تمثل تجربة الصحفي اليمني البارز محمد القاضي نموذجًا نادرًا للشجاعة المهنية في بيئة تتسم بالخطر الدائم والتعقيد السياسي والإنساني. فمنذ اندلاع الحرب اليمنية في عام 2015، ظل القاضي شاهدًا مباشرًا على واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، مُخاطرًا بحياته لنقل صورة دقيقة للعالم عن معاناة المدنيين في ظل الحصار والقصف وانهيار البنى التحتية.

وخلال مقابلة أجراها الصحفي الكندي روبرت فرانك، المراسل السابق لجريدة نيويورك تايمز في كندا وصحفي في مؤسسة الإذاعة الكندية قدم الصحفي القاضي صورة مصغرة عن مسيرة مهنية شاقة ومليئة بالمخاطر، وصورة عن الأبعاد الإقليمية والدولية التي باتت تحيط بالصراع، وعن قصور المجتمع الدولي في فهم جوهر الأزمة ومعالجتها.

وابرز الصحفي محمد القاضي الذي عمل مراسلًا لقناة سكاي نيوز عربية في اليمن خلال حديثه عدة محاور رئيسية، بدءًا من التجربة الشخصية والمهنية في تغطية الحرب، بما فيها المخاطر الجسيمة التي واجهها. وكذا الانعكاسات الإنسانية المأساوية للحصار والصراع على المدنيين، خاصة في مدينة تعز. إلى جانب الوضع الراهن في اليمن، حيث تتشابك الأزمات الداخلية مع التدخلات الإقليمية والدولية. إضافة إلى الدعوة لإعادة صياغة الموقف الدولي تجاه اليمن، من منظور استراتيجي وإنساني متكامل.

تغطية الحرب والتجربة الميدانية

لم يكن دخول محمد القاضي إلى عالم تغطية الحروب في اليمن وليد الصدفة، بل جاء امتدادًا لسنوات من العمل الصحفي في بيئة مشحونة بالصراعات الداخلية. فقد بدأ منذ مطلع الألفية الجديدة بمتابعة أحداث الحرب بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثيين في صعدة (2004-2010)، وهي مرحلة رسخت لديه فهمًا عميقًا لديناميكيات الصراع المسلح في البلاد، وأكسبته خبرة التعامل مع بيئة ميدانية محفوفة بالمخاطر.

لكن ذروة مهمته المهنية وانخراطه الكامل في التغطية جاءت مع اندلاع الحرب الشاملة عام 2015، حين سيطر الحوثيون – بدعم سياسي وعسكري من إيران – على العاصمة صنعاء وأطاحوا بالحكومة المعترف بها دوليًا، ما دفع التحالف العربي بقيادة السعودية للتدخل عسكريًا وبدء حملة جوية واسعة ضد الحوثيين. في هذه اللحظة، وجد القاضي نفسه أمام مهمة استثنائية: نقل تفاصيل حرب مفتوحة تتقاطع فيها الأبعاد المحلية والإقليمية.

على مدار أكثر من خمس سنوات متواصلة، لم يكن عمله مقتصرًا على متابعة البيانات الرسمية أو التصريحات السياسية، بل عاش التجربة على خطوط التماس، متحركًا بين جبهات القتال والمناطق المحاصرة، خصوصًا مدينة تعز التي شكلت واحدة من أكثر بؤر الصراع مأساوية. هناك، كان عليه أن يوثق يوميًا مظاهر الانهيار الإنساني: نقص الغذاء، انقطاع الدواء، تدمير البنية التحتية، ومعاناة المدنيين تحت القصف والحصار.

هذه السنوات الخمس لم تمر دون ثمن باهظ؛ فقد تعرض القاضي للاختطاف، وأصيب بجروح كادت أن تفقده إحدى عينيه، ونجا من الموت في أكثر من مناسبة، فضلًا عن تلقيه تهديدات متكررة بالقتل ومضايقات أمنية ونفسية. ومع ذلك، واصل عمله مدفوعًا بقناعة راسخة أن نقل الحقيقة واجب مهني وأخلاقي، وأن كشف حجم المأساة للعالم قد يسهم في إنقاذ الأرواح أو تحريك الضمير الدولي.

لقد تحولت مهمته الصحفية في تلك الفترة إلى ما يشبه المعركة الشخصية؛ معركة ضد الخوف وضد محاولات إسكات الصوت المستقل، وضد الإحباط الذي يخلّفه استمرار الحرب بلا أفق للحل.

البعد الإنساني للأزمة

لم تكن تقارير محمد القاضي مجرّد رصدٍ لأحداث الحرب من منظور عسكري أو سياسي، بل كانت تركّز على الجانب الأكثر إيلامًا في المشهد اليمني: المأساة الإنسانية التي يعيشها المدنيون، ولا سيما في مدينة تعز التي خضعت لحصار خانق من قبل الحوثيين لسنوات. هناك، تحوّل توثيق الحياة اليومية إلى مهمة إنقاذية، إذ حرص القاضي على نقل صورة حقيقية لما يعانيه الناس من نقص حاد في الغذاء والدواء، وتوقف شبه كامل للخدمات الأساسية.

في المواد الإعلامية والصحفية التي كان يعدها ميدانيًا  لم يكن يكتفي بسرد الأرقام أو الإحصاءات، بل كان يصف تفاصيل معاناة الأسر التي تقف في طوابير طويلة للحصول على القليل من الطحين، والمستشفيات التي تعمل بأدوات متهالكة وموارد شبه معدومة، والأطفال الذين يعانون من سوء التغذية وأمراض يمكن علاجها بسهولة في ظروف طبيعية. حتى أبسط الاحتياجات مثل الثلج لحفظ الأدوية أو اللبن لغذاء الأطفال، كانت تختفي من الأسواق، لتصبح الحياة اليومية في المدينة اختبارًا قاسيًا لقدرة الناس على الصمود.

أثر هذه التغطيات لم يكن معنويًا فقط، بل امتد إلى نتائج ملموسة. فقد روى القاضي أن بعض المستشفيات حصلت على دعم عاجل بعد عرض معاناتها في تقاريره، مما ساهم في إنقاذ حياة مرضى غسيل الكلى وأشخاص يعانون من أمراض مزمنة تهدد حياتهم. كان هذا التفاعل الإيجابي من الجهات المانحة أو المنظمات الإنسانية بمثابة تأكيد على أن الكلمة والصورة يمكن أن تكون أقوى من الرصاص في إنقاذ الأرواح.

لكن هذا الالتصاق اليومي بالمأساة لم يكن بلا ثمن. فقد دفع القاضي كلفة نفسية وجسدية باهظة، إذ عانى من الصدمات التي خلفتها مشاهد الدمار والموت، وتعمقت جراحه الشخصية بفقدان والدته أثناء الحرب، وعدم قدرته على حضور جنازتها بسبب الحصار وخطورة التنقل. هذا الغياب ترك في نفسه أثرًا لا يمحى، وجعل التغطية بالنسبة له أكثر من مجرد عمل صحفي، بل التزام إنساني تجاه وطنه وأهله الذين ما زالوا يعيشون المأساة.

وقال: "كنت أذهب للمستشفيات وأبلغ عن مشاكلهم. وفي اليوم التالي، كان هناك دعم فوري، وتم إنقاذ حياة كثيرين. هذا الجانب الإنساني كان المحرك الأساسي لي رغم الصدمة النفسية والخسائر الشخصية، خاصة بعد وفاة والدتي وعدم تمكني من حضور جنازتها."

الوضع الحالي في اليمن

يصف محمد القاضي المشهد الراهن في اليمن بأنه حالة مستمرة من "اللا حرب واللا سلام"، وضع يجمّد البلاد في دائرة الصراع دون الوصول إلى تسوية أو استقرار. فاليمن اليوم منقسم سياسيًا وإداريًا بين سلطتين متنازعتين، لكل منهما سماتها ومشكلاتها الخاصة.

وقال: " في الشمال تفرض جماعة الحوثيين سيطرة كاملة بنظام أمني صارم ذي طابع استبدادي، حيث تُقيَّد الحريات العامة وتُحكم السيطرة على مؤسسات الدولة ومواردها، مع تشديد القبضة الأمنية على المجتمع، ما يجعل الحياة اليومية خاضعة للرقابة والضبط السياسي. وفي الجنوب والمناطق التابعة للحكومة المعترف بها دوليًا: تسود حالة من الانفلات الأمني وتعدد مراكز النفوذ، حيث تنتشر الجماعات المسلحة وتضعف مؤسسات الدولة، إلى جانب أزمة اقتصادية خانقة تضعف قدرة الحكومة على تقديم الخدمات الأساسية أو ضبط الأوضاع المعيشية.

وأوضح أن الأزمة الاقتصادية تشكل أحد أخطر ملامح الوضع الحالي؛ فالعملة الوطنية فقدت جزءًا كبيرًا من قيمتها، ما أدى إلى ارتفاع هائل في أسعار السلع الأساسية وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين. ومع شح الموارد وغياب فرص العمل، تزداد معدلات الفقر والجوع، وتتعمق الأزمة الإنسانية حتى باتت ملايين الأسر بحاجة ماسة إلى المساعدات.

وأشار الصحفي القاضي إلى إن الصراع اليمني خرج منذ سنوات من إطاره المحلي البحت، لكن التطورات الأخيرة جعلت البعد الدولي أكثر وضوحًا وخطورة. فهجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر لم تهدد فقط الملاحة الدولية وأمن التجارة العالمية، بل ربطت الأزمة اليمنية مباشرة بالأمن البحري الدولي. كما أن تورط الحوثيين في الحرب على غزة أضاف بعدًا سياسيًا وأيديولوجيًا جعل اليمن جزءًا من شبكة الصراعات بين إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما من جهة أخرى.

وقال: "الجميع شعر بالألم حين بدأ الحوثيون بقصف السفن في البحر الأحمر. اليمن لم يعد قضية محلية، أصبح لها تأثير مباشر على التجارة والأمن البحري العالمي."

هذه التداخلات الإقليمية والدولية حولت اليمن إلى ساحة مواجهة مفتوحة، تتجاوز فيها الحسابات المحلية لتصبح جزءًا من لعبة النفوذ الكبرى في الشرق الأوسط. وفي ظل غياب عملية سلام فعالة وازدياد تعقيد المشهد، يبقى مستقبل البلاد غامضًا، والمواطنون هم الخاسر الأكبر، يعيشون بين فكي حرب لا تنتهي وحصار اقتصادي وإنساني يزداد قسوة.

النقد الموجَّه للمجتمع الدولي

عبّر محمد القاضي في حديثه عن استياء واضح من الطريقة التي تعامل بها المجتمع الدولي، وخصوصًا الولايات المتحدة والدول الغربية، مع الملف اليمني على مدار العقود الماضية. فبرأيه، ظلت النظرة الغربية لليمن اختزالية ومحدودة، حيث جرى التعامل معه باعتباره مجرد "مشكلة سعودية" أو مصدر محتمل لتهديد إمدادات النفط، دون الاعتراف بكونه دولة ذات أهمية استراتيجية مستقلة، لها تاريخ معقّد وواقع جيوسياسي بالغ الحساسية.

يشدد القاضي على أن موقع اليمن عند مضيق باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية في العالم، يجعله لاعبًا محوريًا في أمن الطاقة والتجارة الدولية، إذ تمر عبره قرابة 30% من إمدادات النفط العالمية في طريقها إلى أوروبا وآسيا. ومع ذلك، لم تحظ هذه الحقيقة بالاهتمام الكافي لدى صانعي القرار الغربيين، الذين فضلوا النظر إلى اليمن من خلال عدسة المصالح السعودية أو كجزء من التوازنات الخليجية، بدلًا من فهمه كعامل مستقل في المعادلة الإقليمية والدولية.

ويرى القاضي أن الاهتمام الدولي الفعلي لم يتحرك إلا حين بدأت هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، ما أضر بشكل مباشر بحركة التجارة العالمية، ورفع تكاليف الشحن والتأمين، وأجبر السفن على تغيير مساراتها إلى طرق أطول وأكثر كلفة عبر رأس الرجاء الصالح. عندها فقط شعر الغرب بـ"ألم الأزمة" لأنه مسّ مصالحه الاقتصادية المباشرة، بينما كانت معاناة الملايين من اليمنيين قبل ذلك تمرّ في صمت دولي شبه تام.

وانطلاقًا من هذا الواقع، دعا القاضي إلى إعادة النظر جذريًا في الموقف الدولي تجاه اليمن، بما يتجاوز ردود الفعل اللحظية أو الحلول المؤقتة التي تشبه – بحسب تعبيره – "إطفاء النار دون معالجة جذورها". وشدد على ضرورة أن يتبنى المجتمع الدولي مقاربة شاملة تقوم على فهم عميق لجذور الصراع، ومعالجة أسبابه البنيوية، وبناء مسار سلام مستدام يراعي مصالح اليمنيين أولًا، بدلًا من تسويات سريعة تعيد إنتاج الصراع في صورة أشد تعقيدًا وخطورة.

صورة قاسية

تعكس رواية محمد القاضي مشهدًا شديد القسوة لما تعنيه الصحافة الميدانية في بيئة حرب، حيث يتحوّل العمل الصحفي من مجرد مهنة إلى اختبار يومي للبقاء على قيد الحياة. في حديثه، يتضح أن نقل الحقيقة من قلب الجبهات ليس فقط عملًا محفوفًا بالمخاطر، بل مغامرة مستمرة يدفع الصحفي ثمنها من سلامته الجسدية وصحته النفسية، وحتى من حياته الاجتماعية والأسرية. الإصابات، التهديدات، والخسائر الشخصية التي تعرض لها القاضي تجعل قصته مرآة لآلاف الصحفيين الذين يعملون في مناطق النزاع، لكن مع فرق جوهري: أن هذه التضحيات لا تأتي في سبيل الشهرة أو المكسب، بل من أجل كشف مأساة شعب محاصر بين الحرب والجوع.

لكن هذه الشهادة الميدانية لا تقف عند حدود التجربة الشخصية، بل تتجاوزها لتكشف أن الأزمة اليمنية خرجت منذ زمن من إطارها المحلي. فما كان في بداياته نزاعًا داخليًا بين أطراف يمنية، أصبح اليوم عقدة جيوسياسية متشابكة، يتداخل فيها الإقليمي مع الدولي، وتنعكس تداعياتها على الأمن البحري والتجارة العالمية وحتى على أسعار السلع والطاقة في أسواق بعيدة جغرافيًا مثل أوروبا وأمريكا الشمالية.

من هذا المنطلق، فإن الرسالة الأبرز التي ينقلها القاضي هي أن إهمال اليمن لم يعد خيارًا، لأن تداعياته لم تعد محصورة في حدوده. التعامل مع الأزمة يتطلب رؤية مزدوجة: إنسانية تستجيب لحاجات ملايين المدنيين الذين يواجهون المجاعة وانعدام الخدمات، واستراتيجية تدرك أهمية اليمن كممر حيوي في معادلة الأمن الإقليمي والدولي.

ويحذر القاضي من أن أي استمرار في النظر إلى اليمن باعتباره "ملفًا ثانويًا" أو مجرد مشكلة أمنية لدولة أو اثنتين، سيؤدي إلى تفاقم الصراع وتحوله إلى مصدر تهديد أوسع للعالم بأسره. فوقف معاناة الملايين وتهدئة بؤرة الصراع في اليمن ليس مسألة تضامن إنساني فقط، بل ضرورة استراتيجية لحماية استقرار المنطقة ومنع أزمات اقتصادية وأمنية عالمية أكبر في المستقبل.

المصدر: نيوزيمن

كلمات دلالية: الإقلیمیة والدولیة محمد القاضی مع الدولی فی الیمن لم یکن

إقرأ أيضاً:

اليمن.. المبادرات المجتمعية بديلاً من مشاريع الدولة الخدمية

وسط أزمات اليمن المتراكمة، تغيب المشاريع الخدمية التي تنفّذها السلطات في البلاد، فيُحرَم المواطنون من الكثير. لكنّ مبادرات تُسجَّل هنا وهناك، تأتي بها جهات مختلفة في محاولات لسدّ النقص الرسمي.

 

مرّ أكثر من أربعين عاماً على شقّ طريق مديرية مشرعة وحدنان، التابعة لمحافظة تعز اليمنية، جنوب غربي البلاد، الذي يربط المديرية بمدينة تعز، غير أنّ أبناء قرية عدن ديمة ظلّوا يحلمون بوصول الطريق إلى قريتهم، وذلك من أجل التخفيف من معاناتهم في نقل المواد التي يحتاجون إليها في عيشهم وكذلك نقل المرضى. يُذكر أنّ الطريق الرئيسي يبعد عن قرية عدن ديمة نحو كيلومترَين، الأمر الذي يضاعف معاناة الأهالي. من هنا، بجهود ذاتية، قرّر الأهالي شقّ الطريق بأنفسهم وبأدوات بدائية عبر مبادرة مجتمعية أنشأوها، وذلك بعد طول خلاف بينهم وبين أهالي قرية المحرس المجاورة على قطعة أرض. وفي النهاية، حُلّت المشكلة بالتحكيم القبلي، وكان التراضي بين الجانبَين.

 

يقول داؤود العبيدي، من أبناء قرية عدن ديمة، لـ"العربي الجديد" إنّ "بعد حلّ الخلاف بين القريتَين، اجتمعنا نحن أبناء قرية عدن ديمة، وقرّرنا شقّ الطريق الفرعي الذي يصل قريتنا بطريق المديرية الرئيسي. فشكّلنا مبادرة مجتمعية، واستعنّا بخبراء قدّموا دراسات هندسية للطريق المزمع إنجازه". يضيف العبيدي أنّ "أهالي عدن ديمة عمدوا إلى تعويض أهالي قرية المحرس عن الأراضي الخاصة بمزارع القات التي سوف يجتازها الطريق. ثمّ بدأوا بشقّ الطريق الذي من شأنه أن يفيد أكثر من ثلاثة آلاف نسمة؛ هم سكان قرى عدن ديمة والنوامي والرباط والأرجام والعويرضة".

 

ويوضح العبيدي: "بدأنا العمل بجهود ذاتية، علماً أنّ سكان القرية هم من المزارعين البسطاء، وليس من بينهم تجّار أو مغتربون قادرون على تقديم الدعم وتبنّي المشروع. وعرضنا مبادرتنا على فاعلي خير عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام محلية، وقد أظهرنا معاناة الأهالي في شقّ الطريق يدوياً". يتابع أنّ "بعد إنجاز نحو نصف الأعمال، تلقّينا دعماً من فاعلي خير، وأتممنا العمل"، واصفاً الطريق بأنّه "إنجاز كبير خفّف كثيراً من الأعباء عن الأهالي الذين بدت واضحة عليهم الفرحة عند وصول أول سيارة إلى القرية".

 

وتُعتبر مبادرة طريق عدن ديمة واحدة من مئات المبادرات الاجتماعية التي نفّذها يمنيون، بوصفها مشاريع خدمية، في ظلّ غياب الدولة، مع العلم أنّ تلك المبادرات تعتمد بصورة رئيسية على المواطنين في تمويلها وإنجازها. ويُسجَّل هذا النوع من المبادرات في الريف اليمني، خصوصاً في محافظات تعز وذمّار وريمة.

 

وكانت الحرب التي يشهدها اليمن، منذ أكثر من عشر سنوات، قد أدّت إلى غياب مؤسسات الدولة، وتخلّفها عن دورها في ما يخصّ تقديم الخدمات العامة للمواطنين، إذ إنّها صارت عاجزة عن القيام بدورها وسط الأزمة الإنسانية الكبرى. وقد دفع هذا الغياب المجتمع إلى تحمّل مسؤولياته، من خلال مبادرات خاصة بمشاريع متنوّعة بدعم من أبناء المجتمع، ولا سيّما من التجّار والمغتربين الذين يُعَدّون العمود الفقري لهذه المبادرات. وتشمل أبرز المشاريع شقّ طرقات ودعم قطاع التعليم، بالإضافة إلى أخرى في مجالات الزراعة والصحة والمياه والصرف الصحي وغيرها.

 

ووسط الحرب في البلاد، سُجّلت واحدة من أولى المبادرات المجتمعية في منطقة وصاب وسط اليمن، قبل أن تتوسّع المبادرات وتتمدّد إلى مختلف محافظات اليمن، خصوصاً محافظة ريمة التي قامت فيها مشاريع شقّ طرقات في جبال شديدة الوعورة، وهو أمر سُجّل في مختلف أنحاء البلاد.

 

وإلى جانب شقّ الطرقات، غطّت المبادرات المجتمعية جوانب أخرى، كما هي الحال في ريف تعز، مع إطلاق أبناء العزاعز مبادرة لدعم التعليم في المنطقة. ويقول صبري العزعزي، من مؤسّسي المبادرة، لـ"العربي الجديد" إنّ "مع نشوب الحرب في اليمن وتوقّف صرف الرواتب، اضطرّ مدرّسون كثيرون إلى ترك التعليم والبحث عن مصادر دخل أخرى، الأمر الذي انعكس سلباً على هذا القطاع. فأنشأنا مبادرة تعتمد على جمع التبرّعات من المغتربين والتجّار لتشييد مدارس، وتوفير رواتب شهرية للمدرّسين في مقابل استمرارها بأداء العملية التعليمية. كذلك دعمنا التلاميذ بالمستلزمات المدرسية".

 

في هذا السياق، يقول الصحافي، أحمد الكمالي، مؤسس ورئيس تحرير منصة بناء المتخصّصة في رصد المبادرات المجتمعية، لـ"العربي الجديد": "لا بيانات رسمية شاملة لمشاريع المبادرات المجتمعية التي نُفّذت في اليمن خلال الحرب. ووفقاً للأرقام المتوفّرة، فإنّ عدد المبادرات التنموية التي نُفذِّت في 13 محافظة يمنية تحت سيطرة الحوثيين بلغت 1537 مبادرة، خلال عام 2020، علماً أنّ العدد الأكبر منها شمل طرقات بنسبة 59%، يليها التعليم بنسبة 11%، ثمّ المياه والزراعة ومبادرات أخرى في الصحة والبيئة والصرف الصحي والأوقاف بنسب متفاوتة".

 

ويشير الكمالي إلى أنّ "تأثير الحرب يقف وراء انتشار هذه المبادرات، إذ من الممكن قراءة ازدهار هذه التجارب بوصفه تعبيراً لمقاومة المجتمع ورفضه الحرب". ويتابع أنّ "نجاح المبادرات يكمن في أنّها تلبّي متطلبات خدمية ماسة للمجتمعات المحلية حيث تُنفَّذ، بالتالي يرى السكان مصلحة حقيقية لهم من خلال الالتفاف حولها. كذلك يأتي دعم المغتربين عامل نجاح، ثمّ تطويع منصات التواصل الاجتماعي بما يخدم تلك المبادرات المجتمعية ونشاطها، الأمر الذي جعلها تزدهر وتتوسّع بوقت قياسي"، مشدّداً على أنّ "في نجاح كلّ تجربة إلهاماً لتجربة أخرى في منطقة أو قرية أخرى من اليمن".


مقالات مشابهة

  • “اليد التي حركت العالم من أجل غزة.. كيف أعاد اليمن كتابة قواعد الحرب البحرية بعد الطوفان؟”
  • إسطنبول تحتضن أكبر تجمع علمي يمني: أكثر من 200 خبير يبحثون سبل النهوض والتنمية في اليمن
  • مي القاضي تستعرض رشاقتها من الجيم
  • جيش الاحتلال: اعترضنا مسيرة قادمة من اليمن
  • رئيس وزراء أستراليا: أرحب بخطة ترامب.. وحل الدولتين طريق إنهاء الصراع بالشرق الأوسط
  • صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
  • صفحات النصر.. قادة عسكريون يوثقون بطولات الجيش المصري في حرب أكتوبر المجيدة
  • اللجنة الدولية للصليب الأحمر تعلن الاستعداد لتسهيل إيصال المساعدات إلى غزة
  • مرفأ بيروت يحصل على شهادة الامتثال الدولية لأمن السفن والمرافئ
  • اليمن.. المبادرات المجتمعية بديلاً من مشاريع الدولة الخدمية