الهدنة.. جاهزة للتوقيع..
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
أحمد عثمان جبريل
السلام ليس غياب الحرب، بل فضيلة في العقل، وحالة من الثقة والعدل..
سبينوزا
1.
في لحظة ما، بدا حلم السودانيين كحالة جماعية أن تتوقف أصوات المدافع وصدى الرصاص في كل مدن السودان.. تلك الأصوات التي بدأت وكأنّها أصبحت جزءًا من روتين سوداني يومياً، اعتاد الشعب سماعه، وكأن هذه الحرب أصبحت قانون الطبيعة.
2.
منذ اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، عاش السودانيون مأساة متواصلة، ملايين النازحين داخليًا وخارجيًا، بنى تحتية مدمرة، ومحاولات لوقف إطلاق النار انتهت سريعًا.. لكن المبادرة الرباعية هذه المرة يبدو أنها مكشرة عن أنيابها، حيث قدمت خارطة طريق واضحة “هدنة أولية ثلاثة أشهر، تليها خطوات نحو هدنة دائمة، ثم مرحلة انتقالية بقيادة مدنية، ما يجعل توقيع الهدنة ممكنًا إذا توافرت الإرادة الحقيقية.”
3
لكن إعلان “جاهزية التوقيع” لا يعني أن الحرب توقفت، فالاختبار الحقيقي يكمن في التنفيذ.. فتح الممرات الإنسانية، مراقبة حيادية لوقف إطلاق النار، ضمانات بعدم الانتقام السياسي أو العسكري، وهذه هي معايير النجاح التي تحدد ما إذا كانت الورقة ستصبح حقيقة ملموسة أو مجرد شعار فارغ.
4
في المقابل، هناك من يجد في استمرار الحرب مصلحة، ليس بالضرورة عبر البنادق، بل من خلال النفوذ السياسي أو الاقتصادي أو الديني، وهو واقع يؤكد أن بعض القوى السياسية والإسلام السياسي ستعمل على عرقلة الهدنة قبل التوقيع وبعده، محاولين الحفاظ على امتيازاتهم وتقييد مشاركة الدولة المدنية، وهو ما يجعل الطريق إلى السلام محفوفًا بالتحديات الكبرى.
5
ولذلك من الطبيعي أن يتساءل القارئ السوداني، السؤال المحوري.. هل هذه الهدنة فرصة حقيقية لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمساءلة، أم أنها مجرد وسيلة لإعادة ترتيب النفوذ بين النخب؟ هل سنختار صفحة جديدة من الحرية والأمان، أم نواصل الانقسام الذي استنزف الأمل؟
6
التاريخ الحديث يعلمنا أن جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة لن تتنازل بسهولة عن السلطة، ورفضها لأي عملية انتقالية مدنية يمثل تهديدًا متواصلاً للسلام، وقد تتحرك سرًا وعلانية لتقويض أي اتفاق، مما يجعل من تنفيذ الهدنة مهمة ليست سهلة، بل معركة سياسية وفكرية قبل أن تكون عسكرية.
7
الجانب الإنساني أكثر إلحاحًا.. كل يوم تأجيل للسلام يعني أطفالًا نائمين على الأرض، عائلات مشردة، مستقبل يتآكل، ومجتمع دولي غالبًا صامت، يترك السودانيين وحدهم في مواجهة البنادق.. وهذا الواقع الصادم يوجب على كل مواطن أن يعي أن النجاح في السلام لا يعتمد على الورق، بل على الممارسة اليومية للعدالة والإنسانية.
8
النجاح الحقيقي للهدنة لن يُقاس بالتوقيع فقط، بل بفتح الممرات الإنسانية، عودة النازحين، مشاركة سياسية حقيقية، شفافية ومساءلة، وحرية التعبير. أي إخفاق في هذه الخطوات سيكتب على أنه ليس فقط فشل العسكريين في الميدان، بل أيضًا فشل من في الغرف المغلقة الذين لم يمدوا يد السلام.
9
المعلومات المؤكدة من مصادرنا الدبلوماسية تقول، إن إعلان “الهدنة جاهزة للتوقيع” هو نداء إلى العقل والضمير السودانيين، إلى الشعب الذي أنهكته الحرب وحلم بالسلام طويلًا، فهو لحظة اختبار حقيقي.. هل سيختار السودانيون كتابة صفحة نهوض الوطن، أم الاستسلام لدائرة الانقسامات التي أطاحت بالأمل؟.
ما يجب أن نقوله هنا “أن السلام ليس أمنية مؤجلة، بل حقيقة تنتظر من يكتبها بخطوط ثابتة، والتوقيع ليس مجرد نص، بل توقيع على حق الحياة، الحرية، والمستقبل الذي طال انتظاره.
إنا لله ياخ.. الله غالب.
الوسومأحمد عثمان جبريلالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
نساء السودان... ضحايا وحشية الحرب
يمرّ العالم بمرحلة من الاضطراب والقلق لا تخطئها العين، بل تُحَس في تفاصيل الحياة اليومية وفي خريطة النزاعات المتمددة. فوفقاً لتقرير صدر هذا الأسبوع عن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، يشهد العالم أعلى عدد من النزاعات منذ عام 1946. مع ما يعنيه ذلك من تداعيات خطيرة على الأمن والسلم الدوليين وعلى حياة الملايين من البشر.
ولأن التقرير جاء بمناسبة مرور 25 عاماً على قرار مجلس الأمن رقم «1325»، الذي ألزم المجتمع الدولي بحماية المرأة ومشاركتها الكاملة في جهود السلام والأمن؛ فقد سلَّط الضوء على واحدة من أبشع نتائج الحروب المعاصرة: العنف الموجَّه ضد النساء في مناطق النزاع، باعتباره وجهاً مأساوياً ومتعمداً من وجوه الحروب.
يشير التقرير إلى أن نحو 676 مليون امرأة وفتاة يعشن اليوم في مناطق نزاع مميتة أو على بُعد 50 كيلومتراً منها، وهو أعلى مستوى منذ تسعينات القرن الماضي. وبينما تضاعفت الخسائر المدنية بين النساء والأطفال 4 مرات خلال العامين الماضيين؛ فقد ارتفع العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات بنسبة 87 في المائة خلال عامين فقط، في دلالة واضحة على أن الاغتصاب والعنف الجنسي لم يعودا مجرد عرض جانبي للحرب، بل أداة متعمدة من أدواتها.
في عام 2023 ارتفعت الحالات الموثقة للعنف الجنسي في مناطق النزاع بنسبة 50 في المائة مقارنة بعام 2022، حيث سُجلت 3688 حالة مؤكدة ضد النساء والفتيات الصغيرات. ثم ازداد الوضع سوءاً في عام 2024، بارتفاع إضافي بلغ 25 في المائة. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل صرخات مكتومة تعبّر عن انهيار المنظومة الأخلاقية والإنسانية في عالم باتت الحروب فيه تُدار على أجساد النساء.
ولم يغب اسم السودان بالطبع عن هذه القائمة المظلمة، في ظل حرب هي الأعنف والأكثر دموية في تاريخه الحديث؛ فقد وثّقت تقارير دولية ومحلية الانتهاكات الواسعة ضد النساء، مع اتهامات صريحة لـ«قوات الدعم السريع» بارتكاب أعمال اغتصاب واستعباد جنسي في مناطق عدة.
وتشير «منظمة العفو الدولية» إلى تورط هذه القوات في ممارسات ممنهجة من الاغتصاب الفردي والجماعي، شملت نساء وفتيات في سن الطفولة، بينما تحدثت منظمة «اليونيسف» عن 221 حالة اغتصاب موثقة للأطفال، من بينهم 16 ضحية دون الخامسة، وأربعة أطفال لم يتجاوزوا عامهم الأول. أي انحطاط إنساني يمكن أن يبرر هذا القدر من السادية والبربرية؟
وتجمع كل التقارير على أن ما تم توثيقه لا يعكس سوى جزء يسير من حجم الكارثة؛ إذ تظل معظم الحالات طي الكتمان بسبب الخوف من الانتقام أو الوصمة الاجتماعية، فضلاً عن صعوبة الوصول إلى المراكز الصحية المتخصصة، في ظل دمار البنية التحتية وانعدام الأمن. هذا التعتيم القسري يحرم الضحايا من العدالة والعلاج، ويترك الجناة بلا حساب، في جريمة مضاعفة بحق الإنسانية.
تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يذهب أبعد من التوصيف؛ فهو يلفت إلى مفارقة مؤلمة: النساء يُقتلن بأعداد قياسية في الحروب، لكنهن يُستبعدن في المقابل من طاولات صُنع السلام؛ ففي عام 2024 مثلاً، لم تكن هناك أي مشاركة نسائية في 9 من أصل 10 عمليات سلام حول العالم، ولم تتجاوز نسبة النساء 7 في المائة من المفاوضين، و14 في المائة من الوسطاء. ورغم أن الدراسات تؤكد أن مشاركة النساء تُضاعف فرص نجاح اتفاقيات السلام واستدامتها، فإن واقع السياسة لا يزال يصر على تهميش نصف المجتمع، حتى في مساعي الخروج من الحروب التي تدفع النساء ثمنها الأكبر.
إن الصورة القاتمة التي يرسمها التقرير تستدعي تحركاً عاجلاً على أكثر من صعيد:
أولاً - لا بد من تعزيز المساعدات الإنسانية، بتوسيع برامج الرعاية الصحية والنفسية للناجيات من العنف، وتوفير بيئات آمنة لهن داخل مناطق النزوح واللجوء.
ثانياً - يجب ضمان المساءلة لكل مَن ارتكب أو أمر بارتكاب هذه الجرائم، عبر آليات العدالة الوطنية والدولية، فالإفلات من العقاب هو ما يجعل هذه الممارسات تتكرر بلا خوف.
ثالثاً - آن الأوان لأن تصبح مشاركة النساء في عمليات السلام قاعدة لا استثناء، فالحروب التي تُقصي النساء تُنتج سلاماً هشاً ومؤقتاً، لأن المرأة تضفي بعداً مختلفاً، ومنظوراً إنسانياً،خالياً من نزعة العنف ولغة القوة الباطشة.
إن العنف ضد النساء في الحروب ليس مجرد مأساة فردية، بل جريمة ضد الضمير الإنساني، وضد فكرة السلام ذاتها. السودان اليوم يمثل أحد النماذج الصارخة لهذا الانهيار الأخلاقي، لكنه في الوقت نفسه يذكرنا بأن أي تراخٍ في مواجهة مثل هذه الجرائم يجعل من كل نزاع قنبلة موقوتة قابلة للتكرار، وربما بصورة أكثر وحشية.
حين يُغتصب الجسد باسم الحرب، يُغتصب معه مستقبل أمة بأكملها. ولهذا، فإن صون النساء في زمن الحرب ليس مسألة «حقوق إنسان» فحسب، بل هو معيار يُقاس به مدى إنسانيتنا.
الشرق الأوسط