كيف أصبح الذكاء الاصطناعي المهندس الحقيقي لبيئة العمل الحديثة؟
تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT
في الوقت الذي تتسارع فيه الشركات عالميًا لتبني تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي (Gen AI)، يبرز خطأ جوهري يهدد فعالية هذه التحولات: إهمال "تدريب" الأنظمة كما يُدرَّب الموظفون.
فبينما تستثمر المؤسسات مبالغ ضخمة في إعداد كوادرها البشرية، تتعامل مع نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) على أنها أدوات جاهزة للاستخدام، لا تتطلب فهماً عميقاً أو توجيهاً دقيقاً.
غير أن هذا النهج لا يُعد مجرد خطأ إداري، بل يمثل مخاطرة استراتيجية حقيقية. فوفقاً لتقارير عامي 2024 و2025، انتقل الذكاء الاصطناعي من مرحلة التجريب إلى مرحلة التشغيل الفعلي، حيث سجّل أكثر من ثلث الشركات حول العالم ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات الاستخدام والقبول الداخلي.
الذكاء الاصطناعي كائن تفاعلي يحتاج حوكمة
الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس مجرد برنامج ثابت، بل منظومة احتمالية وتفاعلية تتطور مع الاستخدام وتتغير بمرور الوقت. وإذا تُرك دون إشراف أو تحديث مستمر، تبدأ النماذج في الانحراف التدريجي، وهي الظاهرة المعروفة بـ"انحراف النموذج" (Model Drift)، مما يؤدي إلى إنتاج معلومات مضللة أو غير دقيقة.
هذه النماذج لا تدرك ثقافة شركتك أو لوائحها التنظيمية ما لم تُدرَّب عليها صراحة. قد تُبدع في نظم شعر شكسبيري، لكنها لن تميز بين سياسة موارد بشرية وبند قانوني دون توجيه واضح. ولهذا السبب بدأت الهيئات التنظيمية حول العالم بفرض معايير صارمة لحوكمة الذكاء الاصطناعي، بعدما تبين أن هذه الأنظمة قادرة على التخيل، أو التضليل، أو حتى تسريب البيانات في حال غياب الضوابط والرقابة.
خسائر حقيقية وسمعة على المحك
الآثار السلبية للذكاء الاصطناعي لا تبقى محصورة في المختبرات، بل تمتد مباشرة إلى الواقع العملي:
* مسؤولية قانونية: خسرت Air Canada قضية بعد أن قدّم روبوتها للعملاء معلومات غير صحيحة، وأقرت المحكمة بأن الشركة مسؤولة قانونيًا عن ما يقوله نظامها الذكي.
* هلوسات محرجة: صحف أميركية كبرى نشرت في عام 2025 قوائم كتب غير موجودة، بعد اعتماد أحد الكتّاب على الذكاء الاصطناعي دون التحقق من صحة المعلومات.
* تحيّز في التوظيف: أول تسوية قانونية تتعلق بتمييز ناتج عن خوارزمية ذكاء اصطناعي كشفت أن النظام استبعد تلقائيًا المتقدمين الأكبر سنًا.
* تسرب معلومات: موظفون في Samsung نسخوا شيفرات سرية في ChatGPT، ما دفع الشركة إلى حظر استخدام الأدوات العامة مؤقتًا.
الخلاصة واضحة: ذكاء اصطناعي بلا تدريب ولا حوكمة هو وصفة مؤكدة لكارثة قانونية وأمنية.
الذكاء الاصطناعي.. الموظف الجديد
المنظمات الذكية باتت تتعامل مع الذكاء الاصطناعي بعقلية جديدة: لا تُطلق النموذج إلى العمل مباشرة، بل تُدرّبه كما تُدرّب الموظف.
ابدأ بوصف وظيفي دقيق يحدد دوره بوضوح، ثم درّبه على المهام والسياقات الخاصة ببيئتك التشغيلية، وراقب أداءه باستمرار، مع تقييم النتائج وتحديث النموذج دوريًا لضمان الدقة والاتساق مع أهداف المؤسسة.
* تحديد الدور: عرّف بوضوح مهام النموذج وحدود صلاحياته. فمثلاً، يمكن للمساعد القانوني تلخيص العقود وتحليلها، لكنه لا يملك صلاحية إصدار أحكام نهائية أو قرارات ملزمة.
* التدريب الموجّه: استخدم تقنيات مثل التوليد المعزز بالاسترجاع (RAG) لجعل النموذج يعتمد على بيانات الشركة الموثوقة، مما يقلل من احتمالية الهلوسة ويعزز الدقة في المخرجات.
* المحاكاة قبل الإطلاق: تجنّب اختبار النموذج مباشرة على العملاء. فقد طوّرت Morgan Stanley نظام تقييم داخلي لمساعدها المعتمد على GPT-4، وتمت مراجعة الإجابات بشريًا قبل الإطلاق، ما رفع معدل الاعتماد إلى أكثر من 98٪.
* الإشراف المشترك: ضمّ فرق الأمن، والامتثال، والمستخدمين، والمصممين في عملية التقييم وصياغة الضوابط، لضمان توازن الأداء بين الكفاءة والامتثال.
قد يهمك أيضا.. كيف يقود الذكاء الاصطناعي نجاح المشاريع الرقمية ويضاعف أرباحها؟
التدريب لا يتوقف عند الإطلاق
الذكاء الاصطناعي يشبه الموظف الجديد: التعلم الفعلي يبدأ مع ممارسة العمل.
لذلك، يجب وضع مراقبة دقيقة للمخرجات، ومؤشرات أداء واضحة، وقنوات لتلقي ملاحظات المستخدمين، إلى جانب تدقيق دوري للتأكد من التزام النظام بالمعايير الأخلاقية والفنية.
حتى مرحلة الإيقاف أو الاستبدال تحتاج إلى تخطيط مسبق، عبر نقل المعرفة والتحديثات إلى النماذج الجديدة، كما يحدث عند انتقال الموظفين بين المناصب لضمان استمرارية الأداء والكفاءة.
الوقت ليس في صالح المتأخرين
الذكاء الاصطناعي لم يعد رفاهية أو مشروعًا تجريبيًا؛ أصبح جزءًا أساسيًا من أنظمة خدمة العملاء، والدعم الفني، والتحليل المالي، واتخاذ القرار الإداري.
شركات كبرى مثل Morgan Stanley وBank of America تستخدمه داخليًا لتعزيز كفاءة الموظفين وتقليل الأخطاء، بينما تشير تقارير إلى أن ثلث المؤسسات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لا تطبق حتى الآن إجراءات أمان أساسية، ما يفتح المجال لـ"الذكاء الاصطناعي الظلي" وتسرب البيانات.
في الوقت نفسه، الموظفون الجدد في عصر الذكاء الاصطناعي يطالبون بالمزيد: الشفافية، إمكانية تتبع قرارات الأنظمة، والمشاركة في تحسين الأدوات. الشركات التي توفر هذه البيئة تتقدم بخطوات واضحة على منافسيها.
محتوى مشابه.. الذكاء الاصطناعي يعزز إنتاجية العمالة اليدوية
ولادة وظائف جديدة داخل الشركات
مع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، ظهرت مناصب جديدة مثل مدير تمكين الذكاء الاصطناعي (AI Enablement Manager) وخبير عمليات PromptOps، الذين يشرفون على النماذج، ومصادر البيانات، والتحديثات المستمرة.
حتى مايكروسوفت اعتمدت هذا النهج في مشروع Copilot، بفرق متخصصة للحوكمة، ومراكز تميّز، ومناهج تشغيل دقيقة.
هؤلاء هم ببساطة "المعلمون الجدد" لعصر الذكاء الاصطناعي، الذين يضمنون أن النماذج لا تعمل فقط، بل تعمل بشكل صحيح وآمن.
تعرف على.. قطاع التأمين في عصر الذكاء الاصطناعي
خطة واقعية للانطلاق الآمن
قبل إدخال أي مساعد ذكاء اصطناعي إلى بيئة العمل، على المؤسسات أن تبدأ بخطوات عملية:
* كتابة وصف وظيفي واضح للنموذج.
* ربطه بمصادر بيانات آمنة ومحددة الصلاحيات (RAG / MCP).
* اختبار شامل قبل الإطلاق.
* تطبيق ضوابط الحماية (تصفية المحتوى، إخفاء البيانات، تتبع الاستخدام).
* إنشاء آليات لتلقي الملاحظات والتحليل الأسبوعي.
* مراجعات دورية وتحديثات مدروسة ربع سنوية.
في المستقبل القريب، لن يكون الموظف بمفرده في المكتب، بل سيكون إلى جانبه "زميل رقمي" يعمل معه جنبًا إلى جنب.
الشركات التي تتعامل مع هذه النماذج كأعضاء فريق حقيقيين، يمكن تدريبهم، تطويرهم، ومحاسبتهم، هي التي ستتقدم بسرعة، بأمان، وبثقة نحو المستقبل.
الذكاء الاصطناعي لا يحتاج فقط إلى بيانات ومعالجات، بل إلى توجيه، هدف، وخطة نمو واضحة.
من يفهم هذه المعادلة، سيحوّل الضجيج حول الذكاء الاصطناعي إلى قيمة مستدامة وحقيقية.
أسامة عثمان (أبوظبي) أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الذكاء الاصطناعي التوليدي الموارد البشرية نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية الذكاء الاصطناعي التوظيف الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
الأجيال الجديدة لا تتخيل الحياة بدون الذكاء الاصطناعي.. الآلة تتحكم بالبشر
قال الخبير في أبحاث التجزئة الدكتور حيزي جور مزراحي، إن التكنولوجيا تغلغلت في كل مجال من مجالات الحياة، لدرجة أن متاجر شركة وول مارت باتت تعرف ما سنشتريه حتى قبل أن نشعر بالجوع، مضيفًا أن الذكاء الاصطناعي الجديد هكذا يبدو، حيث ثورة التسوق الذكي، فأصبح الحاسوب يسمعنا، ويتعرف علينا، ويقترح علينا، ويشتري لنا، لدرجة أن توفير الوقت تحول إلى إدمان، وانتقلت السيطرة إلى الآلة، وغير الذكاء الاصطناعي من هويتنا البشرية.
نستهلك أقل ولكن ندفع أكثر
مزراحي، المتخصص في تغطية شؤون المستهلك والاقتصاد وتجارة التجزئة، قال في مقال رأي بصحيفة معاريف العبرية: إن الأطفال اليوم ما عادوا يعرفون ما هي الممحاة، ولا يشمون صفحة جديدة، ولم يكتبوا حرفًا يدويًا منذ طفولتهم. وُلد أطفال اليوم في عصرٍ أصبح فيه القلم متحفًا، والذكاء الاصطناعي دليلًا، وتحول الفصل الدراسي إلى مكتب الدفع، والمعلم إلى أمين الصندوق. لكن وراء الوعد بحياة أسهل، تظهر حقيقة مختلفة مفادها أننا نستهلك أقل ولكن ندفع أكثر، نوفر الوقت ولكن نفقد السيطرة، وفي المحصلة نسمح للآلة بالتفكير نيابة عنا.
وأضاف: تحولت أنظمة مثل GPT من OpenAI بسرعة من مصدر معرفي إلى أداة لتغيير الواقع، وأعلنت وول مارت، أكبر بائع تجزئة في العالم، مؤخرًا عن شراكة مع OpenAI، ومعًا، يقدّمان رؤية جديدة للمستهلك تُسمى تجربة التسوق الذكية – وهو نظام يُتيح للمستهلكين التحدث مع مساعد ذكي يفهم عاداتهم، ويدرك احتياجاتهم، ويُجري طلباتهم فورًا من خلال عملية دفع فورية.
Walmart is teaming up with OpenAI to enable shoppers to browse and purchase its products on ChatGPT, the retailer’s latest push to incorporate artificial intelligence https://t.co/jTz9g3EI8l — Bloomberg (@business) October 14, 2025
لا يحتاج العميل إلى البحث أو المقارنة أو ملء النماذج، وما عليه سوى تحديد احتياجاته، فيضيف النظام المنتجات المناسبة، بل ويقترح إكمالها، وتُغيّر هذه الخطوة نظرتنا إلى التسوق: فالمتجر يُصبح حوارًا، والحاسوب شريكًا فاعلًا في اتخاذ القرار، من الادخار إلى الاعتماد. وعندما نُدرك الحكمة جيدًا للوهلة الأولى، يبدو الأمر مثاليًا – فالذكاء يوفر الوقت، ويمنع الأخطاء، ويُقلل الهدر، ولكن وراء هذه البساطة يكمن نظام معقد لجمع البيانات، وتحليل العادات، وبناء ولاء عميق للمستهلك.
إعادة تشكيل عاداتنا البشرية
عندما يتعلّم النظام متى نشرب قهوتنا، أو أيّ يوم نشتري وجبة خفيفة، أو عدد مرّات طلبنا عبر الإنترنت شهريًا، فإنّه لا يُسهّل علينا الأمور فحسب، بل يُشكّل عاداتنا الشرائية أيضًا، وهذا يخلق حالة يشعر فيها المستهلك أنّه يُوفّر، بينما في الواقع يُنفق أكثر، فالذكاء لا يعكس الشخص فحسب، بل يُكوّنه أيضًا.
أشار الكاتب إلى أطفال الصف السادس وكيف يواجهون صعوبةً في كتابة نصوص قصيرة يدويًا، لكنهم يكتبون بسهولة، لا يُركز المعلم على حفظ الصيغ، بل يُعلّمهم كيفية طرح الأسئلة على الحاسوب بشكل صحيح، حتى أصبح الذكاء الاصطناعي هو المعلم الجديد، إذ يُقدم إجابات فورية، ويُنشئ مخططات بيانية، ويُقدم شروحات بلمسة زر، فمن جهة، وُجد التعلم المُخصص والمتقدم، ومن جهة أخرى، تضرر التفكير النقدي، فرغم تمتع الجيل الشاب بذكاء عالٍ، لكنه يُعاني من ضعف التركيز، واعتماد متزايد على الأجهزة، وشعور بالرضا الفوري.
سوق العمل يتغير
لا يقتصر تأثير الذكاء على الفصول الدراسية فحسب، بل يمتد إلى أماكن العمل أيضًا، وتشهد مهن مثل ممثلي خدمة العملاء، وأمناء الصناديق، ومحرري المحتوى، والمترجمين، والسائقين تراجعًا، وفي الوقت نفسه، تظهر مهن جديدة، مثل مهندسي الاستجابة السريعة، ومحللي بيانات الذكاء الاصطناعي، ومدربي أخلاقيات التكنولوجيا، ومصممي تجربة المستخدم الرقمية.
لا تُلغي الآلة بالضرورة الإنسان، ولكنها تتطلب منه أن يتعلم التحدث بلغتها وأن يكون جسرًا بينها وبين البشرية، تُثبت وول مارت كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُحدث نقلة نوعية في عالم التجزئة، فقد نجحت الشركة في اختصار وقت تطوير التحصيلات بـ 18 أسبوعًا، ومعالجة مشاكل خدمة العملاء أسرع بنسبة 40 بالمئة.
لكن الابتكار الأبرز يكمن في نموذجها الجديد – التجارة الاستباقية؛ لا ينتظر النظام طلب العميل، بل يتوقع احتياجاته مسبقًا: قبل نفاد الحليب، يُعرض عليه طلب جديد، وقبل العطلات – الهدايا، وقبل العاصفة – معدات الشتاء. وهكذا يتحول الذكاء الاصطناعي من مساعد للمشتري إلى مستشار تسويق يُسهم في رسم ملامح المستقبل.
فجوة اجتماعية جديدة
يتعرض أطفال العائلات المؤثرة للتكنولوجيا منذ الصغر، بينما يصل آخرون إلى مرحلة البلوغ بعجز في المعرفة الرقمية يصل إلى عشرات المليارات، وهكذا، تنشأ فجوة اجتماعية جديدة – لا تقوم على المال، بل على الوصول إلى المعرفة. إن الفهم الذي يُفترض أن يُسد هذه الفجوات قد يُعمّقها في الواقع.
ثورة معدات المكتب
من القلم إلى الشاحن، سلاسل متاجر مثل كرافيتز وأوفس ديبوت، التي كانت تُعرف سابقًا بالأقلام والدفاتر، تملأ رفوفها الآن بالأجهزة اللوحية وسماعات الرأس وأجهزة الشحن. طفل عام 2025 لا يحتاج إلى قلم رصاص، بل إلى سحابة. وعندما يتعطل الكمبيوتر، نتعطل نحن أيضًا، خلال انقطاع عالمي لخدمة ChatGPT، حيث أُبلغ عن شعور عشرات الآلاف من الطلاب بالارتباك، ولم يتمكن بعضهم من مواصلة مهام بسيطة. واعترف أحد طلاب المرحلة الثانوية قائلاً: "لا أعرف كيف أصل إلى مكان جديد بدون ملاحة رقمية، أو أحل مسألة بدون آلة حاسبة". يطرح هذا الاعتماد على التكنولوجيا سؤالاً صعباً: "هل يمكننا العمل في عالم بدون حاسوب؟".