الأردن واستراتيجية الانفكاك الوقائي عن إسرائيل
تاريخ النشر: 10th, September 2025 GMT
يجد الأردن نفسه منذ سنوات في قلب معادلة معقدة تحكمها تحولات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وضغوط الأزمات الإقليمية، وتحديات الداخل الاجتماعي والاقتصادي. ومع اندلاع الحرب في غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وما تبعها من تصعيد إسرائيلي إيراني، تحولت المملكة إلى ساحة عبور للصواريخ والمساعدات، وإلى طرف أساسي في الممرات الإنسانية نحو القطاع.
يظهر ملف المياه بوصفه الأكثر حساسية في هذه العلاقة. فمنذ توقيع اتفاق وادي عربة سنة 1994، ارتبطت حياة ملايين الأردنيين بتفاهمات مائية غير متكافئة، جعلت أي أزمة سياسية مع تل أبيب ذات أثر مباشر على الأمن المائي الوطني. ولأجل ذلك، تبنت عمّان مشروع "الناقل الوطني" لتحلية مياه البحر الأحمر وضخها إلى العاصمة، وهو مشروع استراتيجي بدأ التحضير الفعلي له عام 2024، مع تخصيص تمويلات دولية وأوروبية وأمريكية تتجاوز مليار دولار. ويهدف هذا المشروع إلى استعادة قدر من السيادة المائية، وتقليص قدرة الطرف الآخر على استخدام الماء كأداة ضغط في لحظات التصعيد.
وإذا كان الماء يمثل ركيزة للحياة اليومية، فإن الطاقة تشكل الوجه الآخر لمعركة الانفكاك. والاتفاق الذي وقعته عمّان عام 2016 لاستيراد الغاز من حقل "ليفياثان" الإسرائيلي، وبدأ العمل به فعليا عام 2020، كان منذ البداية عرضة لانتقادات شعبية واسعة اعتبرته تطبيعا اقتصاديا غير مقبول. ومع تصاعد الحرب في غزة عام 2025، شهدت الإمدادات انقطاعات متكررة عززت القناعة بضرورة تنويع المصادر. وقد دفعت هذه التطورات الأردن إلى البحث عن بدائل في الغاز المصري والعراقي، وإلى التوسع في مشاريع الطاقة المتجددة، وخاصة الشمسية والريحية. ومع أن هذه البدائل تحتاج إلى وقت طويل حتى تنضج، فإنها تعكس خيارا استراتيجيا بالتحرر التدريجي من ارتهان أحادي المصدر.
إلى جانب المياه والطاقة، تشكل المعابر والحدود ساحة أخرى يتجسد فيها الانفكاك الوقائي. فجسر الملك حسين الذي يربط الضفة الغربية بالعالم العربي عبر الأراضي الأردنية ظل رهينة للإغلاقات الإسرائيلية المتكررة، وهو ما انعكس اقتصاديا واجتماعيا على الأردن، فضلا عن تأثيره على صورة السيادة الوطنية. أما الأجواء الأردنية، فقد تحولت منذ نيسان/ أبريل 2024 إلى ممر لصواريخ وطائرات مسيرة في جولات التصعيد الإيراني الإسرائيلي، ما اضطر عمان إلى إغلاق مجالها الجوي لفترات محدودة، واعتراض "أجسام طائرة" حفاظا على أمنها. هذه الإجراءات أظهرت أن السيادة الأردنية مهددة باستمرار، وأن إدارة الحدود ليست مجرد شأن أمني، بل قضية استراتيجية في قلب العلاقة مع إسرائيل والجوار.
وفي خضم هذه التحديات، برز الدور الإغاثي للأردن بوصفه ورقة قوة جديدة. فمنذ الأيام الأولى للعدوان على غزة، تحولت المملكة إلى ممر رئيسي للمساعدات الإنسانية عبر جسور جوية وقوافل برية ومستشفيات ميدانية. هذا الدور عزز صورة الأردن في الداخل كداعم فعلي للقضية الفلسطينية، وقدم في الخارج دليلا على أنه شريك لوجستي موثوق في بيئة عالية التوتر. وهكذا، لم يعد العمل الإنساني مجرد استجابة أخلاقية، بل أصبح جزءا من استراتيجية الانفكاك الوقائي التي تمنح الأردن مكانة تفاوضية وحضورا إقليميا لا يمكن تجاوزه.
غير أن الاقتصاد الأردني ما يزال يعكس هشاشة بنيوية في هذه العلاقة. فحجم التبادل التجاري المباشر مع إسرائيل متواضع، لكن الملفات الأكثر حساسية، أي المياه والغاز، تبقى خارج هذا الميزان التجاري، وتشكل مصدر ضغط استراتيجي على الدولة. لذلك، تسعى عمان إلى بناء بدائل داخلية، كتحلية المياه ومشاريع الطاقة النظيفة، بالتوازي مع تعزيز شبكة الدعم الدولي التي ترى في استقرار الأردن مصلحة مشتركة
سياسيا ودبلوماسيا، يتسم الموقف الأردني بمسارين متوازيين. فمنذ استدعاء السفير الأردني من تل أبيب في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، تبنى الخطاب الرسمي لهجة أكثر حدة تجاه السياسات الإسرائيلية، خصوصا ما يتعلق بالقدس والمقدسات. غير أن هذه القطيعة السياسية لم تتحول إلى قطيعة وظيفية، إذ ظلت قنوات الاتصال مفتوحة لإدارة ملفات الطاقة والمياه والمعابر. بهذا المعنى، يوازن الأردن بين خطاب علني صريح يحافظ على شرعيته الداخلية، وبين مرونة عملية في الكواليس تحول دون اضطراب مصالحه الحيوية.
يمكن القول إن استراتيجية الانفكاك الوقائي التي يعتمدها الأردن ليست سياسة ظرفية، بل مقاربة هيكلية لإدارة علاقة ملتبسة يصعب القطيعة فيها ويستحيل الارتهان الكامل لها. فمن خلال مشاريع بديلة في الماء والطاقة، وتشديد إدارة الحدود والأجواء، وتعزيز الدور الإغاثي، وتمسك بخطاب سياسي وطني، تحاول المملكة أن تحول هشاشتها إلى مصدر قوة، وأن تبقى لاعبا ضروريا في معادلة فلسطين والمشرق. في إقليم تتسارع فيه التحولات، يقدم الأردن نموذجا لدولة صغيرة بحجمها، كبيرة بدورها، تتعامل مع التحديات بتوازن يضمن بقاءها واستمرارية دورها.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الإسرائيلي غزة المياه الغاز الاردن إسرائيل غزة الغاز المياه قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
خلل فني يوقف ضخ المياه جزئيًا في مناطق بالاردن
صراحة نيوز- أعلنت شركة مياه الأردن “مياهنا” عن تعرض الخط الناقل الرئيسي للمياه على طريق المطار لخلل فني طارئ صباح اليوم الثلاثاء، نتيجة كسر الخط قطر 600 ملم بسبب أعمال إنشائية لأحد مقاولين القطاع الخاص.
وأوضحت الشركة أنها باشرت فوراً بتنفيذ حلول مؤقتة لاستئناف ضخ المياه إلى مناطق التوزيع المتضررة جزئيًا، على أن يتم تنفيذ الحل الدائم بعد انتهاء الأعمال الإنشائية.
المناطق المتأثرة بالعطل الفني تشمل: مرج الحمام، ناعور، المقابلين، الياسمين، الظهير، البنيات، وحي الصحابة.