نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالا لكاتب العمود لديها ستيفن م. والت، الذي يشغل أيضا منصب وأستاذ العلاقات الدولية في مركز روبرت ورينيه بيلفر بجامعة هارفارد، قال فيه إن السلام في قطاع غزة لن يصمد ولن تنتهي الحرب إلا في حالة أنهت الولايات المتحدة علاقتها الخاصة مع "إسرائيل". 

وذكر الكاتب والت في المقال: "يمكننا الشعور بالإمتنان لتوقف الذبح في غزة، ولو مؤقتا، ولتبادل الأسرى الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين ولتدفق مساعدات الإغاثة بحرية أكبر إلى سكان غزة المعذبين.

وليس من المستغرب أن يشيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنصره ويصف اتفاق وقف إطلاق النار بأنه "فجر تاريخي لشرق أوسط جديد". ومع ذلك، فقد سبق له أن قال أشياء مماثلة، وكذلك فعل بعض أسلافه. آمل أن يكون محقا، لكنني لا أراهن على ذلك".

وأوضح أن السبب من وراء هذا الاعتقاد هو بقاء سؤالين عالقين يحيطان بالإتفاق الحالي، والسؤال الأول هو: "هل سيصمد"، أما السؤال الثاني، والذي تعتمد عليه إجابة السؤال الأول إلى حد كبير، فهو ما إذا كانت علاقات "إسرائيل" مع بقية العالم، وخاصة "علاقتها الخاصة" مع الولايات المتحدة، تتطور بطرق قد تجعل السلام الدائم ممكنا وأخيرا. 

وأوضح أنه "فيما يتعلق بالسؤال الأول، يصعب التفاؤل، فكما أشار نقاد آخرون، وضع "خطة السلام" "وسطاء" أمريكيون موالون بشدة لإسرائيل (ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر) بمشاركة فلسطينية ضئيلة. وفي صيغتها النهائية، كانت أقرب إلى إنذار نهائي منها إلى تسوية تفاوضية".

ويرفض الاتفاق بعض الطموحات المتطرفة لليمين الإسرائيلي (مثل ضم غزة والطرد الدائم لسكانها الفلسطينيين)، لكنه يلزم الفلسطينيين بإجراء سلسلة من التعديلات الصعبة التي يستحيل التحقق منها، مثل نزع سلاح حماس بالكامل وتدمير جميع أنفاقها واستبعادها من أي مشاركة سياسية وإصلاح جذري للسلطة الفلسطينية، وإن كان غير محدد المعالم. وستتولى هيئة إشراف خارجية لم تحدد هويتها بعد، يشرف عليها "مجلس السلام" برئاسة ترامب نفسه، لمراقبة الامتثال وتحديد ما إذا كان كل طرف ملتزما بالاتفاق.


وأضاف والت أن المسألة الأهم هي أن الاتفاق يؤجل جميع القضايا السياسية الصعبة إلى موعد غير محدد في المستقبل، ويصمت تماما بشأن جهود "إسرائيل" المستمرة لابتلاع الضفة الغربية. 
وقال "هذه هي قصة لوسي وتشارلي براون وكرة القدم للأطفال وهي القصة التي تبدو فيها قسوة لوسي من خلال مفاجئتها تشارلي عندما يثق بها، وستكون هناك فرص لا حصر لها لإسرائيل لتعلن أن التزام الفلسطينيين لم يكن كافيا، ثم تشدد الخناق (أو تستأنف العنف) مرة أخرى".

وأوضح "أننا كي نصدق نجاح هذه الخطة، علينا  أن نثق بالعالم الخارجي وبخاصة الولايات المتحدة، وأنه سيواصل الضغط المستمر على إسرائيل الإلتزام بالإتفاق الحالي، والتفاوض أخيرا على حل عادل ودائم لصراعها الطويل مع الفلسطينيين".

واعتبر أن "ترامب قد سئم على ما يبدو وأخيرا من أساليب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المماطلة، وأجبره على قبول هذه الصفقة المحدودة. وهذا يكشف له عن كل ما تحتاج لمعرفته حول النفوذ الذي يمتلكه رؤساء الولايات المتحدة، إن كانوا على استعداد لاستخدامه. لكن لا يوجد دليل على أن نتنياهو أو مؤيديه اليمينيين أو حتى المجتمع الإسرائيلي نفسه، مستعدون لتبني حل الدولتين الحقيقي أو شكل من أشكال الدولة الواحدة، حتى لو كانوا واثقين من تهميش حماس والفصائل الفلسطينية المتطرفة الأخرى تماما. بالنظر إلى قصر فترة تركيز ترامب وشخصيته المتقلبة وعدم اهتمامه بالتفاصيل، هل يعتقد أحد حقا أن هذه المساعي ستستمر؟".

وأشار إلى أن "المشكلة ليست في ترامب، بل والقوى الخارجية التي كانت مستعدة دائما لوقف الأطراف المتحاربة مؤقتا، كما فعلت الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي في الحروب العربية- الإسرائيلية 1956 و 1967 و 1973  وكما فعلت  واشنطن في عدد من المناسبات منذئذ. وفي المقابل، لم تكن مستعدة لاستثمار وقت كاف  وانتباه ورأسمال سياسي واستخدام ما لديها من نفوذ والتوصل إلى تسوية عادلة ودائمة".

ولهذا السبب فشلت اتفاقيات أوسلو، قمة كامب ديفيد عام 2000، مؤتمر أنابوليس عام 2007، اللجنة الرباعية للشرق الأوسط الفاشلة وغيرها من مبادرات السلام التي حظيت بدعاية واسعة.

ويعلق والت قائلا: "إذا تطلب الأمر ضغطا أمريكيا مستمرا، فإن سؤالي الثاني يصبح محوريا: هل يمكن أن تتطور العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بطرق قد تزيد من احتمالية السلام، بغض النظر عن ميول ترامب الشخصية؟". 

ويجيب أن هجوم 7  تشرين الأول/ أكتوبر 2023  كلف حماس غاليا في نظر العالم الخارجي وألحق رد الفعل الإسرائيلي الإبادي ضررا مماثلا بصورة إسرائيل. واعترفت بريطانيا العظمى وفرنسا وكندا وأستراليا وبعض الدول الأخرى رسميا بدولة فلسطين، وهي لفتة رمزية معترف بها، إلا أنها مع ذلك تنقل مدى تغير المواقف. وأصبحت جهود إسرائيل لتطبيع العلاقات مع العالم العربي معلقة. وفي الولايات المتحدة، تظهر استطلاعات الرأي العام تحولا كبيرا في الدعم، حيث قال المزيد من الأمريكيين إنهم أكثر تعاطفا مع الفلسطينيين من تعاطفهم مع إسرائيل، وعبرت نسبة 41% عن اعتقادها أن تصرفات إسرائيل تشكل إبادة جماعية (أو شيء من هذا القبيل)، في حين رأت نسبة 22 بالمئة فقط أن أفعالها مبررة. 


وقد برز التراجع لدعم "إسرائيل" بين الديمقراطيين والمستقلين، ولكن محافظين جدد مثل ستيفن بانون وتاكر كارلسون والنائبة، مارجوي تايلور غرين أعربوا عن انتقادات لاذعة أيضا. كان موقف الديمقراطيين نابعا من مخاوفهم تجاه حقوق الإنسان، بينما يرى النقاد المحافظون أن الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل المارقة بشكل متزايد يتعارض مع فكرة "أمريكا أولا".  

وعليه فقد كانت التكاليف المباشرة للعلاقة الخاصة واضحة لفترة طويلة. إسرائيل هي أكبر متلق أجنبي للمساعدات العسكرية الأمريكية، والحكومة الأمريكية ملتزمة رسميا بالحفاظ على "تفوقها العسكري النوعي"، على الرغم من أن إسرائيل أصبحت الآن دولة مزدهرة تحتل المرتبة السادسة عشرة في العالم من حيث دخل الفرد وتمتلك ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية. وقد ارتفع إجمالي المساعدات العسكرية المعتادة البالغ حوالي 4 مليارات دولار سنويا خلال الحرب بين إسرائيل وحماس، والتي مولها دافعو الضرائب الأمريكيون بما يصل إلى حوالي 22 مليار دولار. 

وهذا الدعم غير المشروط هو السبب الرئيسي وراء تراجع شعبية الولايات المتحدة في معظم دول الشرق الأوسط، حتى مع استمرار حكامها في التقرب من الحكومة الأمريكية للحصول على الأسلحة والاستثمارات والوصول إلى الأسواق. 

وقال والت إن الدعم غير المشروط لإسرائيل  يضعف القوة الناعمة الأمريكية ويقوض ادعاءات واشنطن بأنها مدافعة شرسة عن حقوق الإنسان، وبالتالي متفوقة أخلاقيا على منافسيها من القوى العظمى مثل روسيا أو الصين.

 ومع ذلك، قد لا يقلق هذا النوع من النفاق إدارة ترامب، نظرا لعدم اهتمامها كثيرا بهذه القيم، ولكنه يتعارض بالتأكيد مع المثل الليبرالية الأمريكية.

 ويشير والت إلى ثمن العلاقة الخاصة وما تعطى له هذه الدولة الصغيرة من اهتمام مقارنة مع قوى فاعلة وكبرى في العالم. ويقول: " تعني هذه العلاقة الخاصة أيضا أن دولة صغيرة يقل عدد سكانها عن 10 ملايين نسمة تستهلك قدرا غير متناسب من نطاق التغطية الإعلامية في الحياة السياسية لأقوى دولة في العالم. وانظر إلى حجم التغطية الإخبارية التي تحظى بها هذه الدولة الصغيرة، مقارنة بحجم أعمدة الصحف ووقت البث المخصص لدول أكبر وأكثر أهمية استراتيجية مثل الهند واليابان وإندونيسيا ونيجيريا والبرازيل. فالنمسا تقريبا بنفس عدد السكان وناتجها المحلي الإجمالي كإسرائيل، وتستضيف العديد من الوكالات الدولية، ومع ذلك لا يسمع الأمريكيون عنها إلا نادرا. أو انظر إلى عدد مراكز الأبحاث وجماعات الضغط المكرسة لهذه الدولة الصغيرة، وكمية الوقت الذي يخصصه السياسيون الأمريكيون لمشاكلها". 

وأكثر من هذا، فالأمور المتعلقة بهذه الدولة الصغيرة تتسرب وبشكل روتيني إلى الحياة الثقافية والفكرية الأمريكية الأوسع.  وما عليك إلا أن تنظر للهجوم الحالي على الجامعات  المرتبط بجذور عديدة، ولكنه اشتد بفعل اتهامات مبالغ فيها بمعاداة السامية نابعة من طلاب (كثير منهم يهود) يحتجون على الإبادة الجماعية في غزة ودور الولايات المتحدة في دعمها. فالهجمات على الحرية الأكاديمية وحرية التعبير بشكل عام لا تنبع فقط من رغبة مضللة في حماية إسرائيل من النقد والحفاظ على العلاقة الخاصة، بل إن هذا الهدف جزء من المعادلة لدى البعض. 

ولفت والت أخيرا النظر إلى مقدار الوقت والاهتمام الرئاسي الذي يستهلكه هذا البلد الصغير. فقد كرس جيمي كارتر ما يقرب من أسبوعين من رئاسته للتفاوض شخصيا على اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، وحاول بيل كلينتون القيام بشيء مماثل، وهذا لا يشمل حتى جميع الساعات التي قضوها في هذه القضايا خارج  المؤتمرات والقمم نفسها.

وبنفس المثابة، كرس جورج دبليو بوش وباراك أوباما وجو بايدن أياما إن لم تكن أسابيع للنظر في قضايا تتعلق بإسرائيل، وقام وزير الخارجية أنتوني بلينكن بـ 16 رحلة إلى هناك خلال السنوات الأربع في منصبه، لكنه لم يقم إلا بأربع رحلات إلى قارة أفريقيا بأكملها.

 وحتى ترامب وجد من المستحيل أن يظل منعزلا أو أن يفوض مرؤوسيه بالكامل سياسة إسرائيل. فكل ساعة يكرسها الرئيس وكبار مستشاريه وغيرهم من كبار المسؤولين لهذه القضايا هي ساعة لا يمكنهم قضاؤها في العمل على مشاكل ذات أهمية مباشرة أكبر بكثير لأمن الولايات المتحدة وازدهارها. و "لهذا السبب دعوت أنا وآخرون مرارا وتكرارا إلى أن تكون للولايات المتحدة علاقة طبيعية مع إسرائيل، تتوافق مع حجمها وأهميتها الاستراتيجية وتوافقها مع المصالح الأمريكية. وفي علاقة طبيعية، لن تتظاهر واشنطن بعد الآن بأن المصالح الأمريكية والإسرائيلية متطابقة. وعندما تتصرف إسرائيل بطرق تراها الولايات المتحدة مرغوبة، فإنها ستحظى بالدعم الأمريكي. أما إذا تصرفت بطرق تتعارض مع ما تريده الولايات المتحدة، مثلا، بناء المزيد من المستوطنات في الأراضي المحتلة، فإنها ستواجه معارضة أمريكية قوية".


 ويقدم والت هنا ردا على من يجادل على أن العلاقة الطبيعية مع إسرائيل ليست مجدية، لأن إسرائيل دولة غير طبيعية، كما يجادل البعض. في إشارة  للظروف التي دفعت لظهورها من إرث الهولوكوست والتاريخ الطويل لمعاداة السامية في المجتمعات المسيحية ولكونها في منطقة تشهد صراعات شديدة. ربما كانت هذه أسباب مقبولة، لكن في عام 2025، فالطرق التي لا تكون بها إسرائيل "طبيعية" هي في الواقع أسباب لتقليص الدعم الأمريكي بدلاً من الحفاظ عليه. 

وكما لاحظ إيان لوستيك قبل فترة، فإن إسرائيل تتناسب بشكل متزايد مع تعريف عالم السياسة الإسرائيلي يحزقيل درور لـ "الدولة المجنونة"، وهي الدولة التي:

 1) تسعى إلى تحقيق أهداف عدوانية غالبا ما تكون ضارة بالآخرين.
 2) تظهر التزاما جذريا مكثفا بهذه الأهداف.
 3) تظهر شعورا عاما بالتفوق الأخلاقي على الرغم من استعدادها للتصرف بشكل غير أخلاقي.
 4) لديها القدرة على اختيار الأدوات المنطقية بعقلانية لتحقيق هذه الأهداف.
5) لديها القدرات الكافية لتحقيقها. 

ويرى لوستيك أن أحد العوامل الحاسمة في مسار إسرائيل الحالي "كان الدعم شبه المطلق الذي قدمته الإدارات الأمريكية للحكومات الإسرائيلية"، وهو سلوك يعزوه إلى "القوة السياسية الهائلة للوبي الإسرائيلي في واشنطن". ويتساءل والت، هل هذا الموقف "معاد لإسرائيل"؟ لا. 

لقد كان الدعم غير المشروط سيئا للولايات المتحدة وكارثة على إسرائيل، التي تفقد الدعم في الخارج وتزداد انقساما في الداخل وتتجه أكثر فأكثر نحو اليمين المسياني وتعاني من الهجرة المعاكسة المستمرة للنخب المتعلمة والمتحركة اقتصاديا.

وأضاف أن  سياسة "الحياة الطبيعية الإيجابية" ستكون أفضل لأمريكا وأفضل لإسرائيل على المدى الطويل، حتى لو لم تكن في مصلحة لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) والمنظمة الصهيونية الأمريكية،ومنظمة "المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل"، والجماعات الأخرى التي حافظت على استمرار العلاقة الخاصة،وساعدت في إيصال إسرائيل إلى محنتها الحالية ومكنتها من إلحاق معاناة كبيرة بملايين الفلسطينيين غير الراغبين في ذلك. 

باختصار، إذا كنت تريد سلاما دائما، فإن الأمر يتطلب علاقة أكثر طبيعية مع إسرائيل.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة عربية صحافة إسرائيلية غزة الولايات المتحدة إسرائيل الدعم الأمريكي إسرائيل الولايات المتحدة غزة الاحتلال الدعم الأمريكي صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه الدولة الصغیرة الدعم غیر المشروط الولایات المتحدة العلاقة الخاصة مع إسرائیل مع ذلک

إقرأ أيضاً:

استراتيجية الأمن القومي 2025 الأمريكية تعيد تشكيل نظرة واشنطن للعالم

تُعدّ استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 إحدى أكثر الوثائق تأثيرا في رسم ملامح السياسة الدولية خلال العقد المقبل، إذ لا تكتفي بتحديد التهديدات التقليدية، بل تقدّم رؤية أعمق تعكس تحوّلا أيديولوجيا في الطريقة التي ترى بها الولايات المتحدة موقعها في العالم. فوفق تحليلات مؤسسات بحثية بارزة مثل معهد بروكينغز ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن الوثيقة تمثل انتقالا من "إدارة النظام الدولي" إلى "التنافس على تشكيله"، في لحظة عالمية يغلب عليها الاضطراب وتراجع اليقين. هذا الانتقال من "الإدارة" إلى "التشكيل" هو جوهر التحول الاستراتيجي؛ إنه اعتراف بأن العصر أحادي القطب قد انتهى، وأن واشنطن تسعى لفرض نموذجها وقيمها في مواجهة نماذج بديلة.

الصين من "منافس استراتيجي" إلى "خصم حضاري شامل"

تضع الاستراتيجية الجديدة الصين في صدارة التهديدات، مستخدمة مصطلحا لافتا هو "الخصم الحضاري الشامل" هذا التوصيف يعكس قناعة أمريكية بأن بكين لا تسعى فقط إلى التفوق الاقتصادي والعسكري، بل تهدف إلى إعادة صياغة النظام العالمي وفق نموذج حكمها المركزي ونسختها الخاصة من الحداثة.

وبحسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن هذه هي المرة الأولى التي  تنظر فيها واشنطن إلى الصين باعتبارها قوة نظامية تريد تشكيل قواعد اللعبة الدولية بدلا من التكيّف معها. ولذلك تنتقل المنافسة بين الطرفين إلى مجالات استراتيجية تشمل التكنولوجيا المتقدمة، وسلاسل التوريد، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وتأثير المؤسسات الدولية. استخدام مصطلح "الحضاري" يعمق الانقسام الأيديولوجي، مما يرفع المنافسة لتكون صراعا وجوديا بين نموذجين متنافسين يمتد ليشمل المؤسسات الثقافية والتعليمية.

تضع الاستراتيجية الجديدة الصين في صدارة التهديدات، مستخدمة مصطلحا لافتا هو "الخصم الحضاري الشامل" هذا التوصيف يعكس قناعة أمريكية بأن بكين لا تسعى فقط إلى التفوق الاقتصادي والعسكري، بل تهدف إلى إعادة صياغة النظام العالمي وفق نموذج حكمها المركزي ونسختها الخاصة من الحداثة. روسيا تهديد يمكن احتواؤه لا منافسته

على الرغم من استمرار الحرب في أوكرانيا، تتعامل الاستراتيجية الأمريكية مع روسيا بوصفها تهديدا "حادّا ومباشرا" لأمن أوروبا، لكنها ليست منافسا شموليا للنظام الدولي كما هي الصين. وتتبنى واشنطن مقاربة "إدارة الصراع"  مع موسكو، في محاولة للحفاظ على تركيزها الاستراتيجي على آسيا.

ويرى خبراء في "تشاتام هاوس" أن هذا التحوّل قد تكون له انعكاسات مباشرة على الأمن الأوروبي، حيث يُخشى أن يؤدي إلى تقليص انخراط الولايات المتحدة تدريجيا في القارة، ما يدفع الأوروبيين إلى تطوير مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي"  بشكل أسرع، مهما كانت العقبات السياسية والاقتصادية. هذا التمييز يكرس "الانتقائية الاستراتيجية" الأمريكية، حيث تُعتبر روسيا تحديا تكتيكيا ومؤقتا يجب "إدارته" لتجنب تشتيت الانتباه عن محور التنافس الحاسم في آسيا.

أوروبا الحليف المتوتر والعاجز عن حماية هويته

لا تخفي الاستراتيجية لهجتها النقدية تجاه أوروبا، التي تتهمها بأنها تعاني "تآكلا حضاريا" نتيجة التحولات الديموغرافية والضغوط الاجتماعية الناتجة عن الهجرة والثقافات المتعددة. وترى الوثيقة أن هذه العوامل أضعفت قدرة أوروبا على حماية نموذجها الليبرالي.

وقد أثار هذا القسم جدلا واسعا، حيث اعتبر "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" أن واشنطن أصبحت تنظر إلى أوروبا بوصفها الحلقة الأضعف في النظام الغربي. وتبدو هذه الرؤية إشارة مباشرة إلى الأوروبيين بأنهم مطالبون بتقليل اعتمادهم الأمني على الولايات المتحدة، خاصة في ظل التحولات المتسارعة في موازين القوى العالمية. هذا القسم يؤكد أن الولايات المتحدة تستعد لـ "تقاسم العبء" بشكل أكثر صرامة، ويربط الأمن بالهوية، مما يظهر قلقا أميركيا عميقا يتجاوز القدرات العسكرية وصولا إلى تماسك النموذج الغربي نفسه.

تحالفات جديدة قائمة على الهوية والقيم

تتبنى الاستراتيجية الجديدة مبدأ "التحالفات المعيارية"، حيث تمنح الولايات المتحدة الأولوية للتعاون مع الدول التي تشترك معها في الهوية الحضارية والقيم السياسية، أكثر من تلك التي تتقاطع معها في المصالح وحدها. ويرى مركز "بروكينغز" أن هذا التحوّل قد يعمّق الانقسام الدولي، لأنه يعيد اصطفاف الدول وفق اعتبارات أيديولوجية وثقافية، بدلا من المنطق البراغماتي الذي حكم العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. هذا التحول يمثل عودة إلى الاصطفافات الأيديولوجية والثقافية، مما قد يعمّق الانقسام بين المعسكرات الدولية، على حساب العلاقات القائمة على المصالح المادية وحدها.

عالم متعدد الأقطاب.. ومع ذلك مضطرب

توضح الاستراتيجية أن العالم يتجه نحو تعددية قطبية مضطربة، حيث تزداد القوى المؤثرة وتتناقص القدرة الأمريكية على ضبط الإيقاع العالمي. وتبرز آسيا كالمسرح الرئيس للتنافس، مدفوعة بصعود الصين والهند وتوسع تأثيرهما في الاقتصاد والتكنولوجيا.

لا تخفي الاستراتيجية لهجتها النقدية تجاه أوروبا، التي تتهمها بأنها تعاني "تآكلا حضاريا" نتيجة التحولات الديموغرافية والضغوط الاجتماعية الناتجة عن الهجرة والثقافات المتعددة. وترى الوثيقة أن هذه العوامل أضعفت قدرة أوروبا على حماية نموذجها الليبرالي. وتؤكد الوثيقة أن التكنولوجيا ـ وخاصة الذكاء الاصطناعي، والبنى التحتية الرقمية، والأنظمة ذاتية التشغيل، وحروب الفضاء والفضاء السيبراني ـ ستكون الميدان الرئيس للصراع القادم. وفي هذه البيئة، تدخل أوروبا مرحلة من الشكوك العميقة حول مستقبل الضمانات الأمريكية، بينما تتزايد الدعوات لإنشاء منظومة دفاعية أوروبية أكثر استقلالا.

ويرى "تشاتام هاوس" أن العقد المقبل سيشهد تحالفات مرنة وصراعات طويلة وتنافسا أعمق بين النماذج الحضارية، في عالم تتداخل فيه القوة العسكرية مع التكنولوجيا والقيم في آن واحد. النقطة الجوهرية هنا هي أن "من يملك التكنولوجيا، يملك مفاتيح المستقبل". هذا يرفع من قيمة "التنافس التكنولوجي" ليصبح مساويا في الأهمية للتنافس العسكري والجيوسياسي.

بداية عصر جديد من التنافس الشامل.. واستشراف لمستقبل مضطرب

تكشف استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 أن الولايات المتحدة ترى نفسها في قلب صراع طويل على هوية النظام الدولي. فالصين خصم حضاري شامل، وروسيا تهديد يمكن ضبطه، وأوروبا حليف يحتاج إلى إعادة تأهيل، بينما تتحول التكنولوجيا إلى الركيزة المركزية للقوة في القرن الحادي والعشرين.

وتشير هذه الرؤية إلى أن الولايات المتحدة تتجه إلى تركيز جهودها على آسيا، باعتبارها محور التنافس الحاسم. وهذا سيقود على الأرجح إلى تراجع نسبي للدور الأميركي في أوروبا والشرق الأوسط، ما قد يخلق فراغات استراتيجية لن تستطيع القوى المتوسطة ملأها بسهولة.

أما على المدى البعيد، فإن العالم يبدو أنه متجه نحو نظام متعدد الأقطاب لكنه عالي التوتر، حيث تتداخل المنافسة في ثلاثة مجالات رئيسية: التكنولوجيا الفائقة، والموارد الاستراتيجية، والتحالفات القائمة على الهوية الثقافية والقيم.

وإذا لم تُطوَّر آليات دولية لإدارة هذا التنافس، فإن العالم قد يدخل مرحلة "اللاسلم واللاحرب المستدامة"  التي يتوقعها العديد من الباحثين في الأمن الدولي مرحلة لا تشهد حروبا كبرى، لكنها لا تعرف سلاما مستقرا كذلك.

إن هذه الاستراتيجية، في جوهرها، ليست وثيقة أمنية فحسب، بل خريطة للعالم القادم: عالم تتقاطع فيه الجغرافيا مع التكنولوجيا، ويتنافس فيه المنطق الحضاري مع المصالح الاقتصادية، وتعود فيه القوة إلى معناها الأكثر تعقيدا: من يملك التكنولوجيا، يملك مفاتيح المستقبل.

السيناريو المستقبلي المتوقع هو نظام عالمي غير مستقر، حيث تكون المنافسة المستمرة هي القاعدة الجديدة، بدلا من السلام المستدام.

مقالات مشابهة

  • الخارجية الأمريكية: قرار الأمم المتحدة بشأن غزة “غير جاد ومنحاز ضد إسرائيل”
  • نيوزويك: 3 مؤشرات على حرب وشيكة بين الولايات المتحدة وفنزويلا
  • الولايات المتحدة ترحب بإعادة بوليفيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل
  • فورين بوليسي: 3 دروس تعلمتها الصين من الولايات المتحدة
  • إجلاء عشرات آلاف السكان جراء فيضانات في الولايات المتحدة وكندا
  • إسرائيل تبلغ الولايات المتحدة بأنها ستتحرك بنفسها لنزع سلاح حزب الله في لبنان
  • استراتيجية الأمن القومي 2025 الأمريكية تعيد تشكيل نظرة واشنطن للعالم
  • الولايات المتحدة تطالب إسرائيل بإزالة الأنقاض من غزة
  • رويترز: الولايات المتحدة تستعد لاعتراض السفن التي تنقل النفط الفنزويلي
  • المستشار الألماني: أوكرانيا سلمت الولايات المتحدة مقترحًا لخطة السلام