السبب، فيجيبني أنه يريد أن يصطف كما الأطفال الذين رآهم من النافذة حاملين أواني ليعبئوها طعاما أمام قدور التكية في المخيم المقابل أسفل المنزل، كان الطلب أشبه بصفعة على وجه أم لم تتخيل يوما أن تعجز عن "إشباع" أطفالها!
"لقيمات يقمن صلبه" قاعدة جديدة كلَّفني إقناع أطفالي بها جهدا، واستغرقت مني وقتا وجدالا مطولا حتى أُعوِّد أولادي عليها، فملء المعدة ترف نحن في غنى عنه حاليا، لكنني اليوم بتّ أتبعهم كي يأكلوا أو أن يزيدوا لكنهم يرفضون، لا أدري أهو انكماش المعدة، أم أن أنفسهم عافت الأصناف نفسها التي يتناولونها منذ أشهر.
يبدو طبق "البقلة" وجبة أساسية، وهي عشبة تنمو من تلقاء نفسها، كنّا قديما في بستاننا المُجرَّف نجمعها مع خشاش الأرض ونرميها، لكن أمي تراها ورقا يؤكل، تُجمّل طعمها مع قليل من الملح والخل، تجيب عن تساؤلات أحفادها عنها، حين تذوقوا اللقمة الأولى منها "كلها حديد يا تيتا (جدة) مفيدة كثيرا كسبانخ باباي (فلم كرتوني للأطفال)"، يبتلعونها، لكني أزدريها وأبتلع معها دمعي.
إعلانأما أنا فأخجل من الشكوى بين أهلي وصديقاتي، أو أن أعبّر عن حاجتي الملحة للقهوة التي تعد وقودا للتركيز عندي، بعدما صرنا نحتسي بذور الحمص المحمص والمطحون بدلا منها، شراب لا يشبه القهوة إلا في لونها ومراراتها، لا يعدل مزاجا ولا يبدد شتاتا ولا يصلب تركيزا.
لماذا أصبحت مدة إعدادي لقصة إنسانية تستغرق أكثر من أسبوع بعد أن كنت أتمها بيومين أو 3؟ تتساءل الصحفية يسرى ثم تواصل، كيف تمكنت الحرب مني فنهشت عافيتي حتى صرت أتمنى أن يمر يوم من دون أن أتناول فيه جرعات أدويتي المكثفة؟، والتي أتجرَّعُها معظم الأحيان على معدة فارغة، معدة تستقر فيها الجرثومة، وتتطفل عليها الأنتميبا، ويتفنن القولون العصبي بإيلامي، وترتبك فيه أمعائي المتلبكة من الماء المسموم الذي نملؤه من صهاريج جوالة لا نعرف مصدرها.
في شوارع غزة جلها كل الآباء نكسوا رؤوسهم، يُرتِّقون عِفَّتهم بالصمت، كخاسر عائد من حرب ضارية مع معركة الظفر بلقمة، مع التجار الذين يتخذون من الجوع صفقات للبيع والشراء.
والناس هائمة على وجوهها، صامتة بملامح يفضحها البؤس، سيدات عفيفات كريمات بشفاه متشققة ووجوه شاحبة يحملن أواني وقدورا في أكياس سوداء لئلا يراها الناس، ويسابقن الخطى قبل أن تنفض التكايا.
يُصرُّ المجوَّعون أن سلاح الجوع بات أشد فتكا من صاروخ يقتلك أو يفتك بك أو يُذيبك مرة واحدة، فالجوع يقتلك ببطء وبرود، ويميت فيك خلاياك، وتتصارع فيه أنفاسك فتسمعها وهي تختفي منك شيئا فشيئا.
صار مشهد فتح أكياس القمامة والتجمع حول الحاويات اعتياديا، أطفال يترصدون حبات حمص تساقطت تحت أقدام الباعة، يلعقون بقايا المكمل الغذائي من قلب سلال القمامة، أو يمدون أصابعهم في داخل المعلبات الفارغة للملمة العوالق في الحواف.
وأطفال آخرون ينتظرون أن يفرغ بائع الفلافل من عمله حتى يلتقطوا فتات ما تناثر ويأكلوها بِنَهم، ورضُع جياع تختلط أصواتهم المنبعثة طيلة الليل جوعا، تسقيهم أمهاتهن ماء أو يغلون لهم الحلبة بدلا من الحليب الصناعي الذي يصل سعره إلى 100 دولار نقدا، غير أن تاريخ صلاحيته منته أصلا.
قرصة الجوع وقرقرتها هو صوت أنين النفس المنكسرة، لأعزة قوم أذلتهم الحرب وأهانهم الجوع، بعد أن كانوا أهل الرفاه وأصحاب الوفرة، حين فاضت أطباقهم بما لذ وطاب.
حتى سياقات محادثاتنا ورسائلنا بين الأصدقاء تغيرت، فقد كنا عن قريب نستقبل رسائل من الصديقات يستعرضن فيها إنجازاتهن، "لقد عجنت العدس خبزا"، و "صنعت كعكة من المُكمِّل الغذائي"، لكننا اليوم صرنا نتبادل طرق النجاة من الموت جوعا، وتحولت الرسائل كيف تحمي أمعاءك من التعفن؟ من يقايضنا حفاضات أطفال بكيلو طحين؟
محاربة النفسالناس في غزة سواسية في الجوع، إلا التاجر الفاجر واللص والمتسلقين على ظهر جوعنا إلى رغد العيش، فالفقير والغني هنا سيان، ورغم أنني أملك رصيدا في حسابي البنكي كنت أجمعه لأطفالي إلى حين يكبرون أو هكذا كنت أظن، خاصة أن عبء توفير الحياة الكريمة غير مقسوم على اثنين، فهم أبناء لرجل شهيد، وأتحمل وحدي عناء أن يعيشوا كراما.
إعلانلكنني وجدت أني ألجأ لقرشي الأبيض لاتقاء اليوم الأسود، ولا شيء أشد سوادا من هذه الأيام، فأضطر لكل ما ادخرته يوما كي يأكلوا الحد الأدنى من الطعام الذي يبقيهم "أحياء"، أحياء فقط.
ومع هذا فلا أقبل على نفسي أن أقوم بالبذخ الذي يدفعني لشراء شوكلاتة واحدة بـ20 دولارا بعد أن كان ثمنها ربع دولار، أو شراء كيلو من المانجو بـ100 دولار بدلا من 5 دولارات.
المانجو "فاكهتي الأثيرة" التي رأيتها أول مرة منذ عامين على بسطة يتيمة، حيث مررت من أمامها، وتوقفت أمام جلالتها، خفق قلبي وأنا أقلّبها بكفي كأني أمسك كنزا أتحرّق شوقا لالتهامه، شممتها وعبأت رئتيّ من رائحتها، وبينما أنا في سكرة تذكري لمذاقها، سألت امرأة بجواري البائع كم ثمنها فرد من دون أن يلتفت 80 شيكلا (حوالي 25 دولارا).
تمعَّنتُ تلك الثمرة الجوهرة ووضعتها برفق في مكانها ثم انصرفت، فاشتعل فيّ الصراع بين أن أكون أمّا مثالية بعيون أطفالي، أو متلونة أدّعي المأساة في العلن وأخونها في الخفاء، أو أن أكون مُعينة للتاجر الذي قال للسيدة التي عاتبته من صدمتها بالسعر "ما بدك تشتري غيرك بيشتري"!
تجار ولصوص ينفّذون دورهم باقتدار، يتوحَّدون مع جيش الاحتلال علينا، ويؤدون دورا أساسيا في ملهاة سوداء متكاملة الأركان، تتالت مشاهدها: أن نُقتل ثم نحاصر ثم نجوّع ثم يصير غاية أهدافنا ليس النجاة بأنفسنا من الموت قصفا بل النجاة بأجسادنا منه جوعا.
ويتبع ذلك كله مشاهد إدخال المساعدات يدفعون بذلك أدواتهم من إعلاميين ونشطاء يُروِّجون لانتهاء التجويع، ثم يقتلون من ينوي تأمينها أو توزيعها بالعدل، ويُسهّلون في المقابل الأمر للصوص يسرقونها، فلا التجويع انتهى ولا المساعدات وصلت.
يسألني طفلي (10 سنوات) كيف يتركنا العالم جوعى؟ وبينما أهمّ بالإجابة، تقمّصت ابنتي الكبرى (13 عاما) دوري، وردت "نحن ننزف دما منذ عامين وقد تركونا كذلك هل سيقهرهم أن نموت جياعا؟".
لقد فهما بلا جهد مني وأصابا بلا تعب منهما، واقعٌ يشكل وعي أطفالنا، يبدو بمثابة منهاج أسقطت مدينتهم معظم المسلمات منه حين مات فيها الناس جوعا، وصار دمهم ماء، وحين وجدوا أنهم وحدهم دون نصر من عربي، أو سند من مسلم.