الأزمة السودانية والتدفق الإخباري
تاريخ النشر: 4th, November 2025 GMT
ماذا يحدث في السودان؟
سؤالٌ يبدو في ظاهره بسيطًا ينطلق من رغبةٍ عفوية في معرفة ما يجري في بلدٍ عربيٍّ شقيق نتقاسم معه الجغرافيا والعقيدة والكثير من القيم الإنسانية. غير أن التوقف عند هذا السؤال ومحاولة إسقاط بعض التساؤلات الصحفية يكشف حجم الغياب لا حجم الفضول؛ فالسؤال ذاته اعترافٌ ضمنيّ بأننا لا نعرف الكثير، وأن ما نعرفه لا يكفي لنكوّن صورةً حقيقيةً عن بلدٍ يُعاني حربًا طال أمدها تُشطره إلى نصفين، وتُبدّد أحلام أبنائه فيما تذوب مأساته في صمت إعلامي كبير أملته عليه الجغرافيا والمكان والزمان.
وربما تكمن المفارقة في أن جهلنا بما يحدث لا يعود إلى غياب الحدث ذاته، بل إلى غياب حضوره في المشهد الإعلامي العام كما قلت؛ إذ تتزاحم على شاشاتنا أخبار الحروب الكبرى والنزاعات ذات الصدى العالمي بينما تتوارى الحروب الصغيرة، أو لنقل حروب الدول الفقيرة خلف جدران التجاهل أو الإهمال الإعلامي المتعمد، أو كما يطلق عليه في الأدبيات الإعلامية بالتدفق الإعلامي الحر للمعلومات والأخبار.
السودان قد يكون من الأمثلة الواضحة على الغياب الإعلامي أو التهميش الإعلامي؛ فبرغم مأساة الحرب الدائرة هناك منذ أشهر لا يحظى السودان بالاهتمام الإعلامي الدولي الذي يستحقه كنقطة حرب ساخنة تشهد إبادات جماعية وقتلا وسفكا للدماء وتصفيات لأبرياء لا ذنب لهم في حرب تدور بين متصارعين، وهذا ما ذكرته على سبيل المثال صحيفة الإيكونوميست البريطانية التي وصفت الوضع في السودان بـ«الأزمة المنسيّة» في إشارةٍ إلى أن العالم لا يرى ما يجري إلا على استحياء، وأن التغطية الإخبارية الدولية تكاد لا تعكس حجم الكارثة الإنسانية هناك.
فالمساحة التي خُصِّصت للسودان في الإعلام العالمي، ونوعية المعالجة ذاتها لا ترقيان إلى الحضور الطاغي الذي حظيت به أزماتٌ أخرى كالحرب في أوكرانيا أو العدوان على غزة، أو ما يجري من أحداث في العالم الغربي، أو في أمريكا التي تحظى تغطياته بالكثير من الاهتمام، وتشهد تدفقا كبيرا للأخبار؛ بسبب عوامل يختلط فيها السياسي بالاقتصادي بالثقافي، وبالغنى والفقر، وبالتاريخ والجغرافيا.
في دراسة موسعة أعدّتها الباحثة عائشة البصري بعنوان «تغطية الإعلام الدولي للحرب في السودان: الأجندة « التأطير ــ القيود»»؛ حللت الباحثة طبيعة الصورة التي يرسمها الإعلام الغربي عن السودان، وكيف لا تزال تغطيته أسيرةً للنمط القديم الذي يحصر القارة الإفريقية في مشاهد الحرب والمجاعة والفوضى دون أن يتعمّق في فهم السياقات السياسية والاجتماعية والإنسانية للصراع.
واستشهدت الدراسة باستطلاعٍ للرأي أجرته منصة يوجوف البريطانية (YouGov) في أكتوبر 2023 شمل ألف مشارك في الولايات المتحدة كشف أن 75% من المستطلعين لا يفهمون النزاع في السودان إطلاقًا أو لا يفهمونه جيدًا مقابل 6% فقط قالوا: إنهم يفهمونه جيدًا. وهي نسبةٌ متدنية تُظهر إلى أيّ مدى أخفقت الصحافة الدولية في تفسير ما يجري هناك مقارنةً بوضوح السرديات المقدَّمة حول حروبٍ أخرى مثل أوكرانيا أو غزة.
وتكشف هذه النتائج عن خللٍ عميق في منظومة الإعلام الدولي التي لا تزال تتحكم في ما يُرى وما يُهمَّش، فتمنح بعض المآسي ضوءًا ساطعًا وتترك أخرى في العتمة. وهكذا تتحول الكارثة الإنسانية إلى حدثٍ انتقائيٍّ في الوعي العالمي تحكمه الجغرافيا والسياسة وموازين المصالح أكثر مما تحكمه القيم الإنسانية ذاتها.
تساؤلات (ماذا يحدث في السودان؟) أعادتني إلى محاولة جديدة لفهم المشهد الإعلامي العالمي في ظل التحولات الكبرى في نقل الأخبار وتداولها بعدما كان مصطلح «التدفّق الإخباري» الذي نشأ مع نشأة النظريات الإعلامية في خمسينيات القرن المنصرم مقتصرا على الإعلام التقليدي حين كانت القوى الكبرى تُمسك بخيوط المعلومة وتُدير بواباتها كما تشاء. حين كانت وكالات الأنباء والصحف الدولية تحدّد ما يستحق أن يُروى وما يجب أن يُهمّش، فتغدو أخبار «الشمال الغني» هي السائدة، وأخبار «الجنوب الفقير» مجرّد هوامش على أطراف النشرات. كانت الأخبار تتحرك من المركز إلى الأطراف، من القوي إلى الضعيف، من الغرب إلى الشرق؛ وفق أجندات سياسية واقتصادية تُكرّس هيمنة الصوت الواحد على الوعي الجمعي.
واليوم، ومع انفجار وسائل التواصل الاجتماعي، وتحوّل كل إنسان إلى ناقلٍ محتملٍ للمعلومة؛ كان من الطبيعي أن تتغيّر المعادلة، وأن يصبح التدفق أكثر توازنًا وعدالة. لكن ما حدث هو العكس تقريبًا؛ فقد انتقلت الهيمنة من غرف الأخبار إلى خوارزميات المنصّات، ومن رئيس التحرير إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تُعيد ترتيب الأولويات وفق منطق السوق لا منطق القيم. الغرب الذي امتلك الإعلام التقليدي هو ذاته الذي يمتلك اليوم المنصّات الرقمية الكبرى، فيعيد من خلالها إنتاج الصورة ذاتها، وإن اختلفت الأدوات.
ومع ذلك يظلّ الأمل قائمًا في المساحات الصغيرة التي تخلقها المبادرات الفردية والإعلام المستقل، وفي الأصوات التي تروي القصة من الداخل لا من وراء الزجاج؛ فالمشهد الإعلامي -وإن بدا محكم السيطرة- ليس مغلقًا بالكامل. يكفي أن تبقى هناك عيونٌ ترى، وأقلامٌ تكتب؛ لتذكّرنا بأن الخبر ليس ملكًا لأحد، وأن العدالة الإعلامية لا تتحقق بالحياد، بل بالإنصات لما لم يُسمع بعد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی السودان ما یجری التی ت
إقرأ أيضاً:
الحكومة السودانية: لا تفاوض مع الدعم السريع بشأن الهدنة
كشفت الحكومة السودانية اليوم الاثنين عن حقيقة الأنباء التي ترددت بشأن الموافقة على هدنة في البلاد مع ميليشيات الدعم السريع، والتي سيطرت مؤخرا على مدينة الفاشر بولاية دارفور وارتكتب انتهاكات مروعة.
وأكدت الحكومة السودانية أنه لا يوجد تفاوض مباشر أو غير مباشر مع الدعم السريع حول الهدنة.
وأضافت الحكومة السودانية في تصريحات لفضائية "العربية" أنه لا هدنة قبل انسحاب الدعم السريع من الأعيان المدنية وفقا لاتفاق.
وفي وقت سابق من اليوم الاثنين، أكد كبير مستشاري ترامب للشؤون العربية والإفريقية مسعد بولس، اليوم الاثنين أن واشنطن لم تعلن عن أي لقاء محتمل بين قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد ميلشيات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي"، موضحا أن هناك تواصل مع الطرفين بشكل منفصل.
وقال كبير مستشاري ترامب للشؤون العربية والإفريقية، في تصريحات صحيفة عقب لقائه بوزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطي، في القاهرة إنه لم تكن هناك أي مفاوضات بشأن عقد لقاء بين البرهان وحميدتي معربا عن أمله في التوصل لاتفاق.
وأوضح بولس، أعلمنا الدعم السريع بضرورة المضي قُدما بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات في الفاشر، ويجب أن تكون محاسبة علنية لمرتكبي الانتهاكات الغير مقبولة.
وفيما يتعلق بالمقترح الأمريكي للهدنة، أوضح بولس أن هناك بعض التفاصيل التي يجري الانتهاء منها، معربا عن أمله في الإعن عن الهدنة في السودان قريبا، لافتا إلى أن الطرح الأمريكي لاقى ترحيبا مبدئيا من قبل الطرفين، وهناك مبادرة أمريكية للتوصل إلى هدنة في الفاشر.
وجاءت تصريحات بولس بعد اختتام أعمال جولة الحوار الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة حول القضايا الأفريقية، حيث ترأس الجانب المصرى الدكتور بدر عبد العاطي وزير الخارجية والهجرة وشئون المصريين بالخارج، فيما ترأس الجانب الأمريكي مسعد بولس كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشئون العربية والأفريقية، وبحضور مايكل ريجاس نائب وزير الخارجية للإدارة والموارد، وذلك يوم الاحد ٢ نوفمبر.
وشهدت المشاورات تناول عدد من القضايا أبرزها التطورات فى السودان وليبيا ومنطقة البحيرات العظمى والساحل الافريقى والقرن الافريقى، فضلا عن ملف الامن المائى المصرى.
وقال بيان وزارة الخارجية إن المباحثات تناولت عدداً من القضايا الإقليمية والتي تضمنت مستجدات الأوضاع في السودان، حيث أكد الوزير عبد العاطي على ثوابت الموقف المصري الداعم لوحدة واستقرار السودان ومؤسساته الوطنية.
وأشار الدكتور عبد العاطي إلى الجهود التي تبذلها مصر في إطار الآلية الرباعية المعنية بالسودان لدعم جهود التهدئة والتوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار، مشددا على أهمية تضافر الجهود للتوصل إلى هدنة إنسانية ووقف لإطلاق النار في جميع أنحاء السودان بما يمهد الطريق لإطلاق عملية سياسية شاملة في البلاد.