الكتب الخارجية.. والأسعار الفلكية
تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT
عند الحديث عن نقطة البداية لتقدم أى دولة وتطورها، فإن نظامها التعليمى يأتى على رأس الأولويات والاهتمامات، مما يستدعى منَّا جميعًا وقفة جادة ومسؤولة وإرادة حقيقية لإعادة ترتيب المنظومة التعليمية بالكامل.
مؤخرًا وخلال الأسابيع الماضية، طفحت على السطح مشكلة كبيرة، متمثلة بالكتب الخارجية لطلبة المدارس فى مختلف المراحل، حيث بدأت مبكرًا، منذ بداية أغسطس الماضي، فى فترة الاستعدادات للعام الدراسى الجديد 2023/2024.
منذ ذلك الحين، بدأت رحلة العذاب مع حجز وبدء الدروس الخصوصية لجميع المراحل، ومعها معاناة الأسر وأولياء الأمور والطلبة مع «التنقيب» و»البحث» عن الكتب الخارجية، التى أصبحت «شحيحة» و»نادرة» فى الأسواق.
أزمة الكتاب الخارجي، أضيفت لأزمات التعليم المتكررة كل عام، حيث تدنى نسبة حضور الطلبة، وعجز المعلمين والعمال على حدٍّ سواء، وكثافة الفصول، والمناهج، والدروس الخصوصية.. وغيرها من القضايا الشائكة، التى تزداد تفاقمًا عامًا بعد آخر.
تلك الأزمة المستجدة للعام الثانى على التوالي، أصبحت قضية فى منتهى الخطورة، إذا ما لاحظنا ارتفاع أسعار الكتب الخارجية فى الأسواق، مقارنة بالأعوام الماضية، وباتت مشكلة كبيرة تؤرق ملايين الأسر المصرية، لتلقى بظلاها وأعبائها على كاهلهم، ولم يعد هناك احتمال لأية أعباء أخرى، حيث الغلاء الذى طال كل شيء.
وتبقى القضية ارتفاع أسعار الكتب الخارجية، متعلقة بزيادات بلغت أكثر من 40% عن العام الماضي، لكافة المراحل التعليمية، نظرًا للتضخم وارتفاع أسعار الطباعة والورق والحبر وشحّ الدولار للاستيراد.
للأسف الشديد، وصلت أسعار الكتب الخارجية إلى أرقام فلكية، خصوصًا إذا علمنا أن سعر الكتاب الواحد أو الملزمة الواحدة وصل إلى مئات الجنيهات للمرحلة الابتدائية، ناهيك عن المرحلتين الإعدادية والثانوية!
الأمر فاق كل تصور، وأصبح يحتاج إلى تدخل عاجل من كافة الجهات الرسمية، لوقف هذا العبث، الذى يدمر أجيالًا بأكملها، وإن كان لنا رأى وتحفظ على مبدأ الكتب الخارجية، تمامًا كما الدروس الخصوصية، إلا أن تلك الكتب أصبحت ضرورة لا غنى عنها، فى ظل ضعف كتب الوزارة.
إن قضية عزوف الطلبة عن الكتب المدرسية «كتب الوزارة»، واعتمادهم بشكل كلى على الكتب الخارجية، فى تحصيل دروسهم، رغم تطوير المناهج والكتب من الابتدائى وحتى الثانوي، باتت تحتاج إلى تدخل فورى وحاسم وبحث الأمر على أعلى المستويات، ووضع حلول عاجلة.
تلك القضية لا يمكن إغفالها أو السكوت عليها لأن إعداد وطباعة الكتب المدرسية يتكلف سنويًا مئات الملايين من الجنيهات، ثم تكون النهاية إلقاءها جانبًا، وهذا ما يستدعى بالضرورة وقفة ضد الإهدار للمال وتصحيح المسار، وكذلك لتحديد الأسباب وراء عزوف الطلبة عنها!
ويبقى التساؤل المطروح: لماذا لا تفكر الوزارة بنفس فكر الكتب الخارجية فى إعدادها للكتب المدرسية، ولماذا لا يُنافس الكتاب المدرسى «نظيره» الخارجى فى المرحلة المقبلة؟
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ارتفاع أسعار الكتب الخارجية المنظومة التعليمية الکتب الخارجیة
إقرأ أيضاً:
155 عاما على دار الكتب المصرية و60 عاما من تراجع الدور الثقافي
دار الكتب المصرية واحدة من كبريات مؤسسات المعرفة في عالمنا العربي. كانت حتى منتصف القرن الـ20 الجامعة الحرة لمصر بكفاءة وجدارة، يلتقي فيها أعلام مصر الذين كانوا ملء السمع والبصر، ويقدر العارفون قدر هذه الدار بحق أنها ذاكرة مصر الفكرية، ومدخر التراث العربي الإسلامي الذي حفظته لأكثر من قرن ونصف، وأنزلته خير المنازل.
في القرنين الـ17 والـ18 الميلاديين، كانت تجارة الكتب القديمة والمخطوطات من التجارات الرائجة، وحيث لم تكن هناك قوانين أو تشريعات تحمي الممتلكات الثقافية الوطنية، أدى ذلك إلى تسرب جزء كبير من المخطوطات وأوراق البردي والآثار من القاهرة، حتى ملأت مكتبات أوروبا وتركيا والولايات المتحدة الأميركية.
في عام 1824، عثر أحد الفلاحين في مكان قريب من هرم سقارة على جرة صغيرة مختومة، وقام بعرضها للبيع بثمن بخس بعد أن خاب أمله في العثور على كنز من الذهب. لكن هذه الجرة وصلت إلى المستشرق الفرنسي المعروف "سلفستر دي ساسي"، الذي نشر أول مقال عن محتواها من الكتابات، وكانت أول إشارة عرف بها العالم أمر أوراق البردي العربية، أو "القراطيس المصرية" كما أطلق عليها ابن النديم في الفهرست.
وفي لقاء لـ"الجزيرة نت" مع الدكتور أيمن فؤاد سيد، أستاذ المخطوطات والمحقق لكثير من عيون التراث، ومدير دار الكتب المصرية الأسبق، قال: "لم تكن أهمية هذا الاكتشاف في أنه أعلن عن وجود أوراق البردي لأول مرة، بل كانت الإشارة الأهم أن هذا الحادث نبه المسؤولين، وعلى رأسهم علي باشا مبارك، مدير ديوان المدارس، الذي سافر ضمن البعثة التي أوفدها محمد علي باشا إلى فرنسا عام 1844 لدراسة العلوم العسكرية، وشاهد عن كثب المكتبة الوطنية في باريس".
إعلانويكمل: "عندما عاد علي باشا مبارك إلى مصر، اقترح على الخديوي إسماعيل إنشاء دار كتب على نمط دور الكتب الوطنية في أوروبا، واستصدر منه قرارا في 23 مارس/آذار 1870، أسند إليه فيه الخديوي جمع المخطوطات النفيسة التي لم تصل إليها يد التبديد من المساجد والأضرحة ومعاهد العلم، ليكون من مجموع هذا الشتات نواة لمكتبة عامة.
ويقول أستاذ المخطوطات: "ضمت تلك المكتبة في أول عهدها نحو 20 ألفا من المجلدات والمراجع ومجاميع الخرائط، وضم إليها المكتبة الأهلية القديمة "الكتبخانة" التي أنشأها محمد علي باشا بالقلعة، ومكتبتي وزارة الأشغال والمعارف العمومية، فضلا عن المجموعة الأجنبية التي تكونت من 1272 عنوانا، وكلف رفاعة الطهطاوي بشراء ما ينقص الكتبخانة من المطبوعات الأوروبية، بالإضافة إلى مكتبات أخرى بالمساجد من مجموعات ديوان الأوقاف".
ومن هذه المجموعات تكونت "الكتبخانة الخديوية" من نحو 20 ألف مجلد، وكان مقرها الطابق الأرضي بسراي الأمير مصطفى فاضل باشا، شقيق الخديوي إسماعيل، بدرب الجماميز بجوار "ديوان المدارس"، وأصبحت الكتبخانة متاحة لجمهور القراء في 24 سبتمبر/أيلول 1874م، وتعد بذلك أول وأقدم مكتبة وطنية في الشرق الأوسط.
ولما ضاقت دار الأمير مصطفى فاضل بالكتب، قام الخديوي عباس حلمي الثاني بوضع حجر أساس الكتبخانة الخديوية ودار الآثار العربية في ميدان باب الخلق عام 1899م، وانتقلت إليها الدار في عام 1903م، وفي العام التالي فتحت الدار أبوابها للجمهور.
استطاعت "الكتبخانة" خلال سنوات قليلة الاستحواذ على مجموعات نادرة من المخطوطات العربية والشرقية، وأوراق البردي، والمسكوكات الإسلامية، ولوحات الخط العربي. وتمتاز هذه المجموعات بندرتها وأصالتها، حيث تبلغ المخطوطات العربية والشرقية في مصر نحو 125 ألف مخطوط، وهي تأتي في المرتبة الثانية بعد مجموعة مخطوطات تركيا.
إعلانأما مجموعة دار الكتب، فتبلغ نحو 60 ألف مخطوط، وتعد من أقيم وأنفس المجموعات العالمية لتنوع موضوعاتها، واحتوائها على عدد ضخم من المصاحف الشريفة والربعات، وبعضها مكتوب على الرق، ويرجع أقدمها إلى عام 77هـ، وهو مصحف منسوب إلى الإمام البصري، إضافة إلى مجموعة نادرة من المصاحف المملوكية التي أوقفها سلاطين المماليك على المدارس التي أنشؤوها في القاهرة، والتي نقلت إلى الدار في نهاية القرن الـ19، وكذلك مجموعة نادرة من المخطوطات الفارسية المزينة بالصور (المنمنمات) وبماء الذهب، وبالألوان الطبيعية.
ويشير الدكتور أيمن فؤاد إلى أن رصيد دار الكتب من المخطوطات حتى أول أبريل/نيسان عام 1916م كان عبارة عن 19 ألف مخطوط، بينها 345 مخطوطا موقوفا، بالإضافة إلى 189 مصحفا، منها 27 مصحفا مكتوبا بالقلم الكوفي على رق غزال، وكذلك مخطوطات علي باشا مبارك التي أضيفت إلى الدار عام 1895، بعد سنتين من وفاته.
ومن نوادر ما تحتفظ به الدار: المصحف الذي كان في جامع عمرو بن العاص، المكتوب في أوائل القرن الثاني الهجري بالخط الكوفي على رق غزال، من غير شكل ولا نقط، ولا كتابة لأسماء السور أو عدد الآيات، وكان من مجموعة الحاج محمد علي باشا.
يوجد أيضا في الدار عدد من المصاحف المملوكية التي كانت بحيازة المساجد المملوكية بالقاهرة، منها مصاحف السلطان الناصر الأشرف شعبان، والسلطان برقوق، والسلطان الناصر حسن، والسلطان الأشرف برسباي، والسلطان خشقدم، والسلطان قايتباي، والسيدة خوند بركة والدة السلطان شعبان.
أما المخطوطات الفارسية في دار الكتب، فمن بينها 71 مخطوطا مزينا بالصور (المنمنمات)، يتراوح تاريخها بين القرن الثامن الهجري والقرن الـ14 الهجري. ومن أقدم هذه المخطوطات نسخة من كتاب كليلة ودمنة، تتضمن 112 صورة مرسومة بالألوان تعبر عن محتوى الكتاب من حكايات وعجائب، ونسخة من الشاهنامة للشاعر الفارسي الفردوسي، المتوفى عام 416هـ، التي نظمها في 30 عاما وأتمها عام 384هـ، وقدمها للسلطان محمود الغزنوي. وقد كتبت هذه النسخة في مدينة شيراز عام 796هـ، وتتخللها 67 صورة بالألوان تصور الأبطال والمعارك، حسب ما ذكره الدكتور أيمن فؤاد.
في عام 1877م، اكتشفت كمية كبيرة من أوراق البردي في شمال محافظة الفيوم، خرجت من مصر إلى برلين وأوكسفورد وفيينا، حيث اشترى أرشيدوق نمساوي ألف قطعة منها، والتي نمت مع الوقت حتى أصبحت أشهر مجموعة عالمية. كما اكتشفت مجموعات أخرى وجدها الباحثون بين تلال أهناسيا، وأخميم، والأشمونين، والبهنسا، وميت رهينة، وإدفو في صعيد مصر، واستقرت هذه المجموعات في هامبورغ، وهايدلبرغ، وستراسبورغ، وأماكن أخرى في أوروبا.
إعلانوتوجد مجموعة ضخمة من النقود العربية والإسلامية اشترتها الحكومة المصرية وأودعتها دار الآثار العربية، ثم نقلت إلى الكتبخانة عام 1894م. وفي الفهرس الوصفي للمجموعة، وجد في آخر فحص أجري عام 1980 عدد 6400 قطعة، تمثل 5300 قطعة نقود، و890 صنجة زجاجية، و20 ميدالية، و130 قالب سك وأختاما زجاجية. ولا تزال هذه المجموعة محفوظة في "خزانة النقود الأثرية" في مبنى باب الخلق، مرتبة في أدراج حسب تواريخ ضربها.
كما تمتلك دار الكتب مجموعة نادرة من الخرائط بلغت 28 ألفا و540 خريطة، ولوحات للخط العربي بلغ عددها أكثر من 500 لوحة، تنتمي للمدرستين التركية العثمانية والإيرانية الفارسية، معظمها بحالة جيدة، ويتراوح زمن كتابتها بين القرنين الـتاسع والـ14 الهجريين. والكثير من هذه المخطوطات النفيسة والمصاحف الرائعة يعود إلى تركة السلطان عبد الحميد الثاني.
وتحتفظ دار الكتب أيضا بمجموعة لا نظير لها من الدوريات والصحف والمجلات العربية والأجنبية، الصادرة في مصر والبلاد العربية والإسلامية وأوروبا. ويبلغ عدد الدوريات العربية 4200 عنوان، وعدد الدوريات الأجنبية 5812 عنوانا، تقع في 156 ألفا و431 مجلدا (حسب د. أيمن فؤاد).
ويقول: كانت دار الكتب بمثابة "جامعة الهواء" في مصر، وكان روادها من كبار الكتاب والمثقفين، أمثال الشاعر حافظ إبراهيم، وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، والكاتب توفيق الحكيم، وأبو الفضل إبراهيم. أما الخبراء العاملون بها فكانوا من أفضل ما أنجبته الحضارة العربية في مجال الحفظ والتحقيق.
وفي عام 1965، بدأت أزمة دار الكتب عندما ضمت إليها دار الوثائق القومية، مما وضع عبئا على دار الكتب، وتسبب في تهميش دار الوثائق. ثم جاء ضم الهيئة المصرية العامة للكتاب ليمثل بداية التدهور الذي عانت منه دار الكتب طوال أكثر من نصف قرن، حيث فقدت شخصيتها الاعتبارية واستقلاليتها، وأصبحت مجرد إدارة مركزية تابعة لهيئة الكتاب.
إعلانوتراجع دورها الثقافي، وأصبحت غير قادرة على متابعة الحركة الثقافية، ولا على اقتناء أهم المطبوعات المنشورة خارج مصر، كما أصبحت شبه عاجزة عن تقديم الخدمة المكتبية اللازمة للمترددين عليها، بسبب نقص إمكاناتها المادية والبشرية، في حين شهد العالم في هذه الفترة تقدما علميا كبيرا في مجال التحديث الإلكتروني، والرقمنة، وإتاحة مقتنيات الدور من مطبوعات وخرائط وصور وغيرها.
وفي عام 1992، اجتمعنا -مجموعة من المثقفين الذين آلمهم الوضع المتردي الذي آلت إليه دار الكتب- وعرضنا الفكرة على الفنان فاروق حسني، وزير الثقافة، وكان ترحيبه كبيرا، لأنه -كما قال- كان يفكر في تطوير دار الكتب لتكون لمصر مكتبتها الوطنية المستقلة، مثل بقية الأمم المتقدمة.
وقد أصدر الوزير قرارا في مايو 1992 بتشكيل لجنة استشارية عليا لتطوير دار الكتب، لوضع إستراتيجية عمل تحقق استقلال الدار، وترفع مستوى الأداء فيها، للوصول بها إلى أفضل مستوى للأداء.
ويضيف الدكتور أيمن فؤاد: تم اختياري مديرا لمشروع تطوير دار الكتب، وقمت بدراسة وضع الدار، وتعرفت على المعوقات، وكانت نقطة الانطلاق الأساسية هي إعادة الدور التاريخي لمبنى دار الكتب بباب الخلق ليكون مكتبة للدراسات الشرقية، وأن تستقل الدار عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، إذ إن مهمة دار الكتب هي جمع التراث الفكري الوطني -المخطوط والمطبوع- وتيسير الانتفاع به للعلماء والباحثين، وحفظه سليما للأجيال القادمة، وهو نشاط خدمي ذو طابع بحثي أكاديمي، بينما تضطلع الهيئة العامة للكتاب بنشاط إنتاجي ثقافي خاص بالتأليف والترجمة والنشر، باعتبارها دار النشر القومية لمصر. لذلك كان لا بد من الفصل بين الهيئة العامة للكتاب ودار الكتب، حتى يتمكن كل منهما من أداء دوره تبعا لطبيعة النشاط الذي يؤديه.
لكن، ولأسباب إدارية بحتة، رُئي الإبقاء على دار الكتب مع دار الوثائق، لتقارب نشاطيهما، إذ تهتم دار الوثائق بجمع المحفوظات والأرشيف التاريخي وتيسيره للمؤرخين والباحثين، على أن يتحقق استقلال دار الوثائق في وقت لاحق، نظرا لاحتياجها إلى فنيين وخبراء متخصصين في مجال الأرشيف والوثائق، على خلاف المكتبيين الذين يعملون في دار الكتب.
إعلان الذكاء والرقمنةأساليب صيانة المخطوطات وحفظها بالوسائل القديمة لم تعد تتواءم مع واقعنا الحالي، إذ نجد أنفسنا أمام تقنيات عالية لحماية المخطوطات، وقراءتها، وفك رموزها، وإتاحتها للجمهور بواسطة الرقمنة. ويعد الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي من أهم الوسائل التقنية التي تبشر بعصر جديد في التعامل مع المخطوطات وحمايتها.
يقول الدكتور خالد عزب، الخبير الثقافي للجزيرة نت: "المخطوطات لم تلق الاهتمام اللازم من قبل الباحثين العرب والمسلمين، إذ ارتكز اهتمامهم على المتون دون النظر إلى المخطوطة باعتبارها وثيقة أثرية وحضارية. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان اهتمامهم كبيرا بالمخطوطات التي تناولت موضوعات القرآن الكريم وأحاديث النبي ﷺ، فتعاملوا معها كتحف فنية، وتركوا لنا تراثا فنيا فريدا نراه منتشرا الآن في كثير من متاحف ومكتبات العالم".
وعلى الرغم من أن معظم المخطوطات العربية القديمة قد تم إتلافها بالحرق أو الإهمال خلال فترات الحروب التي شهدها العالم الإسلامي، كالحروب الصليبية، والفتن الداخلية، وحروب التتار، وغيرها، والتي ألحقت أكبر الضرر بآلاف من المخطوطات، فإن العقل الإنساني لا ينسى ما فعله هولاكو عندما اجتاح بغداد، حاضرة العالم الإسلامي ودرة تاجه الفكري والثقافي عام 1258م، حيث ألقيت ملايين المخطوطات في نهر دجلة حتى تعكرت مياهه.
وفي ظل هذا الإهمال الطويل لتراثنا المخطوط، ظهرت الآن دعوات لما يسمى ب "إعادة الاعتبار للتراث الوطني" باستخدام الرقمنة الحديثة، وإتاحة هذا التراث لأكبر عدد من المستفيدين، وهي خطوات تسهم في حماية المخطوطات من الاندثار والضياع.
وتكمن أهمية الرقمنة في إنشاء قاعدة بيانات رقمية تواكب التطور التقني، وتساعد في حفظ وصيانة المخطوطات، فضلا عن أنها تتيح الاطلاع على المخطوطات دون الحاجة إلى الرجوع إلى النسخة الأصلية إلا في حالات نادرة، مما يسهم في الحفاظ على المخطوط.
إعلانوهذا يتطلب ضرورة وضع خطة منهجية، مع توافر المعدات اللازمة من أجهزة الحاسوب والماسحات الضوئية، وقبل ذلك، ضرورة توفير الموارد المالية الخاصة بتكلفة البرمجيات، والمعدات، والإجراءات الفنية اللازمة لتحويل المخطوطات إلى مواد رقمية.
ويضيف الدكتور عزب: "ومع ذلك، يبقى العنصر البشري المؤهل والمدرب جيدا من أهم عوامل نجاح عملية الرقمنة. فعملية الرقمنة لا تحتاج إلى عدد كبير من العاملين، بقدر ما تحتاج إلى عمالة ذات كفاءة عالية يقع على عاتقها تنفيذ المشروعات الكبرى".
ولا ينبغي أن ننسى أن مرحلة الرقمنة ليست عملية تقنية بحتة، بل تتخللها مراحل يدوية في غاية الأهمية، أبرزها صيانة وترميم المخطوطات، وهي تتطلب مهارات دقيقة وتحكما عاليا. ثم تأتي عملية الرقمنة، والتي تأخذ نمطين مختلفين: الرقمنة على شكل صورة، والرقمنة على شكل نص. وغالبا ما يتم التعامل مع المخطوط العربي بالرقمنة على شكل صورة، نظرا لخصوصية الخط العربي، ثم تأتي مرحلة المعالجة وتحويل الصور إلى صيغة الكتب على هيئة ملفات PDF.
وحول المزيد من التميز في مجال الترجمة من اللغة العربية وإليها، فضلا عن تصوير اللغة العربية وتحويل النصوص إلى مرئيات، ومحاولات إضافة المزيد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي لخدمة اللغة العربية، يقول الدكتور أيمن أحمد شاهين، عميد كلية الهندسة بجامعة الفيوم السابق وعضو مجمع اللغة العربية، لـ"الجزيرة نت":
إن مجال تطبيقات الذكاء الاصطناعي بلغ أوجا عظيما من التقدم، من حيث تحويل النص المكتوب إلى نص مسموع أو مرئي، وهي مسألة أصبحت سهلة في معظم اللغات العالمية الآن. أما في مجال النصوص التراثية، فقد أحرز الذكاء الاصطناعي ما يشبه المعجزة في فك رموز كثير من المخطوطات وقراءتها بشكل ميسر.
إعلانلكن اللغة العربية تعد من اللغات المعقدة بنيويا، حيث تتكون مفرداتها من نحو 12 مليون كلمة، أي ما يعادل 20 ضعف مفردات اللغة الإنجليزية. ورغم أن التطور المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي يبشر بإمكانيات واعدة، فإن هذا يتطلب بذل المزيد من الجهود من قبل اللغويين وخبراء الذكاء الاصطناعي، وذلك لأن اللغة العربية تمتلك خصائص فريدة مثل الاشتقاق والتصريف وتعدد المعاني والتنوع اللهجي، مما يستلزم تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متخصصة قادرة على التعامل مع هذه التعقيدات.
ويعد الدكتور شاهين من الباحثين الذين يحاولون توظيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي في خدمة التراث العربي، وتحويله من نصوص إلى مرئيات فيلمية. وتحدث الدكتور شاهين عن تقنية "شبكة الخصومة التوليدية" (GAN) وتطورها.
وقال شاهين: خضعت تقنية (GAN) لمزيد من البحث والتطوير، وقد فاجأتنا شركة "أوبن إيه آي" (OpenAI) في أوائل عام 2024 بإطلاق النسخة الرابعة من محركها التوليدي "جي بي تي-4" (GPT-4)، والذي انبثق منه تطبيق "Sora"، وقد أثبت هذا التطبيق قدرات مبهرة، يكفي أن تكتب له نصا وتطلب منه أن يقدمه كقصة مصورة في شكل فيديو، فيحول النص إلى صورة فيلمية فائقة الإبهار والدقة المتناهية.
وقد استطاع هذا البرنامج أن يحقق نتائج مذهلة عندما طلب منه العمل باللغة الإنجليزية. ولكن عندما طلبنا منه النتائج نفسها باللغة العربية، وبدأنا بتحليل النصوص وإعرابها دون تشكيل، وأعطيته جملة عربية بسيطة غير مٌشَكّلة، قام بإعرابها وتشكيلها بسهولة. إلا أنه عندما انتقلنا إلى جمل أكثر تعقيدا، مثل الجمل التي يكون فيها الخبر مقدما أو يتضمن شبه جملة، وطلبنا منه إعرابها، كانت أخطاؤه واضحة، ولم يعط نتائج دقيقة بنسبة كبيرة.
ويعلق الدكتور أيمن شاهين قائلا: هذا بالطبع يرجع إلى أن قاعدة البيانات الخاصة برقمنة اللغة العربية لم تكتمل بعد بما يكفي لتعمل بكفاءة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ولهذا تأتي المخرجات غير صحيحة. وهذا يرجع -بطبيعة الحال- إلى أننا كعرب لم نلتفت بسرعة إلى الثورة التي أحدثتها تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
ويضيف د. شاهين: من ناحية أخرى، قمت بتجربة على نص عربي باستخدام الذكاء الاصطناعي، حيث أعطيت التطبيق نصا باللغة العربية، وتخوفت من أن لا يفهم النص، فقمت بشرح مضمونه تفصيلا، ثم ترجمت النص إلى اللغة الإنجليزية لضمان الفهم.
إعلانوقد استطاع الذكاء الاصطناعي تنفيذ ما أردت، فأنشأ مقطع فيديو مدته دقيقة واحدة بناء على النص. ومن خلال هذا التطبيق، نستطيع توثيق كتب التراث الكبرى، مثل سيرة ابن هشام، وطبقات ابن سعد، والأغاني للأصفهاني، وعرضها على الشاشة باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي.