السودان والتعليم في زمن الحرب
تاريخ النشر: 26th, August 2025 GMT
السودان والتعليم في زمن الحرب
الشفيع خضر
بعد حرب الخامس عشر من أبريل في السودان، وفي خضم دوي المدافع وأنين الجرحى وصراخ النازحين، يغيب صوت المعرفة والمستقبل، صوت القلم وهمس الطلاب في الفصول الدراسية. 90 في المئة من أبناء السودان في سن الدراسة، حوالي 19 مليونا، ضاع منهم أكثر من عام دراسي، منهم 17 مليونا أخرجتهم الحرب من نطاق التعليم ليشكلوا فاقدا تربويا هائلا وبحجم غير مسبوق في تاريخ السودان.
والأرقام 19 مليونا و17 مليونا ليست مجرد إحصائية صماء، بل هي عنوان لكارثة وأزمة طنية، وصفتها منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة، اليونسيف، بأسوأ أزمات التعليم في العالم، وستدوم آثارها السالبة والمدمرة على السودان لعقود طويلة في بلد أصلا تعثر نموه منذ فجر استقلاله، ويعاني من التخلف والتراجع على كافة الأصعدة، التنموية والاجتماعية والمعرفية، بينما التجهيل والدجل والخرافة في تصاعد مخيف. فالرقم 17 مليونا فاقد تربوي يمثل جيلاً كاملاً مهددا بالضياع ومثخنا بجراحات الجسد والروح والعقل، جيلا لن يفقد المعارف الأكاديمية فحسب، بل سيفقد البنية النفسية والاجتماعية التي توفرها المدرسة، مما يجعله أكثر عرضة لمختلف أشكال الاستغلال وبؤر التطرف والجريمة والمخدرات والعداء للمجتمع والوطن. أما المدارس والمنشآت التعليمية، فالحرب دمرت آلافا منها، والتي لم تُدمر حُولت ساحاتها إلى مدافن لضحايا القتال وملاجئ لإيواء النازحين، وأصبح معلموها، أكثر من نصف مليون معلم، يعانون معاناة مزدوجة وجهها الأول تملؤه مشاعر الألم والحزن العميق والإحباط المهني بسبب توقف أداء الرسالة التي كرّسوا حياتهم لأجلها، وبسبب الإحساس بفقدان الهوية المهنية والعجز أمام حجم الكارثة المهولة وآثار الفجوة التعليمية على مستقبل البلاد، وبسبب القلق من صعوبة تعويض هذه الخسارة الكبيرة حتى بعد انتهاء الحرب. أما الوجه الآخر لمعاناة المعلمين، فهو تشتتهم ما بين البحث عن قوت يومهم وملاحقة رواتبهم المعلقة، والبحث عن حرفة أو مهنة بديلة أو الهجرة. ورغم هذه المعاناة الحادة، يستشعر المعلمون السودانيون المسؤولية الوطنية، ويحاولون ابتكار الحلول لصالح استمرار العملية التعليمية في ظل الحرب، ولكل أبناء السودان، في هذه الضفة أو تلك، كما سنوضح لاحقا.
صحيح أن التعليم هو حق، ولكنه ليس مجرد حق، بل هو الأساس الوحيد لمستقبل الأوطان. ولكن الحرب في السودان حولت هذا الحق إلى حلم بعيد المنال، ووفرت كل أسباب تدمير ذلك الأساس. الحرب
أصابت التعليم في مقتل، وحولته من مجرد كونه أحد تداعياتها، إلى أزمة عميقة قائمة بذاتها وجبهة عمل رئيسية ضمن جبهات معارك الحفاظ على السودان وبناء مستقبله. وبالإضافة إلى ما أصاب بنية النظام التعليمي من دمار وتقتيل ونزوح قسري ولجوء، فإن تأثيرات الحرب المباشرة على العملية التعليمية في البلاد، أتت بإفرازات وتداعيات سالبة جديدة ضاعفت من عمق هذه الأزمة وزادتها تعقيدا، وإذا لم يتم التصدي لها ومقاومتها، فإن التخريب والدمار لن يتوقف عند العملية التعليمية وحدها، بل سيعمان كل زوايا وأركان الوطن الأخرى، بما في ذلك وحدته وتماسكه. ومن ضمن هذه الإفرازات والتداعيات السالبة، نذكر:
تسييس التعليم وإدخاله ساحة الصراع السياسي، وتحول العملية التعليمية من وسيلة لبناء الوطن إلى أداة في الصراع حول الشرعية من كل طرف، لا سيما محاولة كل طرف احتكار إدارة العملية التعليمية وحرمان الطرف الآخر من تحقيق نقاط إيجابية عن طريق التعليم، ومحاولات جعله وسيلة لإقرار نتائج الحرب. فهناك عدم اعتراف متبادل بين وزارة التربية والتعليم الاتحادية في بورتسودان والإدارات التعليمية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، مما يعني انقساما في النظام التعليمي ووجود سلطتين ونظامين تعليميين غير متواصلين في البلد الواحد، مما يهدد وحدته الثقافية والفكرية وتماسكه الاجتماعي على المدى الطويل. وفي الأسبوع الماضي، جاء في الأخبار أن سلطات الدعم السريع في منطقة نيالا اعتقلت المعلمين في المنطقة الذين وصلتهم رواتبهم من وزارة التعليم في بورتسودان عبر التحويلات البنكية. هذا الاعتقال يمثل تطبيقاً عملياً وبشكل قمعي لسياسة التسييس وعدم الاعتراف المشار إليها. فهؤلاء المعلمون ضحايا، ورواتبهم حق أصيل لهم وهم يسعون ببساطة إلى تأمين قوت عيشهم. وفي هذا الصدد، أصدرت لجنة المعلمين السودانيين تصريحا يرفض ويدين هذا الاعتقال، مؤكدا على استقلالية المعلم وأنه يضع مهنته ومصلحة التعليم فوق الخلافات السياسية.
تجنيد وإشراك الطلاب في العمليات العسكرية، بل وتشجيعهم على ترك مقاعد الدراسة والذهاب إلى جبهات القتال، كما يفهم من قرار وزير التربية والتعليم الاتحادي في بورتسودان بإعفاء الطلبة المشاركين في القتال من الرسوم الدراسية. وبينما يمكن تفسير هذا القرار الخطير، كحافز معنوي، إلا أنه في جوهره تكريس للتجنيد ومكافأة له. لجنة المعلمين السودانيين انتقدت القرار ووصفته بالسابقة الخطيرة ويمثل انتهاكًا مباشرًا صارخًا للمادة (38) من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، التي تحظر تجنيد أو إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة تحت أي ظرف، وأنه يخلق تمييزاً بين الطلاب بناءً على انتمائهم العسكري، مما يقوض فكرة المدرسة كمنطقة محايدة.
الإخلال بمبدأ المساواة في التعليم بين طلاب الولايات المختلفة، بحرمان بعضهم من الانتظام في الدراسة أو الجلوس لامتحانات النقل من مرحلة لمرحلة، بما في ذلك امتحانات الدخول للجامعة.
*الحرب تسببت في معاناة الأسر وتدني القدرة على توفير متطلبات الحياة الأساسية، ومع ذلك فرضت الحكومة رسوما دراسية على الطلاب، مما يكرس المزيد من التمييز وحرمان آلاف الأطفال من حقهم الطبيعي في التعلم.
إن العملية التعليمية يجب أن تكون بعيدة عن الصراع السياسي، والتعليم هو جسر للسلام وليس أداة لتقسيم البلد، بل هو أقوى أداة لتماسكه. إنه الركيزة التي تبني هوية وطنية جامعة تتسع للجميع، وتستند إلى المواطنة وليس الانتماء الجهوي أو العرقي. أما المقترحات حول كيفية التعليم في زمن الحرب، فسنستعرضها في مقالنا القادم.
الوسومالحقوق السودان والتعليم في زمن الحرب العملية التعليمية المواطنة وليس الانتماء الجهوي أو العرقي حرب 15 ابريل د. الشغيع خضر
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحقوق العملية التعليمية حرب 15 ابريل
إقرأ أيضاً:
منسقة الشؤون الإنسانية في السودان: أوقفوا الحرب نريد الوصول إلى الفاشر
جددت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان دينيس براون الدعوة إلى وقف الحرب والسماح للأمم المتحدة بالوصول إلى المتأثرين منها ولا سيما في مدينة الفاشر المحاصرة.
التغيير ـــ وكالات
جاءت دعوة السيدة براون من منطقة طويلة في شمال دارفور التي تزورها حاليا، والتي وصفتها بأنها تمثل “مركزا للأزمة الإنسانية” في المنطقة.
من هناك تحدثت عبر الفيديو، إلى الصحفيين في نيويورك، مشيرة إلى أن طويلة يقيم بها حاليا 600 ألف نازح، فرّ معظمهم من الفاشر والمناطق المجاورة لها، ومن الخرطوم في بداية الحرب في أبريل 2023.
5 آلاف كيلو متر، 3 دول، و3 رحلات
ووصفت دينيس براون مدى صعوبة الوصول إلى طويلة التي تبعد حوالي 50 كيلومترا عن مدينة الفاشر المحاصرة.
وقالت: “اضطررنا لتغيير مسارنا كثيرا بسبب كثرة خطوط الجبهات داخل السودان، مما يجعل الوصول إلى حيث يجب أن نذهب صعبا للغاية. لقد استغرق وصولنا إلى طويلة خمسة أيام و 5000 كيلومتر، عبر ثلاث دول، وثلاث طائرات مختلفة، وثلاثة أيام من القيادة”.
سبب الزيارةوشرحت سبب زيارتها إلى طويلة قائلة: “السبب الرئيسي لوجودي هنا هو أن طويلة هي مركز للاستجابة. منسق الشؤون الإنسانية يحتاج إلى التواجد على الأرض. لكن الأمر يرجع أيضا إلى قربها من الفاشر”.
وقالت إن لدى الأمم المتحدة فريقا جيدا على الأرض لكن ليس بوسعها تقديم “الخدمات التي يجب أن نقدمها لأننا لا نملك المال للقيام بذلك”.
قصص من قلب المعاناة
السيدة براون قالت إن الناس ما زالوا يفرون من الفاشر، مسلطة الضوء على قصص نساء من الفاشر وصلن إلى طويلة هربا من العنف وقد قُتل أزواجهن وأطفالهن.
ثم شاركت قصة امرأة فرت من الفاشر برفقة أطفالها الثلاثة – اثنان منهما على ظهر حمارها وآخر على ظهرها – وقد استغرقت رحلتهم سبعة أيام للوصول إلى طويلة، “وبالطبع كان الطفل الرضيع يعاني من سوء تغذية حاد. هذه مجرد نتيجة يجب أن نتوقعها لأناس يمرون بهذا الوضع المروع ويضطرون للمجيء إلينا، بدلا من وصولنا إليهم”.
أوقفوا العنف، أوقفوا الحرب
وسلطت الضوء على بعض الاحتياجات الملحة، وأولها هو وقف العنف وعن ذلك قالت: “أوقفوا العنف، أوقفوا الحرب. اسمحوا لنا بالمرور. نريد الوصول إلى حيث يوجد الناس. لا نريد أن ننتظر وصول الناس إلينا، لأنهم، لأكون صريحة جدا، سيكونون عندئذ في وضع صعب للغاية”.
وأكدت المسؤولة الأممية على ضرورة الوصول إلى الناس في الفاشر، مشيرة إلى دعوة الأمين العام للأمم المتحدة إلى وقف إطلاق النار. ومضت قائلة:
“نحن منخرطون على كافة مستويات منظومة الأمم المتحدة لتحقيق ذلك. ولكن حتى نحصل على ضمان للمرور الآمن، لا يمكننا إرسال الشاحنات التي هي جاهزة للانطلاق، ولا الأفراد الذين هم جاهزون للانطلاق، بسبب عدم وجود هذا الضمان. لقد فقدنا بالفعل أكثر من 120 من عمال الإغاثة الإنسانية منذ بداية الحرب”
العنف الجنسي: وضع قبيح للغاية
الأولوية الملحة الأخرى التي تحدثت عنها السيدة براون هي وقف العنف الجنسي، “الذي سبق أن أبلغت الأمم المتحدة عن أنماطه المرتبطة بالنزاع والتي تُستخدم كسلاح حرب. وهذا يشمل الاغتصاب، والاغتصاب الجماعي، والاستعباد الجنسي، والعنف الجنسي الذي يرقى إلى مستوى التعذيب”.
العنف الجنسيووصفت المسؤولة الأممية الوضع فيما يتعلق بالعنف الجنسي بأنه “قبيح للغاية”، مسلطة الضوء على معاناة الناجيات ممن التقت بهن وما يمررن به من معاناة. وتابعت: “هذه قضية حماية رئيسية، وليس لدينا ما يشير إلى أي تباطؤ في هذا الوضع المروع”.
ونبهت إلى أن الحماية، بشكل عام، تمثل مشكلة رئيسية، مشيرة إلى أن المدنيين في السودان يدفعون ثمنا باهظا جدا للعنف في ظل التحرش، التخويف، الاغتصاب، القتل، وتعطل الخدمات الاجتماعية الأساسية.
وضع قابل للانفجار
كما سلطت الضوء على سوء التغذية بوصفها أزمة شديدة، مشيرة إلى أن سلاسل الإمداد معطلة: “نحن لا نستخدم الطرق. الطرق في حالة سيئة للغاية. كنا نقود بجانب الطرق. والشاحنات الوحيدة التي عبرتنا كانت شاحنات برنامج الأغذية العالمي واليونيسف. لأن الشاحنات التجارية عددها قليل جدا. لذا فإن الإمدادات محدودة في السوق. أسعار المواد الغذائية ترتفع بشكل جنوني، والحصول على المياه النظيفة محدود، والصرف الصحي سيء للغاية. ولهذا لدينا وباء الكوليرا وحمى الضنك. أريد أن أشدد على أن هذا وضع قابل للانفجار بالنسبة للأطفال الصغار”.
الوضع في كردفانالمنسقة الأممية تحدثت أيضا عن الوضع في كردفان وضرورة “أن نبقيها في مركز اهتمامنا”، ومضت قائلة: “الأمر لا يقتصر على دارفور والفاشر، وهو وضع مروع، بل لدينا حالات مماثلة في كردفان، حيث تتعرض طرق الإمداد للإعاقة، وأسعار المواد الغذائية ترتفع بشكل جنوني، والمساحة الإنسانية محدودة جدا. عندما أتحدث عن المساحة الإنسانية، فإنني أقصد قدرة المجتمع الإنساني على العمل، وتقديم الإمدادات والخدمات أيضا”.
خطة الاستجابة الإنسانية
وقالت منسقة الشؤون الإنسانية إن عدد المحتاجين في السودان – الذي توازي مساحته فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا مجتمعة – يبلغ أكثر من 30 مليون شخص. بينما يبلغ إجمالي عدد النازحين داخل البلاد أكثر من 10 ملايين نازح.
وقالت إن خطة الاستجابة الإنسانية في السودان هي الأعلى تمويلا، “لكننا ممولون بنسبة 25% فقط. لذا، كان كل اجتماع حضرته منذ وجودي في السودان يدور حول الاحتياج الحاد والضخم، والاستجابة المحدودة، لأنه ببساطة لا نملك الموارد للقيام بالمزيد”.
الوسومالأمم المتحدة الدعوة إلى وقف الحرب الفاشر الوصول إلى المتأثرين دينيس براون طويلة منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية