جودة مياه الشرب تحت الاختبار و لا مؤشرات لنفوق الأسماك

 

في أعقاب الحرب التي شهدتها ولاية الخرطوم، واجهت العاصمة تحديات بيئية جسيمة نتيجة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، واندلاع الحرائق، وتحلل الجثث، وتلوث مصادر المياه والتربة.


ومن أجل تقييم الوضع البيئي، أجرينا حوارًا مع مديرة الإدارة العامة لتقييم الأثر البيئي والتراخيص/ مستشار المختبر البيئي بالمجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية والريفية بولاية الخرطوم دكتورة ندى عبد العزيز بابكر.

الخرطوم : كمبالا: التغيير

تناول الحوار أبرز المخاطر البيئية التي تعرضت لها العاصمة، والتدابير المتخذة لإزالة المخلفات، إضافة إلى مشروع المسح البيئي الجاري تنفيذه بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) و هو الذراع البيئي للأمم المتحدة، ويعمل على دعم الدول في مجالات مكافحة التلوث، التغير المناخي، وحماية الموارد الطبيعية، إضافة إلى الاستجابة للكوارث البيئية.

لمعرفة مدى تلوث البيئة نتيجة تحلل الجثث والحرائق لابد من عمل قياسات لمعرفة نوع وتركيز الملوثات

ويهدف المشروع المذكور لمعرفة الوضع البيئي ووضع حلول ومعالجات فعالة.
كما ناقش الحوار خطط إعادة الإعمار البيئي وسبل ضمان جمع بيانات دقيقة بالرغم من التحديات المتعلقة بتدمير المختبر البيئي الوحيد في العاصمة.
و تطرق لاثر الحرائق الكبيرة وانبعاثات الأسلحة على جودة الهواء في العاصمة، وهل فعلاً توجد مناطق أكثر خطورة بيئيًا وتحتاج إلى فحوصات عاجلة، مثل الشجرة، بري، توتي، بحري، وكرري.

هل توجد خريطة دقيقة للألغام والذخائر غير المتفجرة المزروعة في العاصمة ومحيطها؟

ليس من اختصاص ومهام المجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية والريفية.

ما مدى احتمالية استمرار انفجار الألغام بشكل عشوائي يوميًا في مناطق مثل الكدرو؟

أيضا ليس من اختصاص ومهام المجلس الأعلى للبيئة.

تدمير المختبر البيئي الوحيد في الخرطوم يعقد جهود المسح البيئي بعد الحرب

إلى أي مدى أثّر تحلل الجثث والحرائق الكبيرة على التربة والمياه في الخرطوم؟

لمعرفة مدى تلوث البيئة نتيجة تحلل الجثث والحرائق لابد من عمل قياسات لمعرفة نوع وتركيز الملوثات على عناصر البيئة (الهواء والماء والتربة). حكومة الولاية قامت بإزالة الجثث والمخلفات منذ توقف الحرب بالولاية، ومازالت تعمل على الإزالة وحملات النظافة بتنسيق كامل بين الدفاع المدني ووزارة الصحة والمجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية والريفية وهيئة نظافة ولاية الخرطوم ومشاريع النظافة بالمحليات ومنظمة الهلال الأحمر. حيث تمت إزالة الجثث وتعقيم المناطق، ولا توجد حالياً جثث في الولاية إلا المدفونة في ميادين عامة أو أحياء، وجارٍ نقلها إلى المقابر المخصصة في كل منطقة.

ما هي أخطر الملوثات التي يمكن أن تنتج عن تحلل الجثث واستخدام الأسلحة الثقيلة داخل الأحياء؟

كمعلومات علمية أي عنصر كيميائي يكون أعلى من الحدود المسموح بها حسب المعايير المحلية والعالمية المتفق عليها يعتبر ملوثاً، وأي ظهور أحياء دقيقة بكمية غير طبيعية يعتبر أيضاً ملوثاً ويؤثر على البيئة والنظام البيئي عامة.

وزارة الصحة الاتحادية قالت إنها تحققت من عدم وجود سلاح كيميائي بنفس وسائل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والوكالة الدولية للطاقة الذرية، فهل السودان فعلاً يمتلك مثل هذه الأجهزة والتقنيات؟

نعم، توجد أجهزة بالسودان لعمل القياسات، لم تتأثر كثيراً من الحرب، وبدأت صيانتها وتجهيزها.

هل لدى السودان مراكز بحثية أو مختبرات قادرة على كشف التلوث الكيميائي أو الإشعاعي بشكل مستقل، أم يعتمد فقط على الدعم الخارجي؟

نعم، بالسودان مختبرات داخل الولاية وخارجها يمكن أن تقوم بعمل القياسات. والآن تُجرى قياسات ضمن مشروع المسح البيئي لولاية الخرطوم بعد الحرب.

هل تلوث النيل أو القنوات المائية نتيجة رمي الجثث أو النفايات أو مخلفات الحرب؟

للإجابة على هذا السؤال لابد من عمل قياسات معملية توضح ذلك. مع العلم أنه لم يتم رصد نفوق للأسماك أو الكائنات المائية، ولم ترد أي بلاغات منذ اندلاع الحرب من المناطق المطلة على النيل بوجود أي تغيرات أو حالات نفوق. ومازال المسح البيئي يعمل للتأكد من ذلك.

ما هي خطورة هذا التلوث على مياه الشرب والثروة السمكية وصحة السكان؟

بخصوص مياه الشرب تقوم الجهة المختصة (هيئة مياه ولاية الخرطوم) في كل محطاتها النيلية بتحاليلها قبل دخولها الخدمة للتأكد من صلاحيتها. كما تُجرى تحاليل لمياه الآبار الخاصة بالشرب. ولمزيد من التأكد، يجري المسح البيئي للولاية، وستُجرى قياسات لكل مصادر المياه.

كيف أثرت الحرائق الكبيرة وانبعاثات الأسلحة على جودة الهواء في العاصمة؟ هل هناك مخاطر حالية مثل أمراض تنفسية أو انتشار غازات سامة بين السكان؟

الآن يعمل المسح البيئي والاجتماعي ولم يخلص بعد إلى النتائج.

ما التأثيرات المباشرة للحرب على الأراضي الزراعية في محيط الخرطوم؟

من المتوقع أن تكون هناك آثار بيئية، لكن لم يتم تحديدها بعد على الأراضي الزراعية. جارٍ التنسيق مع وزارة الزراعة والغابات لإدراج المناطق الزراعية في برنامج المسح البيئي لمعرفة مدى تأثير الحرب على قطاع الزراعة عبر التحاليل المعملية.

هل هناك مناطق اكثر خطورة بيئياً و تحتاج إلى فحوصات عاجلة (مثل الشجرة، بري، توتي، بحري، كرري… إلخ)؟ وما مدى دقة المعلومات المتداولة حول وجود تلوث كيميائي في أكثر من 30 حياً بين وسط الخرطوم وأم درمان؟

لا توجد معلومات علمية عن وجود تلوث في المناطق المذكورة، لذلك شرعنا في مشروع المسح البيئي وسوف تُعلن النتائج لوسائل الإعلام عقب نهاية المسح.

هل صحيح أن المختبر البيئي الكبير المطل على شارع الغابة قد تدمّر بالكامل منذ بداية الحرب؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل توجد أي بدائل حالية أو خطط لإعادة بنائه أو تعويض دوره؟

أجهزة كشف التلوث الكيميائي مازالت تعمل وصيانة عاجلة لإنقاذ ما تبقى

 

نعم، تدمّر المختبر البيئي الذي كان أول مختبر بيئي في السودان وليس في الخرطوم فقط. وبالتأكيد هناك خطط وبدائل للسعي لإنشاء مختبر بيئي جديد.

كيف يتم تنفيذ مشروع المسح البيئي في الخرطوم في ظل تدمير المختبر البيئي، وما الآليات المقترحة لضمان الحصول على بيانات دقيقة تساعد في وضع حلول ومعالجات فعالة؟

نسبة لمناشدة المواطنين بالرجوع لإعمار العاصمة، وضع المجلس خطة بيئية لإعمار العاصمة، ومن ضمنها مشروع المسح البيئي لمعرفة الوضع البيئي ووضع حلول ومعالجات للآثار البيئية. لذلك يتطلب إجراء قياسات لتحديد تركيز ونوعية الملوثات الكيميائية في الهواء، التربة، مصادر المياه، الأغذية، والمناطق السكنية القريبة من مواقع المعارك مثل الموردة، المهندسين، كرري، توتي، بري، الشجرة، ووسط بحري، لتوضيح حالة البيئة بالولاية.

ومع تدمير المختبر البيئي الوحيد بالعاصمة، تصبح كتابة هذا التقرير صعبة إلا بالاستعانة بمختبر مؤهل من خارج المجلس.

 

تنسيق مع وزارة الزراعة لإدراج المناطق الزراعية ضمن برنامج المسح البيئي لدراسة تأثير الحرب

كما أقترح توفير مختبرات متنقلة على عربات مزودة بالطاقة الشمسية (environmental mobile vehicles equipped with solar energy)، وهي متوفرة بالخارج ويمكن تقديم مقترحات بشأن تجهيزها. ومن الضروري أيضاً توفير الكادر الفني والإداري والاستشاري لضمان جمع بيانات دقيقة تساعد في وضع حلول ومعالجات فعالة.

هل هناك ميزانية مرصودة لإزالة الآثار البيئية الضارة وحجمها تقريبا؟

ميزانية إزالة الآثار البيئية تُحدد بعد الانتهاء من التقييم البيئي ومعرفة طبيعة وتأثير هذه الآثار. بناءً على ذلك، يتم وضع خطة زمنية محددة لتنفيذ أعمال الإزالة، وتُقدّر التكلفة المالية وفقًا لنوع وكمية الآثار المتوقعة.

ما تفسير الزيادة الكبيرة في حالات الإجهاض المتكرر والتشوهات الخلقية التي تم رصدها في أم درمان وسنار، وهل يمكن أن تكون مرتبطة بالتلوث البيئي أو بمخلفات الحرب؟

لم يثبت بعد، وقد نفت وزارة الصحة ذلك.

الوسومالآثار على التربة الألغام الحرائق الذحائر المتفجرة العاصمة السودانية تحلل الجثث د. ندي بابكر مديرة تقييم الأثر البيئي بالعاصمة

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الآثار على التربة الألغام الحرائق العاصمة السودانية تحلل الجثث

إقرأ أيضاً:

الانتقال الحضاري: منظومات ومفاهيم وأبعاد.. مشاتل التغيير (39)

الانتقال الحضاري ليس مجرد شعارات أو تغييرات سطحية، بل هو عملية شاملة تنطوي على تحول عميق في صبغة الأمة الإنسانية بمستوياتها كافة. هكذا تناول الأستاذ الدكتور حسين القزاز مسألة الانتقال الحضاري في محاضرة ضافية له نستعرضها في هذا المقال، لنتعرف على ٍ كيفية تنزيل هذه الأفكار على أرض الواقع وخلق واقع جديد يتجسد فيه الانتقال الحضاري فعليا.

يمثل مفهوم الانتقال الحضاري محورا تأسيسيا ومنهجيا لمهام كبرى تتعلق بنهضة الأمة وإعادة تشكيل وضعها الحضاري. ويُقصد به انبعاثا حضاريا شاملا يقود إلى تحوّل جذري في البنية الحضارية الراهنة، بما يقتضي تفعيل الأفكار على أرض الواقع بصورة عملية ومنظمة. كما تُوصف الوضعية الحالية للأمة بأنها ملتبسة وغامضة، حيث تتشكل أنماط الحياة وفق نماذج متصارعة ومتباينة، تعود جذورها إلى اختلافات عقدية وبُنى قيمية وتجلّيات متداخلة

 والهدف الرئيس هو الانتقال من هذا الوضع المأزوم إلى وضعية تتأسس فيها الحياة على نماذج إسلامية أصيلة، ويعرف الانتقال الحضاري بأنه تغيير جذري شامل، لا يقتصر على مظاهر سطحية أو أشكال تنظيمية، بل يشمل تحوّلا في الفلسفات الأساسية، والجذور العقدية والقيمية، والتوجهات الحاكمة للمجتمع. إنه انتقال عميق من بنية حضارية إلى أخرى مغايرة، يصوغها نموذج حضاري مختلف في جوهره.

ويشمل هذا الانتقال جميع مستويات الحياة الإنسانية، من التصورات الكبرى إلى الممارسات اليومية، كما يعني تحوّلا في صبغة الإنسان نفسه؛ إذ إن الصبغة الراهنة في كثير من المجتمعات الإسلامية لا تعبّر عن صبغة الإنسان المسلم الخالصة.

ومن هنا، فالانتقال الحضاري إذا يعني الانتقال من حالة حضارية معينة، ملتبسة ومتشابكة في جذورها العقدية والقيمية والفلسفية، إلى حالة حضارية مبنية على نماذج إسلامية واضحة، تتشكل الحياة فيها وفق رؤية متكاملة ومحددة. ويتطلب هذا الانتقال فهم ثلاث طبقات أساسية: الطبقة الحضارية العامة، والطبقة الاستراتيجية، والطبقة التطبيقية (من الجدير بالذكر أن مفهوم الطبقة يعود الى معناها اللغوي الأصيل وليس المعني اليساري لدى كارل ماركس).



أولا: الطبقة الحضارية؛ الانتقال الحضاري يعني تحولا جذريا في فلسفات الأمة وقيمها وجذورها الفلسفية، وليس مجرد تغيير في الرموز أو المظاهر. فالأمة اليوم تعيش في وضع حضاري متشابك، يتمثل في تصورات متعارضة بين أفرادها ومجتمعاتها، تؤثر في فهم للذات والعالم. ومن ثم، فإن الانتقال الحضاري يتطلب تعديل هذه الجذور الأساسية، وتحويل البنية التي تُمارس من خلالها الحياة، أي المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية، بما يتوافق مع القيم والفلسفات الجديدة. فعلى سبيل المثال، النظام المالي الحالي أو البنية الإدارية للدولة الحديثة ليست محايدة؛ فهي نتاج عقائدي وفلسفي محدد، وتعكس منظورا حضاريا معينا. لذا، لا يمكن تحقيق الانتقال الحضاري دون إعادة تشكيل هذه البنى لتكون انعكاسا للمبادئ الأساسية المراد ترسيخها.

ثانيا: الطبقة الاستراتيجية؛ الانتقال الحضاري لا يحدث بشكل عشوائي، بل هو عملية انتقال من وضعيات مختلفة إلى وضعيات أخرى، تتغير معها مواقع القوى والهيئات داخل المجتمع. بمعنى آخر، الأمة تتحرك من موقع التبعية إلى موقع الاستقلال الحضاري، مع ضرورة فهم التحديات الداخلية والخارجية والتفاعل مع لحظة تاريخية معقدة. هذا يشمل مواجهة أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، إلى جانب تحديات بيئية ومعرفية، لتكوين نموذج حضاري قادر على التكيف مع مستجدات العصر.

ويجب الانتباه إلى أن الانتقال الحضاري عملية مستمرة وليست لحظة واحدة. الثقافة العامة، القيم، طرق التفكير، الخطاب العام، والمعايير الاجتماعية، كلها في حالة تشكل مستمر. وعليه، فإن الانتقال الحضاري يعني توجيه هذا التشكل نحو أهداف محددة، تركز على رفع وعي الإنسان، ترسيخ دوره في العبادة والإعمار والشهود، وتعزيز فهمه لمكانه في الكون.

ثالثا: الطبقة التطبيقية؛ أحد أهم ممارسات الانتقال الحضاري هو التغيير الجذري في الأفراد، خصوصا الشباب، بحيث ينشأ لديهم رفض للنماذج القائمة وقبول لنماذج جديدة تتوافق مع القيم الأساسية المراد ترسيخها. إن مجرد تلقين المفاهيم الدينية أو العقائدية لا يكفي، بل يجب أن يرافقه تدريب على الممارسة الحياتية الواقعية، بما يشمل التعليم والعمل والمشاركة في المؤسسات الرئيسية.

كما أن الانتباه إلى الجزئيات البسيطة في مؤسساتنا وممارساتنا اليومية أمر بالغ الأهمية، فغالبا ما تُبرر الانحرافات الجزئية وتُغفل في سياق المشروع الحضاري الأكبر، ما يؤدي إلى تهالكه على المدى الطويل. على سبيل المثال، تبسيط المراجع العلمية أو تحويلها إلى مجرد تلخيصات أو أسئلة امتحانية يخلق فجوة بين المعرفة والواقع الحضاري الذي نسعى لبنائه.

يواجه الانتقال الحضاري اليوم تحديات داخلية وخارجية معقدة. داخل الأمة، هناك ضعف في وعي القوى الفاعلة وإشكاليات في البناء المؤسسي، بما يجعل أي جهود تغيير محدودة إذا لم ترافقها مراجعة شاملة للبنية والفلسفات الأساسية. خارجيا، النماذج الحضارية الرائدة مثل الغرب تواجه أزمة في مقولاتها الأخلاقية، وتظهر عجزا في مواجهة القضايا الكوكبية الكبرى كالبيئة والهجرة، ما يعكس أن الانتقال الحضاري لا يقتصر على النموذج الإسلامي فقط، بل هو حركة مقارنة ومواكبة للتغيرات العالمية، الوعي بهذا التحدي يتطلب إدراكا أن التحول الحضاري لا يمكن أن يتم عبر خطوات جزئية غير متسقة مع الهدف الشامل. إعداد الأفراد عقائديا أو تعليمهم مهارات جزئية لا يحقق الهدف، بل يجب توجيه الطاقات نحو بناء المؤسسات والممارسات التي تتناسب مع فلسفة وقيم الأمة الجديدة.

فالانتقال الحضاري ليس تغييرا سطحيا، بل تغيير في صبغة الإنسان نفسه، بما يشمل الطريقة التي يفكر بها، يتعامل مع المال، يسعى لتحقيق النجاح، أو يمارس حياته الزوجية والاجتماعية. فالأزمات المعاصرة، من الزواج إلى التعليم والعمل، ليست مجرد مشاكل فردية، بل تعبير عن حالة حضارية مركبة. التغيير الحقيقي يبدأ بتعديل هذه الصبغة الأساسية لتصبح متوافقة مع نموذج حضاري متجدد.

التحول الثقافي كأداة للانتقال الحضاري؛ الثقافة العامة، بما فيها القيم والمعايير الاجتماعية والخطاب الديني، هي أداة رئيسة في الانتقال الحضاري. هذه الثقافة في حالة تشكل دائم، ويمكن توجيهها عبر ديناميات جديدة، بما يعزز فهم الإنسان لدوره ومكانه في الكون ويعزز مساهمته في البناء الحضاري. الدراسات التاريخية والتطبيقات الواقعية لمرحلة السيرة النبوية والصحابة تقدم نموذجا يمكن الاستفادة منه في إعادة تشكيل الفطرة الإنسانية والوعي الحضاري.

الرؤية الاستراتيجية للانتقال الحضاري تنظر إلى طبيعة الإنسان والتغيير باعتباره كائنا معقدا يحمل ذكرياته، وأحاسيسه، وقيمه وخبراته الذاتية؛ لذلك التغيير ليس سريعا أو فجائيا، كما أن التحولات الدينية والقيمية تعمل على رفع القيود المفروضة على الفطرة، لكنها لا تغير الإنسان كاملا بين ليلة وضحاها، فأي عملية إحياء ديني أو ثقافي تحتاج إعدادا عميقا ومستمرا للأجيال الجديدة، مع مراعاة بيئتهم ومؤسساتهم.

كما تنظر إلى الانتقال الحضاري بأنه ليس يوتوبيا أو مثاليا، وستصاحبه اجتهادات وأخطاء وصعود وهبوط، ويعتمد على نخب ملتزمة وفاعلة، وليس على عموم الناس، لتوجيه المجتمع نحو مسار حضاري سليم، كما أن الغلو والتطرف يمثلان أحد أخطر التهديدات لأي عملية تغيير حضاري، كما شهدته الأمة في القرن الأول.

كما تحاول الرؤية الاستراتيجية الاستفادة من التراث الحضاري بأن الحضارات السابقة، بما فيها الغربية، تمتلك خبرات تنظيمية وتقنية مهمة يمكن استدماجها بشرط توافر المقاومات الثقافية والفكرية: الوعي، والقوة، والمبادرة. واستدماج الخبرات الخارجية لا يعني تبني النموذج بالكامل، بل اختيار ما يفيد المشروع الحضاري الإسلامي الجديد.

أما عن الكتل الاستراتيجية للتغيير الحضاري؛ فالتحولات الكبرى تحدث في الكتل الرئيسية للمجتمع، وليس في الهوامش أو العامة، ومن أهم الكتل في السياق الحالي؛ أمة الإسلام نفسها: لتكون منضبطة بوصلتها الحضارية وتحقق التغيير الإيجابي، الكتلة الغربية: ليس الهدف عداء الشعوب، ولكن نقد النموذج الحضاري الفاسد، الشباب: الطاقة الأساسية للتغيير الحضاري، مع الاستفادة من كبار السن للخبرة، النخب الاقتصادية والفكرية والمهاجرة: لديهم أدوات التأثير والقدرة على إحداث التغيير الفعلي.

وكذلك العوامل المحددة للتحولات؛ ومنها التركيبة الديموغرافية: خصائص الأجيال العمرية والتاريخية والجغرافية، والبنى الاجتماعية: القبلية، والعائلية، والقومية، والولاءات المتنوعة، والتكتلات الفكرية والأيديولوجية: يجب الانتباه إلى اختلاف الأولويات داخل التيارات الإسلامية المختلفة، والتكتلات الوظيفية والمصلحية: أصحاب الموارد والمعرفة والشبكات.

أما عن التشكلات الفريدة؛ فبعض التشكيلات الحضارية فريدة ومرتبطة بمرحلة تاريخية معينة (مثل الحركة الصهيونية في الغرب أو الحركات الإسلامية المعاصرة)، كما أن فهم هذه التشكلات ضروري لتقييم الأداء واستراتيجيات التعامل معها، حيث إن مقارنة هذه الحركات بالتجارب التاريخية السابقة قد تكون مضللة.

أما عن الهدف النهائي لهذه الرؤية الاستراتيجية فهو إدراك أن الانتقال الحضاري ليس قفزا أو تدميرا للواقع الحالي، بل استصحاب مفردات مفيدة من الماضي والحاضر على قاعدة فلسفية وحضارية واضحة، وأن الانتقال الحضاري الحقيقي يؤدي إلى تغيير الصبغة العامة للحياة الإنسانية من صراع مستمر نحو العدالة والتعاون الإنساني.

وتأتي الحركة الإسلامية كتشكيل حضاري فريد؛ وهي تُعد تشكيلا فريدا، مناسبا لمرحلة استعادة الأمة لعافيتها والتحرر من الاستعمار. هذه التشكيلة، رغم خصوصيتها، تعود للاندماج في البنية الأساسية للأمة. مثلها مثل الحركات الكبرى الأخرى، هي مزيج من فلسفة، وممارسات، وأنماط حياة، وتمكين اجتماعي وثقافي غير مسبوق، وقد أثرت على الأفراد والمنظومات الاستعمارية على حد سواء. فالانتقال الحضاري لا يحدث في الأمة كمجرد فكرة، بل عبر مكونات اجتماعية معقدة: أجيال عمرية، وتكتلات قبلية واجتماعية وفكرية، وجاليات مهاجرة. لكل بلد أو منطقة خصوصيتها التاريخية والثقافية والديموغرافية، وبالتالي فإن التحليل الحضاري يجب أن يراعي هذا التنوع، سواء في الأمة أو في الغرب.

كما عليه أن يأخذ في الاعتبار الهجرات المختلفة خلال القرن الماضي، سواء إلى الغرب أو داخل البلاد العربية وخارجها، تلك التي أنتجت مجتمعات مهجرة فريدة وغير متجانسة، تحمل تأثيرات ثقافية واجتماعية وجيوستراتيجية عميقة. المجتمعات المسلمة في الغرب، على سبيل المثال، متداخلة بين الحضارة المسلمة والحضارة الغربية، ما يجعل فهمها معقدا. على سبيل المثال، الإنسان الواحد قد ينتمي لعدة تقسيمات في الوقت نفسه: جيل، شريحة اجتماعية، مجتمع مهجر، توجه فكري.

لذلك، التغيير الحضاري يتم عبر تشكيلة مركبة، وليس خطيا أو بسيطا، ويشمل فلسفة، وقيما، وبنية، وتجليات عملية، ويحدث ضمن موازين قوة محددة. النجاح في الانتقال الحضاري يتطلب تغييرات جوهرية في الكتل الرئيسية، مثل الأجيال، والتكتلات الاجتماعية والفكرية، والمهاجرين. بناء على ذلك فالارتكاز العقدي والتحصين السلوكي مهم، لكنه غير كافٍ إذا لم يمتد إلى إلهام وتوعية الناس بأهمية تغيير الممارسات والبنى التي يعيشون فيها، لأن البيئة المحيطة قد تضعف أو تفسد هذا التحصين.

الانتقال الحضاري عملية طويلة الأمد ومعقدة، تتأثر بمشيئة الله، وتظهر نتائجها أحيانا بسرعة غير متوقعة وفي أماكن غير متوقعة. الأحداث الكبرى، مثل الثورات العربية أو الطوفان الأخير، تمثل فرصا لدراسة هذه الانتقالات وفهم جذورها وآثارها عبر الكتل المختلفة وسياقات الأجيال.




فقه المنهج ومداخل النظم بين الفقه المتكامل وأصول التنزيل وعمليات الانتقال

إنها منظومة من الفقه التي تشير الى أنواع متعددة منه (الفقه هنا ليس إشارة الى المعنى الاصطلاحي للفقه وأصوله، ولكنه إشارة الى الإدراك الدقيق والفهم المركب الواعي والعميق)؛ فقه الحال؛ وفقه المجال؛ وفقه المثال؛ وفقه التكامل والاكتمال؛ وإعمال وتحريك ملكات المخيال؛ وفهم الجذور والآثار للكتل المختلفة عبر السياقات والأجيال؛ ووفق القواعد الكبرى لاستشراف المستقبل واعتبار المآل.

كل ذلك في سياقات فقه المنهج والنسج بإبداع على نسق قياسي في الفهم والإدراك؛ والتصورات والتصرفات؛ في الفكر والحركة على ذات المنوال؛ في مدارج النهوض الحضاري وعمليات الانتقال الحضاري الناظمة بين كل هذه الأنواع من الفقه؛ ضمن هذه السياقات يجب أن تفهم عمليات الانتقال في مشروع الانبعاث الحضاري.

x.com/Saif_abdelfatah

مقالات مشابهة

  • الانتقال الحضاري: منظومات ومفاهيم وأبعاد.. مشاتل التغيير (39)
  • «البرهان» يبحث مع السفير الإسباني دعم السلام وإعادة الإعمار في السودان
  • سلوت وصلاح.. هل حان وقت التغيير؟
  • لجنة تفريغ ولاية الخرطوم من الوجود الأجنبي غير المقنن واللاجئين تنفذ رحلة الإبعاد السابعة
  • لجنة المعلمين السودانيين: فرض رسوم غير قانونية على استمارات الإجازة بمحلية الخرطوم
  • فضيحة غذائية تهز الأسواق .. صحة البيئة بصنعاء تكشف شبكات لإعادة تدوير الأغذية الفاسدة
  • تظاهرة حاشدة في العاصمة الهولندية أمستردام تطالب بوقف الحرب على غزة
  • السلطات الإندونيسية تعلن مجددا ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار مبنى مدرسة داخلية إلى 65 قتيلا
  • التشاؤم يخيم على موردي قطع غيار السيارات في ألمانيا
  • سرقة لوحة في سقارة.. حكم التجارة في الآثار وبيعها