التعليم العالي ومسارات المستقبل
تاريخ النشر: 22nd, November 2025 GMT
على مدار العقود الماضية في عمر الدولة الحديثة في سلطنة عُمان؛ شكّل التعليم العالي بأنماطه المختلفة رافعة حيوية لبناء الإنسان والتنمية وتوسع الاقتصاد، والاندماج الحضاري، بقطاعاته المختلفة سواء البرامج التي تطورت عبر الجامعات والكليات المحلية، أو البعثات وبرامج التبادل الخارجي، أو المؤسسات المعنية بالتعليم المهني والحرفي، أو ببيئة البحث والابتكار المصاحبة لأنشطة التعليم العالي في مختلف المؤسسات والاختصاصات.
كما استطاع التعليم العالي أن يرافق تطور الاحتياجات من المعارف والمهارات والقدرات التي كانت تنشأ بين حقبة زمنية وأخرى، أو تلك التي تفرضها شروط الاختصاص ومسارات التنمية، أو مؤسسات العمل الوطني، وقطاعات الاقتصاد المختلفة.
غير أننا اليوم نقف أمام مرحلة يتبلور فيها نموذج جديد للتنمية في عُمان تقوده الأجندة الوطنية في رؤية عُمان 2040، وأولويات المرحلة، واستشراف المستقبل، واحتدام التنافس الإقليمي والعالمي على تطوير نماذج اقتصادية قادرة على قيادة النمو عبر المشاريع النوعية في مختلف القطاعات، وأشكال جديدة متوقعة لتغير هياكل التعليم بمراحله المختلفة، خاصة في نوعية الطلب من أسواق العمل، ودخول منصات التعليم الذاتي الذكية، وثورة الذكاء الاصطناعي، وتغير أدوار المؤسسة التعليمية والقائم بفعل التعليم والتعلم؛ هذا عوضًا عن تغيرات تطرأ على طبيعة الأجيال ذاتها وقابلياتها وميولها واستعدادها لأنماط جديدة ومختلفة من التعلم.
إن نموذج التنمية في عُمان أصبحت تقوده سياسات واضحة ومحددة؛ ففي السياق الاجتماعي هناك اتجاه نحو رسم أرضية مستديمة للسياسات الاجتماعية تحقق دقة الاستهداف، وعدالة التوزيع، وتوسع قاعدة التعليم بمراحله المختلفة، وتشجع على البحث والابتكار وإقامة مجتمعات المعرفة إلى جانب اهتمامها بتجويد مسارات الخدمات الصحية، ومواكبة المستجدات من التقانات والابتكارات التي تطرأ على قطاع الصحة في عمومه.
وفي السياق الاقتصادي أصبحت هناك رؤى مستنيرة للتحول نحو الاستفادة من فرص التحول الأخضر، وتنشيط اقتصاديات التدوير بالإضافة إلى تعميق مساهمة المعرفة في التنويع الاقتصادي، ومواكبة مستجدات التمويل الأخضر والتكنولوجيا المالية إضافة إلى خلق جيل جديد من الأعمال الريادية التي تقوم على الاستفادة من فرص التحول، وخاصة في القطاع التقني لتقود جهود الابتكار والتشغيل مستقبلًا.
وفي سياق آليات عمل الحكومة وحوكمة أدوار المؤسسات هناك انتقال إلى نموذج عمل يقوم على المستهدفات ومؤشرات الأداء، ويأتي مدعومًا بتطوير بيئة صنع السياسات العامة إضافة تحول في أنماط خدمة المتعاملين لتكون متمحورة حول الوصول للمواطن رقميًا، وتقليل الكلف والجهود اللازمة لتقديم وتلقي تلك الخدمات.
وبلا شك أن هذه الاتجاهات هي رحلة تحول لا تبين نتائجها خلال أمد قصير. وهذه الرحلة جزء من نجاحها يرتهن بوجود نظام تعليم عالٍ (مواكب، ومستجيب، ومرن، ومجرب).
هذه خصائص أربع أساسية يحتاجها نموذج المستقبل للتعليم العالي في سلطنة عُمان؛ فكل سياق من هذه السياق يفرض احتياجات معرفية وبحثية وابتكارية معينة. فتخصصات مثل الذكاء الاصطناعي، وعلم البيانات، وتقنيات الأمن السيبراني، والجريمة السيبرانية، وهندسة التصميم والتشغيل، واللوجستيات الإلكترونية، وهندسة الطاقة المتجددة بما فيها من اختصاصات دقيقة مثل: هندسة الخلايا الكهروضوئية، وكيمياء التحليل الكهربائي إضافة إلى اختصاصات الرصد الهيدرومتري، وإدارة الأداء البيئي، والتكنولوجيا المالية، والتمويل الأخضر، وإدارة المخاطر (بفروعها المختلفة)، وطب الشيخوخة، وعلوم الرؤية الحاسوبية، ومعالجة اللغات الطبيعية وتعلم الآلة، وعلوم التصميم والروبوت، وغيرها تخصصات تفرزها اتجاهات التحول الراهنة في سلطنة عُمان، ومع توافرها مع السنوات قد تصبح دعامة حقيقية لجني الثمار في مجالات مختلفة كاتجاهنا لتنويع اقتصادنا، وتوسيع مشروعات واستثمارات الطاقة المتجددة وتقنياتها، وبناء منظومة متكاملة للاقتصاد الرقمي والتقنيات المتقدمة والاستثمار في الفضاء، وتوجهات الحياد الصفري عوضًا عن مجمل ما تتضمنه الاستراتيجيات القطاعية الوطنية الأخرى من مستهدفات وبرامج.
على الجانب الآخر تفرض الاتجاهات المتوقعة في بنى التعليم العالي خلال العقدين القادمين استعدادًا في شكل وطبيعة وتنظيم هذه النظم نفسها؛ فالأدبيات تشير-على سبيل المثال- إلى أنه بحلول عام 2040 «سيزداد اندماج شركات التكنولوجيا والمنصّات المهنية مع الجامعات، بحيث يصبح جزء كبير من المقررات معتمدًا ومصمَّمًا بالشراكة مع شركات كبرى (تقنية، مالية، صناعية)، بل ربما تحمل بعض المساقات «علامة تجارية» للشركات إضافة إلى ما تتوقعه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال العقدين القادمين من ثورة للشهادات الصغيرة (المهنية والاحترافية)؛ حيث تقول إنه «من المرجّح أن يكون لكل طالب «محفظة» تحتوي عشرات الشهادات القصيرة المكدَّسة من جامعات مختلفة تُقرأ آليًّا من قبل أنظمة التوظيف، وتُحدِّد مهاراته الفعلية أكثر من مسمّى درجته الكبرى».
وعلاوة على ذلك سينشط سوق التعليم الافتراضي الذي سيزيد من الاندماج والانتقال الدولي للطلبة عبر المنصات والقارات وهم في مواقعهم وبلدانهم.
كل هذه المعطيات تدفعنا إلى اقتراح تجريب نموذج جديد، ويمكن أن يكون في شكل (كلية جديدة للمستقبل) تنشأ مركزة على مجال معرفي محدد، وليكن على سبيل المثال (التحول الأخضر)، وتبدأ في اختصاصات محدودة (4 - 5) تخصصات داعمة للمجال بشقه الاقتصادي، والبيئي، والتكنولوجي، واللوجستي، وتتفرع شهاداتها بين شهادات (مهنية واحترافية) عبر برامج قصيرة، وشهادات أكاديمية، ويؤخذ في اعتبار تأسيسها أن تكون رائدة عالمية في مجالها المعرفي، ومرتبطة بالصناعة ذاتها؛ بحيث يتم ربطها بمجمل الشركات والاستثمارات العاملة في القطاع بصناعاته المختلفة إضافة إلى إمدادها بالمختبرات وورش البحث وبيئة الابتكار اللازمة والرائدة في هذا القطاع.
في تصورنا؛ فإن البدء في تجربة كهذه من شأنه أن يدعم اتجاها محوريًا ورئيسيًا لنموذج التنمية الجديد في عُمان من ناحية، ومن ناحية أخرى ستتيح التجربة التعرف على آفاق المستقبل وتغيرات النظم والطلب والبنى والمعارف في شكل نظام التعليم العالي الجديد، ومباركة وعرفانًا لمن أرسى هذه التوجهات الجديدة يمكن أن تحمل هذه الكلية اسم حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ الذي اختط هذا الطريق، وهو ماضٍ بقيادته وبعزم للريادة فيه، وترسيخ موقع عالمي لسلطنة عُمان على خارطته.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع، والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التعلیم العالی إضافة إلى
إقرأ أيضاً:
جسور المستقبل عبر تعزيز منظومة التعليم الدولي
#جسور #المستقبل عبر تعزيز #منظومة_التعليم_الدولي
الأستاذ #الدكتور_أمجد_الفاهوم
يشكّل استقطاب الطلبة الدوليين في الجامعات الأردنية ركيزة محورية في بناء حضور أكاديمي عالمي يعزز مكانة التعليم العالي ويكسبه دورًا يتجاوز حدود القاعة الدراسية نحو تأثير اقتصادي وثقافي وسياسي طويل المدى. وتبرز جامعة اليرموك نموذجًا مهمًا في هذا المسار من خلال سعيها المتواصل لفتح أبواب الحرم الجامعي أمام طلبة من مختلف الدول والثقافات، بما يضيف قيمة نوعية لبيئتها الأكاديمية ويثري التفاعل المعرفي داخل قاعاتها. هذا التنوّع يتيح للجامعة فرصًا واسعة لتطوير علاقات ممتدة مع البلدان التي ينتمي إليها الطلبة، ويمنح الأردن شبكة متنامية من السفراء الثقافيين الذين يحملون معهم بعد تخرجهم تجربة إيجابية تنعكس في علاقات تعاون وبناء مستقبلية.
يسهم الطلبة الدوليون في تنشيط قطاعات اقتصادية عديدة باعتبارهم جزءًا من منظومة “السياحة التعليمية” التي تشهد إقبالًا متزايدًا عالميًا. فالرسوم الجامعية والسكن والمواصلات والخدمات اليومية كلها تشكّل قيمة مضافة للاقتصاد المحلي وتعطي الجامعات قدرة أكبر على الاستثمار في تطوير برامجها وبنيتها الأكاديمية. وتشير بيانات وزارة التعليم العالي إلى ارتفاع أعداد الطلبة الدوليين الملتحقين بالجامعات الأردنية، وهو ما يعكس ثقة متنامية بالمؤسسات التعليمية وبالاستقرار الذي يقدّمه الأردن كوجهة تعليمية آمنة ومتنوعة. وتدعم جامعة اليرموك هذا التوجه من خلال توسيع خدماتها للطلبة غير الأردنيين، وتوفير بيئة تساعدهم على تحقيق الاستقرار الأكاديمي والاندماج الاجتماعي منذ لحظة وصولهم.
مقالات ذات صلةيمتد أثر الطلبة الدوليين إلى البعد الثقافي والإنساني، حيث يشكل حضورهم في الجامعات فضاءً للتنوع والحوار وتبادل الخبرات. فالطالب الدولي لا يضيف خبرة معرفية فحسب، بل يأتي بثقافته وقيمه ورؤيته للعالم، ما يخلق مساحة لتفاعل إنساني يرسخ قيم التفاهم والانفتاح. وتصبح الجامعة، خصوصًا جامعة اليرموك، نقطة التقاء حضاري مهمّة تعزّز قدرة الطلبة المحليين على فهم العالم من حولهم وتطوير مهارات التواصل بين الثقافات، وهي مهارات مطلوبة بشكل كبير في سوق العمل العالمي. كما يساهم هذا التعدد في تعزيز السمعة الدولية للجامعة ورفع تنافسيتها وجاذبيتها كوجهة تعليمية، وخاصة بعد تطوير منصات لاستقطاب الطلبة ونظام قبول أكثر مرونة يراعي ظروف المتقدمين من مختلف الدول.
وعلى الرغم من هذه الفوائد، يواجه الطلبة الدوليون مجموعة من التحديات التي تستوجب منظومة دعم مؤسسية متكاملة. فالتأخر في صدور الوثائق أو المشكلات المتعلقة بالتأشيرات وتسجيل المواد قد يؤدي إلى تعطل انتظامهم في الدراسة منذ الأيام الأولى، وهو ما يستدعي مرونة أكاديمية مسؤولة تضمن الحفاظ على جودة التعليم وفي الوقت نفسه تمنح الطالب فرصة حقيقية للالتحاق بمساقاته دون تأخير. كما أن اختلاف الأنظمة التعليمية بين بلد الطالب وبيئته الجديدة قد يخلق فجوة في الفهم أو سرعة التكيّف، ما يجعل الإرشاد الأكاديمي وتفعيل ساعات المكتب والمجموعات الطلابية ضرورة أساسية لتعويض أي فاقد تعليمي وتحقيق اندماج إيجابي في البيئة الجامعية.
ويظهر جانب آخر من التحديات في الاندماج الاجتماعي، إذ قد يواجه بعض الطلبة شعورًا بالانعزال أو صعوبة في تكوين شبكة علاقات جديدة في مجتمع مختلف ثقافيًا ولغويًا. وهنا تبرز أهمية تعزيز الأنشطة الطلابية المشتركة، وبرامج الأقران، والفعاليات التي تمنح الطلبة فرصة للتفاعل الطبيعي واكتشاف البيئة المحيطة بهم. كما يعد توفير سكن مناسب ودعم لوجستي من أهم عناصر الاستقرار التي تحدد انطباعات الطلبة في أسابيعهم الأولى، وهي الفترة الأكثر حساسية في تشكيل تجربتهم الأكاديمية والإنسانية.
إن الاستثمار في الطلبة الدوليين يتطلب رؤية استراتيجية تتعامل مع هذا الملف لا باعتباره مصدرًا ماليًا فقط، بل كمسار للتأثير العميق والمستدام. فالطلبة الذين يغادرون الأردن بعد حصولهم على شهاداتهم يعودون إلى بلدانهم حاملين معهم تجربة تعليمية وإنسانية تشكل أساسًا لشبكات تعاون مستقبلية. وقد أثبتت التجارب الدولية أن الخريج الدولي يشكل جسرًا فعّالًا في تعزيز العلاقات الاقتصادية وتسهيل الشراكات التجارية والعلمية والتقنية بين البلدين، ما يجعل العناية بتجربته منذ اليوم الأول جزءًا من سياسة خارجية ناعمة تعزّز حضور الأردن عالميًا عبر التعليم.
وفي هذا السياق، فإن الجامعات الأردنية مدعوّة لمواصلة تطوير منظومتها الحالية عبر تبسيط الإجراءات، وتعزيز التواصل، وإيجاد مسارات دعم أكاديمي واجتماعي تحوّل تجربة الطالب الدولي إلى تجربة ناجحة ومُلهمة. فكل طالب يصل إلى الحرم الجامعي يختبر في أسابيعه الأولى معنى الانتماء وجودة التنظيم وحسن الاستقبال، وهي لحظات تختصر الكثير من ملامح الأردن وتكوّن الانطباع الأول الذي سيحمله معه طويلًا.
وفي النهاية تبقى الرسالة الأهم أن تكون مكالمتهم الأولى إلى أهاليهم إيجابية، تحمل انطباعًا يعكس دفء هذا الوطن ورقي مؤسساته، وتجعل من تجربتهم الدراسية في الأردن نقطة تحوّل، لا في مسارهم الأكاديمي فقط، بل في نظرتهم إلى البلد الذي احتضنهم ومنحهم فرصة للتعلّم والانتماء.