سطحية مغلفة باليقين: أزمة القيادة (3-3)
تاريخ النشر: 15th, August 2025 GMT
في كل مرحلة مفصلية من التاريخ، ثمة قائد يقف على منصة عالية، يلقي خطابا حادا وواثقا، يحرك الجماهير، ويعدهم بالرفاهية والخلاص؛ وفي كل مرة تقريبا، تكشفت الأحداث لاحقا عن حقيقة مرة: ما بدا يقينا كان جهلا، وما بدا عمقا كان قشرة رقيقة فوق سطح شديد الهشاشة.
هكذا وصلت الأمة من الإحباط ولا شيء يهم نتيجة تحفيز العواطف بلا معطيات مادية تحقق ما يتحدث به من يفترض أنهم قادة ويعلمون ما يفعلون، بيد أنهم لا يتعدون الوهم التصوري في تقدير أنفسهم ومعرفتهم وقدراتهم، وتزداد هذه وفق قدرات جوقة المستفيدين الذين يقنعون القط بأنه أسد.
القناعة الزائفة: اختزال العالم في شعار
يواجه المتصدرون، في كل مستوياتهم، واقعا معقدا يتشابك فيه الاقتصاد بالثقافة، والجغرافيا بالتاريخ، والمصالح بالتحيزات. لكن كثيرا ما نراهم يقفزون على هذه الشبكة المعقدة إلى تفسيرات مبسطة تُرضي المستمعين:
- المشكلة الاقتصادية سببها الفساد وحده، بينما لا يوجد عقلية تدير الاقتصاد.
- الأزمة البيئية تحل بالتوافقات مع دول الجوار وبالتطوير في تقنية تدوير النفايات مثلا.
- النزاع السياسي يحتاج فقط لإرادة قوية، أو تفاهمات، بينما لا رؤية ولا فهم لمشاكل المجتمع التي تراكمها أساليب عدمية سلطوية تتصور أن قوتها دائمة وهي المهمة.
- الضحالة في النخبة السياسية تحلها الصناديق
هذه العبارات يختلف عليها الجمهور، لكن الغالبية تقبلها فهي تبدو كإجابات سهلة لمشاكل شديدة التعقيد. لكن الطمأنينة التي تبثها هي طمأنينة زائفة، لأنها لا تطلب تضحية ونست العقول حقيقة أن ليس هنالك حل بلا مخاطر، وأن كل خطوة في السياسة قد تطلق سلسلة تفاعلات لا يمكن التنبؤ بها.
العمق الوهمي: فجوة لا يراها صاحبها
الخطورة هنا ليست فقط في الجهل، بل في مبتلى لا يرى. فالقائد الذي يتحدث بثقة عن "إصلاح التعليم" أو "إعادة هيكلة الاقتصاد" قد لا يدرك أنه لا يفهم سوى العناوين العريضة، وأن التفاصيل التقنية التي تُشكّل جوهر أي إصلاح غائبة عن ذهنه؛ فأخطر القادة ليسوا الجهلاء الذين يعرفون أنهم يجهلون، بل أولئك الذين يتصورون أنهم يملكون الفهم الكافي لكل شيء، أولئك يصنعون عالما داخل رؤوسهم، عالما سلسا، بسيطا، يمكن ضبطه بإصدار قرارات عليا، وفي لحظة ما، يصبح اليقين ذاته جزءا من هويتهم، فلا يعودون قادرين على الشك أو المراجعة، لأن الاعتراف بالجهل يبدو وكأنه انكسار سياسي. هكذا يغدو القائد أسيرا لوهمه، والجماهير أسيرة لوهمه بالأمل.
ما يزيد الأمر تعقيدا أن هذا المتصدر للقيادة أو المفكر أو المحلل غالبا ما يحيط نفسه بمن يرددون صدى كلماته، فيدخل في فقاعة معرفية تُغذي وهمه بأنه يفهم كل شيء. وفي هذه الفقاعة، يصبح النقد جريمة، والأسئلة المعقدة علامة ضعف، بينما تُكرّس البساطة المضللة كفضيلة قيادية.
ليس كل القيادات تفكر بأنانية، لكن السلطة بطبيعتها تميل إلى خلق وهم الفهم، لأن القائد يرى في نفسه صورة المخلّص، ويرى في اعترافه بحدود فهمه تهديدا لهذه الصورة، لكن في عصرنا الذي أصبح فيه كل شيء متشابكا من الاقتصاد إلى البيئة، لم يعد هذا الوهم رفاهية، بل خطرا وجوديا. قائد يجهل أنه يجهل قد يشعل حربا لا تنتهي، أو يطلق إصلاحا اقتصاديا ينتهي بكارثة اجتماعية، أو يتعامل مع أزمة بيئية وكأنها لعبة أرقام يمكن التلاعب بها.
في زمن سابق، لا يحتاج القائد لعلم الكثير ويظل ناجحا نسبيا، لأن العالم كان أبسط، والقرارات أقل تشابكا. أما اليوم، والأنظمة المترابطة، والذكاء الاصطناعي، فإن أي قرار محلي قد يولد آثارا كونية، هنا تصبح القيادة السطحية خطرا وجوديا.
القائد الذي يظن أن كل شيء تحت سيطرته يُشبه ربان سفينة يبحر في بحر هائج بعينين مغمضتين. وما يضاعف الخطر أن مثل هذا الربان لا يستمع لصوت أي بحار يشير إلى الصخور أمامه، لأنه يظن أنه يرى أبعد منهم جميعا.
شعوب تسحرها السلطة
الجماهير ليست بريئة تماما من صناعة هذا الوهم. هي بدورها تألف المتصدي الواثق، وتميل إلى تبني الحلول السهلة. في اللاوعي الجمعي هناك كره للتعقيد، ونفور من الزعماء الذين يتحدثون عن المشكلات كما هي: متشابكة، صعبة، تحتاج إلى سنوات من العمل الصبور.
وهكذا تتشكل حلقة معيبة:
- قادة يقدمون التبسيط كعمق.
- وجماهير تكافئ هذا التبسيط بالثقة والتصفيق.
ثم قرارات سطحية تنفجر لاحقا في أزمات أعقد، لكن لماذا تنجذب الجماهير لهذا النمط من القادة؟ لأن الإنسان بطبعه يميل إلى السطحية والبساطة. القائد الواثق، حتى لو كان واثقا بلا سبب، يبدو أكثر جاذبية من قائد يعترف بتعقيد الواقع أو بجهله بجوانب معينة. وهكذا ينشأ تحالف غير واعٍ بين الثقة الزائفة في الأعلى والرغبة في الحلول السهلة في الأسفل، يديم دورة من القرارات السطحية، والسياسات القصيرة النظر، والنكسات المتكررة.
أزمة القيادة في عصر التعقيد
إن ما ينقذ الأمم ليس قادة يعرفون كل شيء، فهذا وهم مستحيل، بل قادة يملكون شجاعة الاعتراف بما لا يعرفونه. التواضع هنا ليس فضيلة أخلاقية فقط، بل أداة سياسية:
- القائد المتواضع فكريا يفتح المجال لمستشارين مختلفي الآراء، بدلا من محيط من المصفقين.
- وهو يدرك أن التعقيد يتطلب حلولا متعددة المستويات، لا شعارات عامة.
- والأهم أنه يزرع في الرأي العام استعدادا للتعامل مع الواقع كما هو، لا كما يُراد له أن يكون.
في عالم بالغ التعقيد، ليس أعظم القادة من يملكون كل الإجابات، بل من يملكون شجاعة القول: لا أعرف، فلنسأل، فلنفكر معا.
التواضع الفكري هنا ليس ضعفا، بل فضيلة سياسية. القائد الذي يدرك محدوديته يصبح أكثر قدرة على الاستماع لخبراء، على جمع رؤى متعددة، على بناء سياسات تقوم على فهم أعمق بدلا من الانطباعات العامة؛ أو حذف أي فكرة وراي لا يطابق ما يريد المتصدر في المجتمع.
إن تغيير أسباب البلاء فرع من التعافي وهذا لا يأتي بالأنانية أو حب المكاسب الشخصية أو فتات الموائد بل بالمصداقية مع النفس، فإن لم تتح فالمصير تراه العيون؛ تخلف وخراب يحدثه الإحباط والتكاسل، فمن يأتي من خارجك ليغير يأتي لإخضاعك وليس لتكريمك، فهو يريدك هلاميا مستهلكا حياتك في سديم أو ضباب.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات الأزمة القيادة الفكري الشخصية أزمة فكر القيادة شخصية مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة کل شیء
إقرأ أيضاً:
نتنياهو اقتحم الزنزانة فجرا.. لينا الطبال تروي لـعربي21 ما حدث معها داخل سجون الاحتلال (شاهد)
تواصل شهادات الناجين والعائدين من أسطول الصمود لتكشف جانبا مظلما من سياسات الاحتلال داخل سجونه في ظل الحرب على غزة، إذ اتسعت دائرة الانتهاكات لتطال الإعلاميين والحقوقيين وطواقم الإغاثة وكل من يحاول الاقتراب من خطوط النار.
وبينما تتصاعد التحذيرات الدولية بشأن تدهور الوضع الإنساني، تبرز روايات المشاركين في أسطول الصمود والوفود الإنسانية لتفضح حجم العنف المستخدم في منع دخول المساعدات وعرقلة أي جهد يهدف إلى تخفيف معاناة المدنيين.
وسط هذا المشهد المأزوم، تكشف شهادة الناشطة الحقوقية لينا الطبال لـ"عربي21" تفاصيل جديدة عن طريقة تعامل الاحتلال مع المتطوعين والأسرى، لتضيف حلقة أخرى إلى سلسلة طويلة من الروايات التي تتهم الاحتلال الإسرائيلي باستخدام القوة المفرطة والتعذيب والاحتجاز التعسفي، سواء في البحر أو داخل المعتقلات.
في لقاء اص تحدثت الطبال لـ"عربي21" عن تفاصيل اختطافها أثناء مشاركتها في أسطول الصمود الذي انطلق محملا بمساعدات طبية وغذائية باتجاه قطاع غزة، قبل أن تعترضه البحرية الإسرائيلية في عرض البحر وتقتاده بالقوة إلى داخل الأراضي المحتلة.
وقالت الطبال إن الهجوم "كان لحظة هلع حقيقية" إذ فوجئ أفراد القافلة بزوارق حربية تحاصر السفينة من اتجاهات متعددة، يتبعها إطلاق نار تحذيري وصراخ الجنود المطالب بوقف المحركات فورا، وأضافت "لم نكن مسلحين ولا حتى قادرين على المقاومة.. كنا فريقا إنسانيا، لكنهم تعاملوا معنا كتهديد عسكري".
وأكدت الناشطة الحقوقية أنهم كانوا في مهمة إنسانية تحمل مساعدات ودواء، قبل أن تُقدم البحرية الإسرائيلية على "قرصنة" السفينة في عرض البحر، في خطوة قالت إنها تخالف اتفاقيات روما والاتفاقية الثالثة واتفاقيات البحر، وتُعد "جريمة حرب" وفق تعبيرها.
View this post on Instagram A post shared by Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
وأضافت الطبال أن قوات الاحتلال الإسرائيلي نقلتهم قسرا إلى "أرض العدو"، معتبرة أن هذا الإجراء يشكل هو الآخر "جريمة حرب"، مشيرة إلى أنهم تعرضوا لتحقيق ومحاكمة "غير شرعيين"، ولم يسمح لهم بمقابلة محامين.
وتحدثت عن ظروف احتجاز قاسية، شملت التعذيب الجسدي والحرمان من الدواء والطعام والماء، مؤكدة أنهم ظلوا حتى الأيام الأخيرة يشربون ماءً ملوثا "أصفر أو بني"، وأن الطعام الذي قدم لهم كان قليلا جدا، وذكرت أن ناشطات أخريات تعرضن للضرب، إلى جانب "تعذيب نفسي" تمثل في منع النوم وإجبارهن على التوقيع تحت التهديد.
نتنياهو يدخل عليها بالكلاب البوليسية
وفي واحدة من أخطر رواياتها، قالت الطبال إن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دخل الزنزانة التي كانت فيها عند الساعة الرابعة فجرا، برفقة كلاب بوليسية وقوة كوماندوز إسرائيلية، وإن عناصر القوة وجهوا البنادق والأسلحة الثقيلة نحو رؤوس المحتجزات، وهددوهن بالموت و"الإلقاء بالغاز"، واتهامهم بالإرهاب من قبل رئيس وزراء الاحتلال، وهو ما قالت إنه كان يتكرر يوميا مرات عدة.
وفي جانب آخر من حديثها، تناولت الطبال ما وصفته بسياسة الاحتلال الإسرائيلي المستمرة منذ احتلال فلسطين، معتبرة أن الاحتلال يسعى إلى "إبعاد الفلسطينيين عن الوطن ومحو الهوية والثقافة".
وأشارت إلى أن ما جرى خلال محاولات إفراغ غزة من سكانها مثال على ذلك، لافتة إلى وجود طائرات تنقل فلسطينيين إلى جنوب أفريقيا، رغم اختلاف الهوية الثقافية بين الطرفين.
تضيق على الأسرى المحررين
وأكدت الطبال أن الأسرى المحررين يواجهون بدورهم تضييقات وملاحقات دائمة، سواء داخل فلسطين أو خارجها، موضحة أنهم معرضون للتهديد بالقتل أو الاعتداء، وأن إعلام الاحتلال الإسرائيلي نفسه كان يناقش فكرة "إبعاد الأسرى إلى أقصى الأرض حتى لا يعودوا مرة أخرى"، وفق تعبيرها.
View this post on Instagram A post shared by Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)