غزة- ببطن مفتوح وأمعاء مكشوفة لا يغطيها سوى شريط نايلون رقيق تستفيق دينا شاهين (21 عاما) من غيبوبتها داخل قسم العناية المكثفة في مستشفى المعمداني في حي الزيتون شرقي مدينة غزة، وتصحو مرتجفة من صوت النسف ودوي المدافع.

ينهش دينا خوف واحد وهو أن يدفع الاجتياح المفاجئ والديها إلى النزوح جنوبا دون أن يتمكنا من اصطحابها، وهي الغارقة في أجهزة التنفس والرقابة الطبية، تتوسل الأطباء بذعر "أرجوكم، اتصلوا بأمي وأبي، قولوا لي إنهما لم يتركاني ولا يزالان في الخارج".

وعلى درج المستشفى المكشوف يجلس والداها منذ أيام بلا نوم، يتشبثان بمكانهما كما لو أن وجودهما هو الصمام الأخير لحياة ابنتهما.

وتقول أم دينا للجزيرة نت "عدنا من جنوب القطاع، ونصبنا خيمة فوق ركام منزلنا في حي الزيتون، لكننا اضطررنا تحت القصف لمغادرتها إلى منطقة محاذية، وهناك أصيبت ابنتنا برصاص طائرة مسيّرة".

دينا شاهين جريحة حرب تعجز عن الحركة والنزوح لإصابتها البليغة في أحشائها (الجزيرة)جراح ومخاوف

كانت دينا قد أنهت تدريبها العملي في مستشفى الشفاء، وعادت إلى خيمتها، وما إن جلست حتى باغتتها رصاصتان من مسيّرة "كواد كابتر"، اخترقت الأولى فخذها دخولا وخروجا، والثانية تفجرت في بطنها، فمزقت أحشاءها.

خضعت لعمليات جراحية متلاحقة واستُؤصل خلالها متران من أمعائها، لكن المضاعفات كانت أوسع من احتمالها، إذ انتفخ بطنها وتسرّب الطعام من جروحها، ثم تفجرت أمعاؤها من جديد، وقبل أيام دخلت عملية أخرى ترك الأطباء بعدها جرحها مفتوحا ينتظرون انحسار التورم والتهاب الأحشاء.

ومع كل يقظة من غفوتها تطلب دينا من الأطباء هاتفا تتأكد به من وجود والديها، خشية أن تفيق وحيدة، فجرحها لا يحتمل النقل، وأمعاؤها المكشوفة تحتاج إلى ظروف خاصة قد لا تتوفر وسط قصف ونزوح جماعي.

والدة دينا لا تفارق ابنتها رغم أوامر التهجير المستمرة (الجزيرة)هاجس جماعي

ليست دينا وحدها من يواجه هذا الهاجس، فبحسب وزارة الصحة في غزة فإن أكثر من ألفي مريض وجريح، من بينهم 120 على أجهزة التنفس والعناية المركزة، و400 مصاب بالفشل الكلوي، إلى جانب الأطفال والخدج في الحضانات وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، جلهم سيشكل النزوح خطرا داهما على حياتهم، وقد يموت كثيرون في أثناء النقل القسري جنوبا.

إعلان

وتؤكد الوزارة أن نقل هؤلاء أشبه بمغامرة مميتة، فمستشفيات الجنوب تعمل بنسبة إشغال تفوق 300%، ولا قدرة لها على استقبال آلاف الحالات الجديدة.

ويقول المدير العام للوزارة الدكتور منير البرش للجزيرة نت "لن نغادر أماكننا، هذا أمر مرفوض جملة وتفصيلا، نحن باقون في غزة، ولن ينجو أي من هؤلاء المرضى إذا تم تهجيرهم تحت النار".

ويضيف البرش أن الاحتلال لم يوجه إنذارا رسميا لإخلاء المستشفيات، لكنه طلب "الاستعداد" لوضع خطط نقل المرضى إلى الجنوب، وهو سيناريو ترى الوزارة أنه يذكّر بمجزرة نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في مستشفى النصر للأطفال حين أجبر الاحتلال الطواقم على الخروج تحت الدبابات والرصاص، وبقي 6 أطفال في الحضّانة حتى ماتوا اختناقا.

وحذّرت الوزارة من تكرار الكارثة، فالنزوح القسري في ظل قصف الطرقات وغياب القدرة على نقل الأجهزة الطبية الحساسة -مثل أجهزة التصوير أو التنفس الصناعي- لا يعني سوى موت جماعي وشيك.

حق مشروع

إن رفض النزوح وإصرار وزارة الصحة على البقاء في غزة حق محمي يكفله القانون الدولي الإنساني.

وبحسب الخبير القانوني أسامة سعد، فإن رفض المشافي الانصياع لأي أمر بالإخلاء لا يُعد مخالفة، بل تمسكا بحق مشروع، لكن إجبارها على الإخلاء أو استهدافها بسبب رفضها يشكل انتهاكا خطيرا يعزز المسؤولية الجنائية الدولية على القوة المحتلة.

وأضاف سعد للجزيرة نت أن اتفاقية جنيف الرابعة تحمي المستشفيات المدنية، وتفرض على جميع الأطراف احترامها وحمايتها في جميع الظروف ما دام أنه لا يتم استخدامها لأغراض عسكرية.

وأكد أن المادة (18) من الاتفاقية تمنع حرمان المدنيين من الرعاية الطبية، في حين تحظر المادة (12) من البروتوكول الإضافي الأول نقل أو إخلاء المنشآت الطبية إلا إذا كانت هناك أسباب تتعلق بسلامة المرضى أو العاملين فيها.

ويرى سعد أن فرض النزوح القسري على المشافي دون ضمان استمرار الخدمات الطبية يُعتبر تهجيرا قسريا محظورا بموجب اتفاقية جنيف، وقد يُصنف جريمة حرب وفق نظام روما الدولي، خصوصا إذا أدى إلى حرمان المدنيين من الرعاية الطبية الأساسية أو تنفيذ تهجير جماعي قسري.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات

إقرأ أيضاً:

ماذا تغير على سكان غزة بين النزوحين الأول والثاني خلال سنتين؟

تدخل حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة سنتها الثالثة، وسط تواصل عمليات القتل والتهجير والتجويع والحصار ومختلف الجرائم ضد الإنسانية التي جرى توثيقها من كبرى المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان.

ولم تتوقف عمليات النزوح داخل محافظات قطاع غزة الذي يمتد من الشمال إلى الجنوب على طول نحو 41 كيلومترًا، ويتراوح عرضه بين 6 كيلومترات و12 كيلومترًا فقط، منذ بدء الحرب، لكنها تكررت بشكل واسع في مناسبتين بارزتين.

وكان النزوح الأول من شمال قطاع غزة إلى جنوب منطقة وادي غزة التي تقع على أطراف المدينة في الأسابيع الأولى من حرب الإبادة، بينما جاء النزوح الأكبر التالي قبل أسابيع قليلة من الذكرى الثانية لاندلاع الحرب، وذلك مع انطلاق عملية "عربات جدعون 2" التي تهدف إلى احتلال المدينة بالكامل.

"أيام مثل السنوات" 
يقول تامر (33 عاما) وهو الذي بقي في مدينة غزة وواجه الإبادة والمجاعة طول فترات الحرب حتى مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2025: إنه وصل إلى مدينة دير البلح وسط القطاع منذ 4 أيام فقط.


ويؤكد تامر لـ"عربي21" أن هذه "الأيام الأربعة مرت عليه وكأنها 4 سنوات، اشتريت خيمة منذ بدء تهديدات احتلال مدينة غزة، وحاولت تجهيز نفسي وعائلتي لكل الأزمات التي يمكن أن أتعرض لها، لكن لا أحد يمكنه الاستعداد لكل شيء، لأنه فعليا هناك أزمة في كل شيء".

ويضيف "في غزة ورغم كل الأهوال التي عشناها كنا دائما في بيت، سواء في بيتي المتضرر أو في بيوت الأقارب والمعارف لفترات مؤقتة، الآن نحن في الطرقات تحت الخيام، أعرف أن هذا حال الكثير من الناس منذ شهور الحرب الأولى، لكنه وضع جديد تماما علينا".

وكشف تامر أنه حاول بالفعل النزوح خلال شهور الحرب الأولى بعدما وجد العديد من معارفه وأقربائه ينزحون بالفعل بسبب وجود أماكن سكنهم ضمن مناطق تعرضت لاجتياح بري وتدمير واسع، قائلا: "بصراحة في ذلك الوقت لم أجد أحد أذهب إليه، والآن نزحت من بيتي إلى الشارع لأقيم خيمة حفاظا على أرواح أفراد عائلتي".

"كل شيء تغير"
يقول أبو يوسف (52 عاما) إنه عندما نزح أول مرة في أسابيع الحرب الأولى استضافه بعض الأقارب في مدينة خانيونس ضمن منطقة "مدينة حمد" جنوب قطاع غزة، مضيفا "هناك عشنا كأننا في بيتنا، كان هناك بضائع يمكن شراؤها بأسعار منطقية، كان هناك بيت ننزح إليه، وكان هناك وسائل مواصلات نستخدمها".

ويؤكد أبو يوسف لـ"عربي21" أنه اضطر إلى إيقاف سيارته الشخصية منذ فترة طويلة، بسبب عدم توفر وقود إلى بأسعار مرتفعة جدا، وبسبب تلف بطاريتها نتيجة توقفها عن الحركة.


ويوضح أنه عندما اضطر إلى تشغيل السيارة مرة أخرى للنزوح حتى يحمل فيها كبار السن من عائلته وبعض الحاجيات الأساسية اضطر إلى دفع مبلغ يقترب من 2000 دولار، من أجل شراء بطارية تشغل السيارة ووقود من أجل رحلة النزوح.

ويشير إلى أنه استأجر "حاصل" (كان محلا تجاريا صغيرا سابقا) ليقيم فيه مع عائلته، موضحا "طبعا ثمن الإيجار كان مرتفعا جدا، لكن يبقى أهون وأقل قسوة من الخيمة، على أمل أستأجره لشهر أو شهرين وتنتهي الحرب بحسب الحركات الحالية".

"مشيا على الأقدام"
يقول أبو محمد (65 عاما) وهو يعمل خياطا بسيطا على ما تبقى من مشغله، وعلى آلة وضعها أمام عتبة بيته عندما عاد إلى غزة خلال الهدنة المؤقتة مطلع العام الجاري: إنه نزح مرة أخرى لكن متأخرا جدا.

ويضيف أبو محمد لـ"عربي21" أنه بقي في بيته رغم اشتداد الخطر بشكل كبير في المنطقة الشمالية الغربية من مدينة غزة، وذلك بسبب عدم توفر إمكانية لديه لتحمل تكاليف النقل إلى الجنوب، مشيرا إلى أنه "يعمل على ماكينة الخياطة ويجمع شواكل بسيطة لقاء تصليح وخياطة الملابس المهترئة لبعض الجيران".


ويذكر أنه "بعد مساعدات من أقاربه في خارج غزة تمكن هو وأولاد أخوته من التشارك في ثمن رحلة شاحنة" لتحمل أثاثهم الأساسي والخيام الممزقة التي عادوا فيها من النزوح الأول، ليعودوا للعيش فيها ضمن النزوح الثاني.

ويكشف أبو محمد "أوضاعنا سيئة جدا، ونعتمد على طعام التكيات والمبادرات الخيرية، لا يوجد أموال أو عمل أو أي مصدر دخل، خيامنا نعرف أنها لم تحمينا من الشتاء، ونتأمل أن تنتهي الحرب خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وندعو الله أن يحفظ ما تبقى من بيوتنا حتى نعود لها من جديد".

مقالات مشابهة

  • ماذا تغير على سكان غزة بين النزوحين الأول والثاني خلال سنتين؟
  • في الذكرى الثانية لطوفان الأقصى.. صحة غزة: 67 ألف شهيد و169 ألف جريح منذ بداية الحرب
  • "طوفان الأقصى": 1150 قتيلًا عسكريًا إسرائيليًا و80 ألف جريح و30 ألف مضطرب نفسيًا
  • الرئيس التونسي يعرب عن تقديره لجهود مصر في رفض تهجير سكان غزة
  • مركز حقوقي يحذّر من مخاطر إقامة مستشفى أميركي ميداني في رفح تحت السيطرة “الإسرائيلية”
  • القبض على مواطن لنقله (11) مخالفًا لنظام أمن الحدود
  • ستيني أمطر المارة بـ 50 رصاصة.. 15 جريحًا بإطلاق نار في سيدني
  • "الجهاد" بذكرى انطلاقتها: شعبنا ومقاومته أفشلا محاولات تهجير أهلنا من غزة
  • غزة بعد عامين من الشتات .. أسرٌ مكسورة ومجتمعات تولد من الخيام
  • تحذر أممي من مخاطر محتملة على المحاصيل الزراعية والمواشي باليمن