حددت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة القادمة 19 ديسمبر 2025، الموافق 28 جمادي الثاني 1447 هـ، وهي بعنوان «فَظَلِلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً».

كما حددت الأوقاف موضوع الخطبة الثانية، وهي تعالج قضية التفكك الأسري ضمن مبادرة صحح مفاهيمك.

نص موضوع خطبة الجمعة القادمة

الحمدُ للهِ الذي يرققُ القلوبَ بلطفهِ، ويربي عبادَهُ على مقامِ الأمانةِ، ويهديهم إلى معارجِ الصفاءِ والإخلاصِ، نحمدُهُ حمدًا يليقُ بجلالِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، الذي أقامَ الأمةَ على العدلِ والرحمةِ والمواساةِ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومنْ سارَ على نهجِهِ إلى يومِ الدينِ.

أما بعد:

فيا عبادَ اللهِ، إنَّ في مقاماتِ الإيمانِ لحظاتٍ يرقُّ فيها القلبُ، وتصفو فيها النفسُ، ويستيقظُ ضميرُ المؤمنِ ليحاسبَ نفسَهُ على دقائقَ لا يلتفتُ إليها أهلُ الغفلةِ.

وإذا كان أولئك القومُ يحاسبونَ أنفسَهم على المشاعرِ، فكيفَ بحالِ منْ لا يبالي بآلامِ الناسِ أو حقوقِهِم؟ وكيفَ بمنْ يتغافلُ عن أوجاعِ المجتمعِ، أو يعتدي على مالِ الجماعةِ، وهو منْ أعظمِ الأماناتِ؟

يا عبادَ اللهِ، إنَّ منْ أجلِّ منازلِ السالكينَ إلى اللهِ منزلةً يرقُّ فيها القلبُ، وتخشعُ فيها النفسُ، ويرى العبدُ ذنوبَهُ وإنْ صغرتْ جبالًا توشكُ أنْ تقعَ عليهِ، تلكَ هي منزلةُ المحاسبةِ، المحاسبةُ التي تجعلُ المؤمنَ حيَّ القلبِ، لطيفَ الشعورِ، شديدَ المراقبةِ لنفسِهِ، لا تمرُّ عليهِ اللحظةُ إلَّا وهو يفتشُ فيها عنْ موضعِ رضا ربِّهِ.

وفي هذا المقامِ الجليلِ جاءتْ قصةُ السريِّ السقطيِّ رحمهُ اللهُ، وهي قصةٌ تُكتبُ بماءِ العبرةِ، وتُحكى لتهذيبِ النفوسِ، وقدْ رواها الخطيبُ البغداديُّ في تاريخِ بغدادَ (9/188)، والذهبيُّ في سيرِ أعلامِ النبلاءِ (12/186)، وابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ (11/18)، كلهم عنْ أبي بكرٍ الحربيِّ قالَ: سمعتُ السريَّ يقولُ: احترقَ السوقُ فقصدتُهُ، فلقيني رجلٌ فقالَ: أبشرْ، فإنَّ دكانَكَ قدْ سَلِمَ، قالَ السريُّ: فقلتُ الحمدُ للهِ، ثمَّ مضيتُ غيرَ بعيدٍ، فوقعَ في قلبي أني فرحتُ لنفسي، ولمْ أواسيِ الناسَ فيما همْ فيهِ، فأنا أستغفرُ اللهَ منْ ذلكَ الحمدِ منذُ ثلاثينَ سنةً.

اللهُ أكبرُ… أيُّ قلبٍ هذا؟ رجلٌ يستغفرُ اللهَ منْ كلمةِ حمدٍ قالَها، لا لأنَّ الحمدَ معصيةٌ حاشا للهِ، بل لأنَّهُ رأى في تلكَ اللحظةِ أنَّهُ انفردَ بالفرحِ وتركَ مواساةَ الناسِ في المصيبةِ، فكانتْ فرحتُهُ ناقصةً في ميزانِ التقوى، لأنَّها فرحةٌ لمْ تمتزجْ برحمةٍ ولا بشعورٍ بالجماعةِ.

أيُّ ورعٍ هذا يا عبادَ اللهِ؟ أيُّ نقاءٍ في السريرةِ؟ أيُّ حساسيةٍ في القلبِ؟ رجلٌ ينظرُ إلى داخلِ نفسِهِ قبلَ أنْ ينظرَ الناسُ إلى ظاهرِ عملِهِ، فيرى في قلبِهِ ما لو رآهُ غيرُهُ لعدَّهُ هينًا، ولكنَّ المؤمنَ ينظرُ بعينِ الحقِّ، بعينِ التقوى، بعينٍ ترى ما لا يراهُ الغافلونَ.

وهذا المعنى الذي عاشَهُ السريُّ يومَ احترقَ السوقُ هو بذاتِهِ معنى منْ معاني حديثِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: “لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ“. (متفقٌ عليهِ، البخاري 13، ومسلم 45).

وهذا هو الفرقُ بينَ المؤمنِ والغافلِ، الغافلُ ينظرُ إلى نفسِهِ، والمؤمنُ ينظرُ إلى نفسِهِ وإلى الناسِ معها. الغافلُ إذا نجا فرحَ ولو هلكَ الناسُ، والمؤمنُ إذا نجا خافَ لأنَّ الفرحةَ إذا انفردتْ عنْ مواساةِ الناسِ أصبحَ فيها معنى الأنانيةِ الذي يكرهُهُ اللهُ لعبادِهِ.

ولذلكَ كانَ السلفُ يقولونَ: ربَّ حسنةٍ أورثتْ عُجبًا، فهي عندَ اللهِ سيئةٌ، وربَّ كلمةٍ صالحةٍ لمْ تصحبْها نيةٌ خالصةٌ، فكانتْ على صاحبِها وبالًا. فإذا كانَ هذا في الحسناتِ والكلماتِ، فكيفَ إذا كانَ في المشاعرِ والنياتِ؟

ولذلكَ كانتْ محاسبةُ النفسِ أصلًا منْ أصولِ الإيمانِ، قالَ تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوٰاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10]. قالَ الطبريُّ في تفسيرِهِ (20/77): “قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَابَتْ نَفْسٌ أَضَلَّهَا وَأَغْوَاهَا. وَقِيلَ: أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وخاب من دس نفسه في المعاصي، قال قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَأَصْلُ الزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ زَكَا الزَّرْعُ: إِذَا كَثُرَ رِيعُهُ”.

وهذا ما أشارَ إليهِ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ في الحديثِ الذي رواهُ مسلمٌ (2564): “إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم”. فالقلبُ هو موضعُ نظرِ الربِّ، ومنْ عرفَ هذا استقامَ قلبَهُ قبلَ أنْ يُصلحَ ظاهرَهُ، وراقبَ نيتَهُ قبلَ أنْ يزنَ عملَهُ.

يا عبادَ اللهِ، إنَّ القلبَ الذي لا يلينُ لمصابِ الناسِ قلبٌ قاسٍ، والقلبُ القاسي هو أبعدُ القلوبِ عنْ اللهِ تعالى، وقدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: “لا تُنْزَعُ الرَّحمةُ إلَّا منْ شقيٍّ”. (أبو داود 4942، والترمذي 1923، وأحمد 8001 صحيح).

رِقَّةُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَمَقَامُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ: يا عبادَ اللهِ، إنَّ أعظمَ ما يميزُ قلوبَ المؤمنينَ هو تلكَ الحياةُ الداخليّةُ التي تحدثُ بينهمْ وبينَ اللهِ في الخلاءِ قبلَ الملإِ، تلكَ الومضةُ التي يجعلُ اللهُ فيها القلبَ حيًّا، فيستيقظُ على معنى لمْ ينتبهْ لهُ غيرُهُ، ويعلمُ أنَّ اللهَ تعالى قالَ: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]. قالَ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ (7/137): “لِيَحْذَرْ الناسُ عِلْمَهُ فيهمْ، فيَسْتَحْيُوا منَ اللهِ حقَّ الحياءِ، ويَتَّقُوهُ حقَّ تُقَاتِهِ، ويُراقِبُوهُ مُراقَبَةَ مَنْ يَعْلَمُ أنَّهُ يَراهُ، فإنَّهُ تعالى يَعْلَمُ العَيْنَ الخائنةَ وإنْ أَبْدَتْ أمانةً، ويَعْلَمُ ما تَنْطَوِي عليهِ خبايا الصدورِ منَ الضمائرِ والسرائرِ.

قالَ الحسنُ البصريُّ رحمهُ اللهُ: إِنَّ المُؤْمِنَ قَوَّامٌ على نَفْسِهِ يَحاسِبُ نَفْسَهُ للهِ، وَإِنَّما خَفَّ الحِسابُ يَوْمَ القِيامَةِ على قَوْمٍ حاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ في الدُّنْيا، وَإِنَّما شَقَّ الحِسابُ يَوْمَ القِيامَةِ على قَوْمٍ أَخَذُوا هذا الأَمْرَ على غَيْرِ مُحاسَبَةٍ. المصنف لابن أبي شيبة ج8، ص257.

وقدْ قالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ: إنَّ المؤمنَ يرَى ذنوبَه كأنه في أصلِ جبلٍ يخافُ أنْ يقعَ عليه وإنَّ الفاجرَ يرَى ذنوبَه كذبابٍ وقع على أنفِه قال به هكذا، فطار (البخاري 6308).

يا عبادَ اللهِ، لقدْ كانَ السلفُ يرونَ أنَّ رحمةَ الناسِ جزءٌ منْ رحمةِ اللهِ لعبادِهِ. أخرج أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (6494) في الحديث الصحيح: عنْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنَّهُ قالَ: “الراحمونَ يرحمُهُمُ الرحمنُ، ارحموا منْ في الأرضِ يرحمْكمْ منْ في السماءِ”. فكيفَ برحمةِ الناسِ عندَ الشدائدِ والمصائبِ؟ وكيفَ برحمةِ أهلِ السوقِ يومَ احترقتْ أموالُهمْ وضاعتْ أرزاقُهمْ؟

يا عبادَ اللهِ، إنَّ اللهَ تعالى حين وصفَ المؤمنين وصفهم بصفةٍ جامعةٍ مانعةٍ فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وهذه الآية كما قال السعدي (ص800): “هذا عقدٌ، عقدَهُ اللهُ بينَ المؤمنينَ، أنَّهُ إذا وجدَ منْ أيِّ شخصٍ كانَ، في مَشرقِ الأرضِ ومَغربِها، الإيمانَ باللهِ، وملائكتِهِ، وكُتبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخرِ، فإنَّهُ أخٌ للمؤمنينَ، أُخوَّةً توجبُ أنْ يحبَّ لهُ المؤمنونَ ما يحبُّونَ لأنفسِهمْ، ويكرهونَ لهُ ما يكرهونَ لأنفسِهمْ”.

وقد أثبت هذا المعنى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ الذي رواه البخاري (6011) ومسلمٌ (2586): «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى». وهذا التشبيه من أبلغِ تشبيهاتِ السنة، لأنه يبيِّن أنَّ مشاعرَ المؤمنين ليست منفصلةً، بل متصلةٌ كاتصالِ أعضاءِ الجسد، فإذا مرض عضوٌ واحدٌ لم تستقرَّ بقيةُ الأعضاءِ حتى يشفى.

وهكذا كان السلف، يرون أنَّ الأمةَ جسدٌ واحدٌ، وأنَّ الرحمةَ ركنٌ من أركانِ الإيمان. روى البخاريُّ (13) ومسلمٌ (45) عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ». قالَ ابنُ بطّالٍ: “لأنَّ الإنسانَ يحبُّ أنْ يكونَ أفضلَ الناسِ، فإذا أحبَّ لأخيهِ مثلَهُ، فقدْ دخلَ هو في جملةِ المفضولينَ، ألا ترى أنَّ الإنسانَ يجبُ أنْ ينتصفَ منْ حقِّهِ ومظلمتِهِ، فإذا كملَ إيمانُهُ وكانتْ لأخيهِ عندَهُ مظلمةٌ أو حقٌّ، بادرَ إلى إنصافِهِ منْ نفسِهِ، وآثرَ الحقَّ، وإنْ كانَ عليهِ فيهِ بعضُ المشقةِ”. (شرحُ صحيحِ البخاريِّ لابنِ بطّالٍ، ج1، ص45).

يا عبادَ اللهِ، لقد فهم الصحابةُ هذا المعنى فهمًا عميقًا، وتحول عندهم من شعارٍ إلى واقع. ففي الصحيحين: “أنَّ رَجُلًا أتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: ما معنَا إلَّا المَاءُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن يَضُمُّ -أوْ يُضِيفُ- هذا؟ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا، فَانْطَلَقَ به إلى امْرَأَتِهِ، فَقالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: ما عِنْدَنَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَوِّمِي صِبْيَانَكِ إذَا أرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أنَّهُما يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ -أوْ عَجِبَ- مِن فَعَالِكُما. فأنْزَلَ اللَّهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر 9. (البخاري 3798 واللفظ له، ومسلم 2054).

اللهُ أكبر… رفقةٌ ورحمةٌ، ومواساةٌ وبذلٌ، حتى آثروا الضيفَ على أنفسهم. لقد قاموا بشرحِ معنى الآيةِ التي قال فيها اللهُ تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلٰى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]. قالَ القُرطبيُّ (ج18، ص26): “الإيثارُ: هو تقديمُ الغيرِ على النفسِ وحظوظِها الدنيويّةِ، ورغبةٌ في الحظوظِ الدينيّةِ. وذلكَ ينشأُ عن قوّةِ اليقينِ، وتأكيدِ المحبّةِ، والصبرِ على المشقّةِ”. (تفسير القرطبي ج18، ص26). وأضاف (ج18، ص26): ” أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لَمَّا تَنَاهَتْ فِي حُبِّهَا لِيُوسُفَ عليه السلام، آثَرَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ”.

يا عبادَ اللهِ، إنَّ من أعظمِ ما يُظهرُ وحدةَ الأمة أن يعيشَ كلُّ واحدٍ منا بضميرِ الجماعة، لا بضميرِ الفردِ المنعزل، ينظرُ ماذا تحتاجُ الأمة، لا ماذا يكسبُ هو فقط، ويتألمُ لما يصيبُ غيرَه، لا لما يسلمُ منه وحده.

أيها الأحبة، إنَّ المؤمنَ الحقَّ هو الذي يخرجُ من حدودِ نفسِه إلى حدودِ الأمة، يسمعُ أنينَها، ويرى حاجتَها، ويعيشُ همَّها، لأنه جزءٌ من جسدٍ واحد.

ولذلك كان العلماءُ يقولون: إذا صلحتِ القلوبُ صلحتِ الأمة. وإذا صلحتْ علاقةُ الناسِ ببعضِهم صلحتْ أخلاقُهم، وصلحتْ أسواقُهم، وصلحتْ مصالحُهم، وصلحتْ إدارةُ مالِهم العام، لأنَّ من يعطي الناسَ من قلبِه لا يأخذُ منهم ظلمًا بيده.

وهذا يا عبادَ اللهِ هو البابُ الذي ننتقلُ منه إلى معنى عظيمٍ من معاني دينِ اللهِ، ألا وهو: أنَّ قلبَ المؤمنِ إذا رقَّ لا يمكنُ أن يظلمَ الناسَ في أموالِهم، ولا أن يعتديَ على حقٍّ من حقوقِ الجماعة، لأنَّ قلبًا يرحمُ الفردَ لا يمكنُ أن يخونَ الأمة.

الخطبةُ الثانيةُ

الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، نحمدُهُ على نعمِهِ الظاهرةِ والباطنةِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ. أما بعدُ فيا عبادَ اللهِ، اتقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، واعلموا أنَّ الإيمانَ ليسَ صلاةً فقط، ولا ذكرًا فقط، بلْ أمانةٌ تُحمَلُ، وحقوقٌ تُصانُ، ومصالحُ تُحفَظُ، ومنْ أعظمِ هذهِ الحقوقِ: حقُّ الجماعةِ، ومالُ الأمةِ، وما استرعانا اللهُ عليهِ منْ مصالحٍ عامةٍ تُبنى بها البلادُ وتقامُ بها المجتمعاتُ.

يا عبادَ اللهِ، إذا كانَ السريُّ السقطيُّ قدْ استغفرَ ثلاثينَ سنةً منْ كلمةٍ قالها فرحًا بسلامةِ دكانِهِ، لأنهُ رأى فيها غفلةً عنْ مواساةِ الناسِ، فكيفَ يكونُ حالُ منْ يعتدي على مالِ الجماعةِ؟ أو يستبيحُ حقًّا ليسَ لهُ؟ أو يستهينُ بأمانةٍ وضعتها الأمةُ بينَ يديهِ؟

وهكذا نفتحُ اليومَ بابًا منْ أبوابِ الشريعةِ العظيمةِ: بابَ حفظِ المالِ العامِّ، وهو بابٌ لا يقومُ إلا على رقّةِ قلوبٍ، وإيمانِ جماعةٍ، وتعظيمِ الأمانةِ كما أمرَ اللهُ تعالى.

يا عبادَ اللهِ، إنَّ المالَ العامَّ ليسَ كغيرهِ منَ الأموالِ، لأنَّهُ مالُ الأمةِ كلِّها، مالُ الضعيفِ قبلَ القويِّ، وحقُّ الأرملةِ واليتيمِ، وثمرةُ عملِ الشعبِ، وسرُّ قوةِ الدولةِ. وقدْ سماهُ العلماءُ مالَ اللهِ، لأنَّهُ يعودُ نفعُهُ على عبادِ اللهِ جميعًا.

قالَ تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188]. ودخلَ في الآيةِ مالُ الفردِ ومالُ الجماعةِ، لأنَّ الاعتداءَ على المالِ العامِّ ظلمٌ لجميعِ الناسِ. وقالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلٰى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]. قالَ الطبريُّ (8/251): كلُّ ما استُودِعَ العبدُ حفظَهُ فهو أمانةٌ، ومالُ الأمةِ أمانةٌ في يدِ منْ وليَهُ.

حديثُ الغلولِ - أعظمُ بيانٍ في حُرمةِ المالِ العامِّ: عنْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنَّهُ قالَ: “إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ“. البخاري (3118).

قالَ ابنُ حجرٍ في فتح الباري (6/252): (يتخَوَّضونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ)، أيْ يتصرَّفونَ في مالِ المسلمينَ بالباطلِ.

فمنْ أخذَ مالًا ليسَ لهُ، منْ وظيفةٍ، أو عهدةٍ، أو إدارةٍ، أو منصبٍ، فقدْ حملَ على ظهرهِ وزرًا ثقيلًا يراهُ الناسُ يومَ القيامةِ. قال تعالي: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾. آل عمران 161. قال القرطبي (4/256): “أَيْ يَأْتِي بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَرَقَبَتِهِ، مُعَذَّبًا بِحَمْلِهِ وَثِقَلِهِ، وَمَرْعُوبًا بِصَوْتِهِ، وَمُوَبَّخًا بِإِظْهَارِ خِيَانَتِهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ”.

“اسْتَعْمَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ رَجُلًا مِنَ الأسْدِ، يُقَالُ له: ابنُ اللُّتْبِيَّةِ، قالَ عَمْرٌو: وَابنُ أَبِي عُمَرَ، علَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قالَ: هذا لَكُمْ، وَهذا لِي، أُهْدِيَ لِي، قالَ: فَقَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ علَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عليه، وَقالَ: ما بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فيَقولُ: هذا لَكُمْ، وَهذا أُهْدِيَ لِي، أَفلا قَعَدَ في بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ في بَيْتِ أُمِّهِ، حتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَنَالُ أَحَدٌ مِنكُم منها شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إبْطَيْهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ، هلْ بَلَّغْتُ؟ مَرَّتَيْنِ“. البخاري (3798).

قصةُ عمرَ بنِ الخطابِ والسراج: روى ابنُ سعدٍ في الطبقاتِ (3/283) انَّ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ كانَ إذا اشتغلَ في مصالحِ المسلمينَ أشعلَ سراجًا منْ بيتِ المالِ، فإذا جاءَهُ ضيفٌ أو أرادَ شأنًا خاصًّا أطفأَهُ وقالَ: “هذا منْ مالِ المسلمينَ، وهذا منْ مالي”. أيُّ ورعٍ هذا؟ أيُّ أمانةٍ؟ ورقةُ زيتٍ يخشى أنْ يحاسبَهُ اللهُ عليها.

قصةُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ - رسالةُ ابنهِ: روى ابن عبد الحكم الفقيه في سيرة عمر بن عبد العزيز ص200 وابنُ الجوزيِّ في المنتظمِ: “طلب ابْن لعمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى أَبِيه أَن يُزَوجهُ وَأَن يصدق عَنهُ من بَيت المَال وَكَانَ لِابْنِهِ ذَلِك امْرَأَة فَغَضب لذَلِك عمر بن عبد الْعَزِيز وَكتب إِلَيْهِ لعمر الله لقد أَتَانِي كتابك تَسْأَلنِي أَن أجمع لَك بَين الضرائر من بَيت مَال الْمُسلمين وَأَبْنَاء الْمُهَاجِرين لَا يجد أحدهم امْرَأَة يستعف بهَا فَلَا أَعرفن مَا كتبت بِمثل هَذَا ثمَّ كتب إِلَيْهِ أَن انْظُر إِلَى مَا قبلك من نحاسنا ومتاعنا فبعه واستعن بِثمنِهِ”. وكانَ يعيشُ بأقلَّ مما يعيشُ بهِ أفقرُ الناسِ.

يا عبادَ اللهِ… هؤلاءِ رجالٌ أقاموا الدنيا بالأمانةِ، وصانوا الأمةَ بالصدقِ، وحفظوا المالَ العامَّ بالورعِ والخوفِ منَ اللهِ.

صورٌ معاصرةٌ لحفظِ الأمانةِ: الموظفُ الذي يعملُ بضميرٍ، فيعتبرُ الوقتَ مالًا عامًا، المديرُ الذي لا يعطي توقيعًا إلا بحقٍّ، العاملُ الذي لا يستهلكُ أدواتَ المؤسسةِ فيما لا يفيدُ الأمةَ، المسؤولُ الذي لا يجعلُ المنصبَ طريقًا للثراءِ.

يا عبادَ اللهِ… رجلٌ استغفرَ ثلاثينَ سنةً منْ كلمةٍ… لأنهُ لمْ يواسي الناسَ. فكيفَ بمنْ لمْ يرحمْ الناسَ؟ فكيفَ بمنْ ضيّعَ حقوقَهمْ؟ فكيفَ بمنْ مدَّ يدَهُ إلى مالِ الأمةِ؟

إنَّ الذي رقَّ قلبُهُ في قصةِ السريِّ هو الذي يحفظُ مالَ الناسِ، ويعظّمُ المالَ العامَّ، ويعلمُ أنَّ يدَهُ ليستْ ملكًا لهُ، بلْ هي أمانةٌ عندَ اللهِ.

الخاتمةُ: يا عبادَ اللهِ، لقدْ رأينا في قصةِ السريِّ السقطيِّ قلبًا رقَّ منْ كلمةٍ قالها، واستغفرَ منها ثلاثينَ سنةً، لأنها لمْ تُخالِطْ مواساةَ الناسِ، ولا شعورًا بجراحِ الأمةِ. فكيفَ يكونُ حالُ منْ يمدُّ يدَهُ إلى مالِ الأمةِ؟ أو يستهينُ بحقوقِ الناسِ؟ أو يفرحُ بنعمةٍ على حسابِ مصائبِ غيرِهِ؟

إنَّ اللهَ تعالى يقولُ: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: 42]، وقالَ سبحانهُ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: 24]. وكلُّ منْ كانَ في يدِهِ حقٌّ للناسِ فهو مسؤولٌ عنهُ، صغيرًا كانَ أو كبيرًا، ظاهرًا أو خفيًّا، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: كلكمْ راعٍ وكلكمْ مسؤولٌ عنْ رعيتِهِ (متفقٌ عليهِ البخاري 2554، مسلم 1829).

يا عبادَ اللهِ، إنَّ الأمانةَ ليستْ كلمةً تُقالُ، بلْ دمعةٌ تُخفيها القلوبُ منْ خوفِ التقصيرِ، وانكسارٌ بينَ يدي اللهِ خشيةً منْ يومٍ لا ينفعُ فيهِ مالٌ ولا بنونَ، وحذرٌ منْ سؤالِ ربٍّ عدلٍ لا تخفى عليهِ خافيةٌ، قالَ تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].

اللهمَّ احفظْ بلادَنا مصر وأموالَنا وأعراضَنا، وباركْ في أرزاقِ الناسِ، وادفعْ عنا الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ.

اقرأ أيضاًالأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة المقبلة.. «التطرف ليس في التدين فقط»

نص موضوع خطبة الجمعة 5 ديسمبر 2025.. «العقول المحمدية»

«توقير كبار السن وإكرامهم».. نص خطبة الجمعة المقبلة 28 نوفمبر 2025

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: وزارة الأوقاف خطبة الجمعة القادمة موضوع خطبة الجمعة القادمة موضوع خطبة الجمعة المقبلة الخطبة الثانية مبادرة صحح مفاهيمك موضوع خطبة الجمعة بن عبد ال علیه وسل صلى الله إذا کان الذی لا ى الله

إقرأ أيضاً:

النقلات النوعية السبع في مشروع النهوض الحضاري

ثمة سبع نقلات نوعية تحتاجها الأمة المسلمة لتحقيق النهوض الحضاري المنشود؛ واستئناف دورها الريادي العالمي الإنساني، والقيام بالشهادة على الناس. ونحن هنا نستعرض أبرز النقاط والمؤشرات في تلك النقلات، مراعين الحجم الذي يسمح به هذ المقال.

أولا: الانتقال من "الصنمية" إلى الربانية:

شهادة "لا إله إلا الله" هي أكبر شهادة للتحرر الإنساني، وهي الشهادة التي تخرجه من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. إنها المدخل الأساس لصناعة الإنسان، الذي يدعو إلى الله على بصيرة، ولديه بوصلة واضحة في الطريق إلى الله والدار الآخرة. ويدخل تحت هذا العنوان تبني الإسلام عقيدة وفكرا ومنهجا وسلوكا؛ والتحرر من "عبادة" أصنام الهوى والشهوة والمال وتقديس الزعماء، أو أي "أصنام" مادية أو معنوية أخرى.

عندما يؤمن الإنسان أن الحياة والموت بيد الله وأن الرزق بيد الله، وأن النفع والضر بيد الله، وأنه لن يحدث أمر في السماوات والأرض إلا بقضاء الله. عند ذلك لا يخشى على نفسه زعيما ولا ملكا ولا مديرا ولا خصما ولا عدوا، وعند ذلك يمتلك عناصر القوة والكرامة والشجاعة والصبر والتضحية والتوكل والاحتساب؛ ويمتلك عناصر التفكير والمبادرة والإبداع الإيجابي، بعيدا عن روح الهزيمة والخوف والكسل والجبن.

إن هذه النقلة هي القاعدة الأساس لأي نهوض حضاري ولأي بنية حضارية متوازنة، لأنها تضع قواعد الانسجام بين الروح والمادة، وقواعد العلاقة بين الإنسان وخالقه، وبين الإنسان والكون، وتحدد أولوياته ومهامه الكبرى في الحياة الدنيا.

ثانيا: الانتقال من الاستضعاف إلى الاستخلاف:

إنها النقلة المعنية بامتلاك عناصر القوة والارتقاء بالمواصفات والشروط والمعايير الذاتية والموضوعية، لاستحقاق القيام بمهمة الاستخلاف في الأرض. لقد عانت الأمة قرونا من التدهور السياسي والاجتماعي والعسكري والاقتصادي والعلمي.. ودفعت أثمان الملك العضوض والملك الجبري، وأثمان الانقسام والتشرذم السياسي، وعانت من الجمود الفقهي وتراجع فقه الأولويات وفقه النوازل وفقه الواقع، كما عانت من مظاهر الترف والترهل والعزوف عن الجهاد؛ وفقدت دورها الريادي وقدرتها على الإبداع الحضاري. وخضعت معظم بلدانها، خصوصا في القرنين الماضيين للاستعمار الغربي، وعانت من الاستلاب الحضاري.

وقد آن لهذه الأمة أن تمتلك عناصر القوة المرتبطة بالتمكين لدين الله، وتحقيق الاستخلاف. وهي عناصر لا تحقق إلا بنوعية "القوي الأمين"، وبعباد الله أولي البأس الشديد، وبالقيادة المؤمنة، والبنى المؤسسية الشورية. كما لا تتحقق إلا بالخروج من عقدة الانبهار بالغرب، وبالثقة بالنفس، وبالقدرة على تقديم أرقى نموذج حضاري إنساني، مع الإشارة إلى أن الاستخلاف لا يقتصر على الجانب السياسي، وإنما يمتد للجوانب الحضارية المختلفة الإيمانية التربوية والفكرية والثقافية والاجتماعية والعلمية.. وغيرها.

ثالثا: الانتقال من الغثائية إلى النوعية الرسالية:

وهي الحالة التي تتطلب نقلة نوعية في التكوين النفسي للإنسان المسلم، وخصوصا في مجال الاهتمامات والأولويات واستغلال الأوقات والطاقات والقدرات.

وكما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أصبحنا أمة تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، ونحن كثيرون جدا (نحو مليارين و55 مليونا في سنة 2025)، ولكننا "غثاء كغثاء السيل" بعد أن سيطر الوهن على قلوبنا بسبب حب الدنيا وكراهية الموت.

هذه الأمة المنكوبة بحكوماتها الفاسدة المستبدة الخاضعة للنفوذ الخارجي، تعاني من انتشار "التفاهة" بكافة أشكالها، ومن انحدار المعايير السلوكية، وسيادة النزعة المادية الاستهلاكية، وثقافة الترفيه الفارغ، وطغيان المظهر على الجوهر؛ ومن انتشار ثقافة اللذة، ومن تجريد الإنسان من معنى وجوده ورسالته في الحياة، وتفريغه من المرجعية الأخلاقية؛ ومن تحويل حياته إلى حياة مستهلكة غير منتجة. وبالتالي جعله قابلا للهيمنة، قابلا للاستعمار، قابلا لسيطرة الخصوم والأعداء، يسهل توجيهه من الأنظمة أو السوق أو الإعلام.. ليصبح مجرد رقم.. مجرد أداة.. مجرد سلعة.. غثاء.

وعلى ذلك، فالنقلة النوعية هنا تقتضي نقلة من الحالة السطحية الغثائية إلى الحالة الرسالية التي يحقق فيها الإنسان مقاصد وجوده من عبودية لله، وإقامة للعدل ونشر للحق وإعمار للأرض. وهي حالة تنقله من الإنسان الفارغ المستهلك إلى صاحب الرسالة الذي يتجاوز ذاته، وهي تلك الحالة التي يسير فيها على خطى إبراهيم عليه السلام فيكون رجلا بأمة "إن إبراهيم كان أمة"، وحالة تقترب به إلى ذلك الرجل الذي يأخذ أجر خمسين شهيدا من الصحابة رضي الله عنهم كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي حالة رأينا بشائرها في غزة.

رابعا: الانتقال من النخبوية إلى الجماهيرية:

لا بدّ لقوى النهوض الحضاري ألا تقتصر على النخب المثقفة، ولا على صالونات النقاش الفكري والترف المعرفي، وإنما عليها أن تعيش حياة الناس وهمومهم وتعبر عن نبضهم ومعاناتهم؛ وأن تُبسّط خطابها الفكري والأيديولوجي ليتحول إلى أفكار ورؤى وشعارات يسهل تداولها وتبنيها، وإلى حالة إلهام يمكن تحشيد الجماهير حولها، وتُعزّز استعدادها للتضحية من أجلها.

وعلى "النخبة" أن تقدم نماذجها الحية وسط الناس، إذ إن تعافي الأمة من أمراضها وجراحها لا يكون إلا باختلاط وتفاعل حقيقي، ومن خلال منارات توضح الطريق وروادٍ يوجهون البوصلة ويقودون الناس، وهي الحالة التي توفر القاعدة الشعبية اللازمة والضرورية للعبور نحو مسارات التغيير.

إنها دعوة للعلماء والدعاة والمفكرين للنزول إلى الميدان، وإلى وراثة الأنبياء، وإلى أن يتَعبُّدوا الله سبحانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الخير، ورفع الظلم، ومواجهة الفساد، واستخراج أفضل ما في الناس من قدرات وإمكانات، والصبر على أذاهم. وهي دعوة تكسر حصار الأنظمة الفاسدة، وإلغاء محاولاتها لتشويه الإسلام ودعاته.

خامسا: الانتقال من المجتمع إلى الدولة:

خلال العقود الماضية نجحت الحركات والاتجاهات الإسلامية في أن يصبح التيار الإسلامي هو الأكثر قوة وشعبية، وأن تنتشر حالة التديّن بدرجات متفاوتة في الأوساط الشعبية، وأن تتطلع الغالبية إلى تحقيق النموذج الإسلامي في حياتنا المعاصرة. وتمكَّن التيار الإسلامي في العديد من البلدان من تصدّر الانتخابات الطلابية والنقابية والبرلمانية، خصوصا في بيئات التنافس الحر النزيه. غير أن قدرة هذه التيارات على تقديم رؤية ناضجة لمشروع الدولة المسلمة المعاصرة، وإنفاذها العملي على الأرض ظلت ضعيفة منقوصة؛ وعندما أتيحت لبعضها فرص الحكم أظهرت ارتباكا أو وقعت في ثغراتٍ سهَّلت على الخصوم والأعداء الانقضاض عليها وإفشالها.

فبعض هذه التيارات لم تكن لديه قراءة واقعية للقوى الفاعلة وللدولة العميقة ولتأثير القوى الإقليمية والدولية؛ وبعضها لم يستطع أن يبرز مزايا المشروع الإسلامي، فقدم برامج تحسينية ترقيعية و"فقاعات" في ماكينة وبيئة علمانية؛ وبعضها دخل في تحالفات وحالات استرضاء للآخرين أفقدته هويته وجوهر مشروعه، كما أفقدته بوصلته، وأفقدته طعمه ولونه وتميّزه، فلم يَعد المواطن يُفرّق بين هذا التيار وغيره. وبعضها بعد أن نجح في الثورة، فشل في استكمال عناصرها، فلا سيطر على مفاصل القرار والتوجيه السياسي والأمني والإعلامي، ولا قام بتشكيل قوة وبيئة لحماية الثورة، ولا أقام عدالة انتقالية تجتث النظام السابق، ولا تفاعل نع نبض الجماهير وزخم الثورة بالشكل الأفضل لتظل درعه ورافعته، ولا كانت لديه قرارات حازمة ولا برامج قوية تُحدث فرقا نوعيا يستشعره الناس منذ البداية.

ولذلك، ما زال أمام التيارات الإسلامية شوط طويل في استكمال متطلبات القيادة والريادة للدولة الإسلامية المعاصرة.

سادسا: الانتقال من القُطرية إلى الأمة:

الأمة هي أساس الانتماء كما في قوله تعالى "إن هذه أمتكم أمة واحدة"، وقوله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، وكما جاء في وثيقة/ دستور المدينة "المؤمنون أمة واحدة من دون الناس"؛ والمؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.

لقد خلَّف الاستعمار، مدعوما بعناصر الضعف والتخلّف والانقسام في الأمة، منظومات قُطرية تتوزع على عشرات الدول، التي أقامت جدرانا من الحدود الجغرافية والمعنوية بين أبناء الأمة، وبالغت أكثر من الأنظمة الغربية في مسائل الإقامة والعمل والتملك والجنسية. وأصبح لكل دولة مُحدداتها وأسقفها وأولوياتها الخاصة، التي صارت معايير حاكمة ومهيمنة مُقدّمة على المعايير والاعتبارات التي وضعها الإسلام للأمة. وانعكس ذلك حالة من الأنانية وانكفاء على الذات، وانعداما في تحمّل المسؤولية تجاه قضايا الأمة الكبرى مثل قضية فلسطين. وتحت شعارات الأولوية القطرية الوطنية جرى التطبيع مع العدو باعتبار ذلك خدمة للاستقرار والتنمية؛ كما جرى تجريم العمل المقاوم، والتنازل عن أرضٍ مقدسة مباركة.

وفي البيئات القُطرية فقدت أمتنا مئات الآلاف من الأدمغة التي وجدت سبيل إبداعها في الغرب، بينما عانت أقطار المسلمين من منظومات فاسدة ومستبدة، كان من السهل على القوى الكبرى إخضاعها وابتزازها و"حَلبُ" ثرواتها، وإبقاؤها في دوائر الضعف والتخلف والتشرذم، وفرض سياسات تتعارض مع المصالح العليا للأمة ونهضتها.

إن العودة إلى الأمة ضرورة لا يجب أن تنتظر الوحدة الاندماجية لبلدان المسلمين، وإن كان ذلك طموحا مشروعا على المدى البعيد؛ ولكنها يجب أن تبدأ على الأقل على مستوى السلوك والمشاعر، وتتسع إلى كافة أشكال الإخوة الإسلامية العابرة للأقطار، وتتقوَّى بمظاهر التعاون والتضامن والتناصر في مواجهة التحديات. ويمكن أن ترتقي تدريجيا لإعطاء أبناء الأمة أولوية في سهولة التنقل والإقامة والعمل والتملُّك والجنسية، وإعطاء دول المسلمين أولوية في الاقتصاد والتجارة، واستقواء بلدان المسلمين ببعضها سياسيا واقتصاديا وعسكريا في مواجهة القوى الكبرى الاستعمارية؛ وتيسير البيئات والأرضيات اللازمة لمشاريع الوحدة.

وبالتأكيد، فالتحديات كبيرة، لكن الانتقال نحو الأمة واجب شرعي وضرورة استراتيجية.

سابعا: الانتقال من فقه غير ذات الشوكة إلى فقه ذات الشوكة:

في الدورات الحضارية، فإن الظروف القاسية الصعبة تُنشئ رجالا أشداء أقوياء، ثم إن الرجال الأقوياء يُنشئون دولا قوية مزدهرة، فإذا ما انشغلت الدولة بالاستمتاع بازدهارها وترفها وبطرت معيشتها؛ نشأت أجيال من الغثاء الضعفاء، فكان ذلك إيذانا بالتدهور والسقوط والوقوع تحت وطأة القوى المنافسة والمتربصة.

وفي بيئاتنا المعاصرة، وبالرغم من قسوة الظروف وشدتها، فإن أنظمة الفساد والاستبداد وأصحاب العجز والهوى يدفعون باتجاه مزيد من الترف والتفاهة، ليكون ذلك إيذانا بمزيد من السقوط والاندثار.

إن بيئات "الإخشوشان" التي نشأت في السنوات الماضية في عدد من بلداننا أعطت فرصا (بالرغم من قسوتها) لوجود أجواء استنهاض حضاري لمن عاشوا تلك البيئات، بحيث يجب الاستفادة منها بالشكل الأمثل. وإن نموذج غزة المحاصرة المستهدفة على مدى 17 عاما بالتدمير والقتل والتجويع، عندما تعاملت معه المقاومة بروح التحدي الإيجابي فصنعت إنسانها وصنعت حاضنتها الشعبية، نجح في تقديم نموذج عالمي في الصبر والتضحية، وإثبات إمكانية هزيمة العدو، والقدرة على إلهام الأمة والإنسانية جمعاء، وقلب الموازين.

من ناحية ثانية، فإن أي مشروع حضاري يحتاج تلك النماذج القوية الأمينة الجادة العزيزة، المستعدة للتضحية دفاعا عن مقدساتها وأوطانها وكرامتها وحريتها واستقلالها، حتى تكون مؤهلة للتخلص من الاستعمار المباشر وغير المباشر، ولصناعة قرارها بعيدا عن الهيمنة الخارجية.

إن فقه ذات الشوكة لا يعني بالضرورة، المسارعة في خوض الحروب والمواجهات، ولكن التربية الإيمانية الجهادية، والروح الرجولية، والتعوّد على ثقافة الإخشوشان يجب أن يكون جزءا طبيعيا في تكوين الإنسان المسلم، خصوصا في مثل هذه الظروف والأوضاع. ويتحدد بعد ذلك القدر المناسب للمشاركة في مواجهة الأعداء، كلٌّ بحسب ظروفه وبيئته السياسية وإمكاناته وأولويات المرحلة.

* * *

وأخيرا، فإن المشروع النهضوي يقتضي أن نأخذ الكتاب بقوة، وأنه جدٌّ وليس هزلا، وأنه طريق معبّد بالتضحيات والمعاناة، وليس بالأمنيات والرغبات، ولا بكثرة الجدل وقلة العمل. إنه ليس ترفا في تقرير الخيارات، بل ضرورة لا بدّ منها، حتى تستعيد الأمة عزتها ومجدها، ودورها في الريادة الحضارية الإنسانية.

x.com/mohsenmsaleh1

مقالات مشابهة

  • النقلات النوعية السبع في مشروع النهوض الحضاري
  • صفة عباد الرحمن .. تعرّف عليها واحرص أن تكون منهم
  • عمرو أديب: السنوات القادمة ستشهد الكثير من الأحداث والتغيرات المهمة سياسيا بمصر
  • خطيب الأوقاف: التطرف الرياضي مذموم شرعا ويجعل صاحبه يستحل الحرام
  • الأوقاف تفتتح 17 مسجدًا اليوم الجمعة ضمن خطتها لإعمار بيوت الله
  • التعصب ليس مرتبطا بالدين وحده.. موضوع خطبة الجمعة اليوم
  • تراجع فاعلية المنخفض الجمعة… ما هي توقعات الأيام القادمة ؟
  • موعد أذان الظهر.. موضوع خطبة الجمعة اليوم 12 ديسمبر 2025
  • من هدي القرآن الكريم:من يدعون إلى السكوت عن مواجهة الأعداء عليهم أن يستحوا ويحذروا