من غزة إلى دارفور.. مصر بين نيران التفكيك الجيوسياسي
تاريخ النشر: 5th, November 2025 GMT
في زمنٍ تتبدّل فيه الخرائط وتُعاد فيه كتابة الجغرافيا بالدم، تعود إفريقيا إلى الواجهة لا كقارةٍ واعدة بالثروات، بل كبركانٍ ينفجر في وجه الإنسانية، حيث تتداخل الحروب الأهلية مع التدخلات الخارجية، وتغيب العدالة الدولية لتفسح المجال أمام الفوضى المقنّعة بالمصالح. وفي القلب من هذا المشهد المأساوي تقف السودان — البلد الذي كان يُفترض أن يكون جسرًا بين إفريقيا والعالم العربي — ليغرق في دوامة الخراب بعد أن كان أرضًا غنية بالذهب والنفط والماء.
بدأت الحكاية من دارفور، الأرض التي عرفت معنى العطش والدم معًا. هناك تحوّلت الثروة إلى نقمة، والنفط إلى لعنة، والذهب إلى وقودٍ لحربٍ بلا نهاية. تفكّك السودان من الداخل، وانقسمت ولاءات النخب بين جيوشٍ ومليشياتٍ قبلية، بينما ترك المجتمع الدولي المأساة تتفاقم كما ترك من قبل غزة تنزف وحيدة تحت القصف. المشهد واحد: دماء تُراق، ومآسٍ تُروى، وصمتٌ دولي فاضح لا يرى في الجنوب سوى مسرحًا لتصفية الحسابات.
إنّ ما يجري في الفاشر من إبادة ممنهجة ليس مجرد صراع داخلي على السلطة، بل هو فصلٌ من فصول حربٍ جيوسياسية تتداخل فيها أطماع القوى الإقليمية والدولية. من الذهب إلى الموانئ إلى الأرض الزراعية الخصبة، تتكاثر الأيادي الخفية التي تعبث بمستقبل السودان، فيما تُستخدم الفوضى كأداة لإعادة توزيع النفوذ في البحر الأحمر وشرق إفريقيا.
وبينما يشتعل الجنوب، تتجه الأنظار شمالًا نحو مصر، التي تجد نفسها بين نيرانٍ ملتهبة تمتد من غزة إلى دارفور. فالأمن القومي المصري لم يعد مهددًا فقط من الشرق عبر سيناء وغزة، بل من الجنوب حيث تتداعى الدولة السودانية، ويطلّ خطر جديد من بوابة النيل — شريان الحياة ومصدر الصراع الأبدي في المنطقة. إن تفكك السودان لا يعني فقط مأساة إنسانية، بل تهديدًا استراتيجيًا مباشرًا للأمن المائي والغذائي المصري.
إنّ ما يدور اليوم في السودان هو تجلٍّ جديد لمعادلة "الفوضى الخلّاقة" التي طُبّقت في الشرق الأوسط منذ مطلع الألفية. القوى الكبرى تتدخّل، والميليشيات تتحرك، والمجتمع الدولي يتحدث عن الإنسانية بينما يرعى تقسيم الدول من الداخل. وكما جرى في العراق وسوريا وليبيا واليمن، تتكرّر السيناريوهات نفسها بوجوه جديدة: انهيار الدولة المركزية، انتشار السلاح، تفكك النسيج الاجتماعي، وفتح الباب أمام مشاريع التقسيم والإلحاق الجغرافي.
في ظل هذه الفوضى، تحاول القاهرة أن تدير المعركة بعقل بارد ورؤية طويلة المدى. فهي تدرك أن الانجرار إلى صراعٍ مباشر في السودان سيكون فخًا استراتيجيًا يضعها في مواجهة استنزاف مفتوح. لذلك اختارت النهج الدبلوماسي الاستخباراتي الهادئ، الذي يوازن بين مصالحها القومية وحسابات الإقليم، ويستند إلى قاعدة تاريخية راسخة مفادها أن أمن السودان جزء لا يتجزأ من أمن مصر.
لقد تحركت أجهزة الدولة المصرية في دوائر صامتة، بعيدًا عن ضجيج الإعلام، لتحتفظ بخيوط التواصل مع جميع الأطراف دون انحياز علني، مدركة أن الحل في السودان لن يأتي إلا من الداخل، لكن لا بد أن يُصان من الخارج. فالقاهرة — بخبرتها الطويلة في إدارة الأزمات الإقليمية — تتعامل مع الملف السوداني بعقلية "إطفاء الحرائق قبل اشتعالها"، لا بعقلية التصعيد أو التدخل العسكري المباشر.
هذه البراغماتية الهادئة في السياسة المصرية ليست ضعفًا كما يظن البعض، بل انعكاس لوعي استراتيجي عميق بأن المعركة الكبرى اليوم ليست في ميدان القتال، بل في ميدان المعلومات والتحالفات. فالمخابرات والدبلوماسية تعملان في تكامل غير معلن، لتقليل الخسائر وحماية الحدود وتجنب استنزاف الدولة في نزاعات الآخرين.
وفي المقابل، يظل المجتمع الدولي غائبًا عن مسرح المأساة، يتفرج على جرائم الإبادة في الفاشر وكأنّها مشهد من فيلمٍ بعيد.ازدواجية المعايير أصبحت السمة الأبرز في تعامل القوى الكبرى مع الأزمات: يتحرك العالم كله لأجل أوكرانيا، بينما لا يتحرك أحد لأجل دارفور. تُفرض العقوبات هنا، وتُغضّ الأبصار هناك. وكأنّ دماء الأفارقة أقلّ قيمة من دماء الأوروبيين.
هذه المفارقة الأخلاقية ليست جديدة، لكنها اليوم أكثر وضوحًا من أي وقتٍ مضى. فالإعلام الغربي يتحدث عن غزة كـ"أزمة إنسانية" لا كجريمة حرب، ويتجاهل تمامًا أن ما يجري في السودان هو إبادة جماعية مكتملة الأركان. خلف هذه الصمت مصالح الشركات، وصفقات السلاح، وخطوط الطاقة، والذهب الذي يهرب إلى الخارج بينما يُدفن أهله في الرمال.
تدرك القاهرة أن ما يحدث في السودان وغزة ليسا ملفين منفصلين، بل جبهتين متصلتين في حرب إعادة رسم التوازنات الإقليمية. ففي غزة، تُحاول إسرائيل فرض واقع جديد على حدود مصر الشرقية، بينما في دارفور تُستخدم الفوضى لتطويق مصر من الجنوب. وكأنّ القدر وضعها وسط حلقتي النار في مشروع تفكيكٍ أكبر يستهدف قلب المنطقة العربية.
لكنّ مصر، رغم كل الضغوط، لم تفقد بوصلتها. فهي لا تزال تُدير المعركة وفق منطق الدولة العميقة، لا منطق ردّ الفعل الانفعالي. تحافظ على علاقاتها مع جميع القوى الإقليمية، وتبني تحالفاتها وفق ميزان المصالح لا العواطف. والأهم أنها تُعيد تعريف مفهوم الأمن القومي ليشمل دوائر أوسع: من مياه النيل إلى سواحل البحر الأحمر، ومن غزة إلى دارفور.
إنّ الدور المصري اليوم في إفريقيا لم يعد ترفًا دبلوماسيًا، بل ضرورة استراتيجية. فكل انهيار في السودان أو إثيوبيا أو جنوب السودان يعني زلزالًا يصل صداه إلى وادي النيل. ولذلك تُحاول القاهرة أن تعيد بناء دبلوماسية إفريقية متوازنة، تنطلق من مبدأ "الاستقرار المشترك"، لا من منطق الهيمنة أو الوصاية. وهي بهذا تسعى لتأكيد حضورها في القارة كقوة عقلانية تسعى للسلام، في مواجهة موجة الجنون السياسي التي تضرب العالم.
ومع كل ذلك، تبقى دارفور جرحًا مفتوحًا في الجسد العربي والإفريقي. جرحًا يذكّرنا بأن العالم لم يتعلّم شيئًا من دروس التاريخ، وأن العدالة الدولية التي تتشدق بها الأمم المتحدة ليست سوى شعار بلا مضمون. لقد تُركت دارفور كما تُركت غزة، لتواجه مصيرها وحدها، بينما تتفرّج القوى الكبرى من مقاعد المراقبة.
من غزة التي تحترق كل يوم، إلى دارفور التي تُباد في صمت، تقف مصر أمام تحدٍّ استراتيجي مزدوج: كيف تحمي أمنها القومي دون أن تنجرّ إلى حروب الآخرين؟ وكيف تبقى صوت العقل في زمنٍ فقد منطقه؟ الجواب يكمن في العقلانية المصرية القديمة، تلك التي صاغت أولى حضارات الإنسان، وتعلّمت كيف تحوّل الكوارث إلى فرص، والهزائم إلى دروس.
وفي نهاية المشهد، قد تتغير الحدود، وقد تتبدل التحالفات، لكنّ الثابت أن مصر ستبقى صمام الأمان في منطقة تُدفع نحو التفكيك، لأنها ببساطة الدولة التي لا يمكن كسرها أو تجاوزها. فبين نيران غزة ولهيب دارفور، تظل القاهرة تُمسك بخيوط الاتزان، لتؤكد أن حضورها ليس فقط في السياسة، بل في الوعي الجمعي للأمة كلها.. .!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.. [email protected]
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: إلى دارفور فی السودان من غزة التی ت
إقرأ أيضاً:
هل تدفع سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر إلى تقسيم السودان؟
سارع قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى نفي التقارير التي أشارت إلى عزمه فصل إقليم دارفور عن بقية أنحاء السودان، وذلك بعد أن سيطرت قواته على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، آخر معاقل الجيش السوداني في الإقليم.
التغيير _ وكالات
وقال دقلو، في خطاب مصوّر، إن هذه مجرد شائعات أطلقها – بحسب وصفه – المرجفون والساعون إلى الفتنة، لكنه في الخطاب ذاته أعلن أن قوات من الشرطة الفيدرالية التابعة لحكومة تأسيس التي يقودها ستنتشر في الفاشر لحفظ الأمن بعد انسحاب القوات العسكرية، مؤكدًا أن حكومته ماضية في حفظ الأمن وتقديم المساعدات الإنسانية للمحتاجين. وقال دقلو: “تحرير الفاشر هو انتصار عسكري مهم، لكنها ستظل رمزًا لوحدة السودان”.
ورغم تأكيدات قائد قوات الدعم السريع وتطميناته بعدم رغبته في الانفصال، إلا أن العديد من المؤشرات والشواهد تشير إلى أن الأمور قد تمضي في اتجاه الانفصال أو التقسيم على أقل تقدير
قال قائد قوات الدعم السريع السودانية، الفريق محمد حمدان دقلو، إن “تحرير الفاشر انتصار عسكري مهم، لكنها ستظل رمزاً لوحدة السودان”
وتقول الكاتبة والمحللة السياسية شمائل النور إن ما وصفته بـ”سلوكيات قوات الدعم السريع” جعل الهوة بينها وبين المجتمع السوداني تتسع كثيراً.
“بعد الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في الفاشر، فإن هذا السلوك قد يسهم في انفصال إقليم دارفور باعتبار أن المجتمع بشكل عام قد يتقبل فكرة الانفصال عن هذه المجموعة التي تقوم بمثل هذه الأفعال المشينة”.
في يونيو الماضي، شكّلت قوات الدعم السريع وفصائل أخرى – من بينها الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تمتلك نفوذاً واسعاً في ولاية جنوب كردفان – حكومة موازية أطلقت عليها اسم حكومة تأسيس، وقالت إنها تسعى إلى وقف الحرب وحماية المدنيين.
وفي أغسطس الماضي، تم الإعلان رسمياً عن هيكل الحكومة ومسؤوليها، حيث تم تعيين حميدتي رئيساً للمجلس الرئاسي (بمثابة رئيس الجمهورية)، ومحمد حسن التعايشي رئيساً للوزراء، كما ذهبت الحكومة إلى أبعد من ذلك حين عينت قوني مصطفى شريف مندوباً للسودان لدى الأمم المتحدة.
منذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023، طُرحت العديد من الوساطات الإقليمية والدولية للتوصل إلى حل تفاوضي ينهي الأزمة.
وظلت الحكومة السودانية، بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، ترفض تلك المقترحات، لكنها في المقابل سلّمت الأمم المتحدة عبر مبعوث الأمين العام الشخصي للسودان رمطان لعمامرة خارطة طريق خاصة بها تتضمن رؤيتها لحل الأزمة.
غير أن مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان – التي تقاتل إلى جانب الجيش – رفض هذه الخارطة، معتبراً أنها ستؤدي إلى تقسيم السودان.
وقال مناوي في حديث لبي بي سي إن المسودة تتضمن “بنداً يشير إلى تجميع قوات الدعم السريع في مناطق سيطرتها ونفوذها الأهلي في إقليم دارفور. هذا المقترح هو دعوة لتقسيم السودان. كيف يمكن لقوات الدعم السريع أن تتجمع في دارفور وتمارس نشاطها من هناك؟ هذه دعوة واضحة للتقسيم، وأنا أرفضها رفضاً قاطعاً، ولم تتم مشاورتنا فيها من الأساس”.
وترسم شمائل النور عدة سيناريوهات لتطور الأوضاع خلال الفترة المقبلة، قائلة إن السيناريو الأول يتمثل في بدء حرب استنزاف كبيرة في محور القتال بإقليم كردفان، إذا أصرت الأطراف المتحاربة على خيار الحل العسكري.
أما السيناريو الثاني – الذي ترجّحه – فهو تقسيم السودان على غرار ما حدث في ليبيا، وذلك عبر مفاوضات تؤدي إلى قيام حكومتين.
الأولى تحت سيطرة الجيش في الخرطوم، والثانية تحت سيطرة قوات الدعم السريع في دارفور.
وتضيف أن هذا السيناريو مرتبط بإيجاد مخرج للقوات المشتركة التي تقاتل مع الجيش وينحدر قادتها وجنودها من إقليم دارفور.
انفصال دارفور غير واردفي بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة، ينشغل القادة العسكريون والمسؤولون الحكوميون حالياً بكيفية تدارك الموقف واستعادة زمام المبادرة وقلب الطاولة على قوات الدعم السريع في محاور القتال، كما أكد الفريق عبد الفتاح البرهان في خطاب متلفز بُث بعد يومين من سقوط الفاشر بيد قوات الدعم السريع.
ويبدو أن هناك ثقة لدى بعض المسؤولين في عدم قدرة حكومة الدعم السريع على إدارة شؤون الإقليم أو المضي نحو الانفصال، كما يرى وزير الإعلام خالد الأعيسر.
“شروط تشكيل دولة جديدة غير متوافرة، والحكومة المركزية لا تزال تتمتع بدعم شعبي واسع، حتى داخل إقليم دارفور، حيث ترفض الأغلبية أن تنعزل منطقتهم عن السودان”.
من جانبه، يرى رئيس تحرير صحيفة إيلاف، خالد التجاني، أن ربط سيناريو تقسيم السودان بالحالة الليبية أمر غير منطقي.
“هناك تعقيدات جيوسياسية كبيرة في المشهد السوداني تختلف عن الأوضاع في ليبيا. الواقع في دارفور معقد للغاية؛ فهناك تداخل قبلي وإثني واسع، مما يجعل من الصعب على جهة واحدة، مثل قوات الدعم السريع، إدارة الإقليم، الذي يفتقر أصلاً إلى الموانئ والمنافذ”.
ورغم تشكيكه في احتمال انفصال دارفور بسبب غياب المنافذ البحرية، إلا أن ذلك لم يمنع جنوب السودان من الانفصال عن السودان في ظل عدم وجود موانئ وذلك منذ عام 2011
ويرى التجاني أن المقاربة بين التجربتين غير منطقية.
“في تجربة جنوب السودان، كان هناك شبه إجماع دولي على منح الإقليم حق تقرير المصير والانفصال، استناداً إلى اختلافات ثقافية ودينية وإثنية واضحة بين الشمال والجنوب. أما في دارفور، فالوضع مختلف؛ فالثقافات والأديان واللغة واحدة، والأهم أن هناك شبه إجماع دولي على رفض فكرة التقسيم والانفصال”.
الجدير بالذكر أن جنوب السودان كان قد انفصل عن السودان في عام 2011 بعد استفتاء شعبي على مبدأ تقرير المصير، ما أدى إلى فقدان السودان نحو ثلث مساحته الجغرافية جنوباً، بما فيها من ثروات وموارد نفطية.
نقلاً عن “بي بي سي” _ محمد محمد عثمان
الوسومالجيش الحرب الدعم السريع السودان الفاشر تقسيم السودان