رحم الله الشيخ ياقوت الحموي الذي شخص لنا الحالة السودانية الميؤوس منها قبل ثمانمائة عام أو يزيد و كان متفرساً في شخصيات الذين ينغصون حياة الناس و يكدرون المزاج العام بدون مبررات منطقية و بدم بارد (بقصد) و في أحايين كثيرة (بدون قصد) ، و هو القائل :

وإخوانٍ حسبتهمُ دروعاً
فكانوها و لكن للأعادي

و خلتهمُ سهاماً صائباتٍ
فكانوها ولكن في فؤادي

و قالوا : قد صفت منا قلوب
لقد صدقوا ولكن من ودادي

بكل أسف يتصدر المشهد السوداني نوعية غريبة الأطوار من قيادات العمل العام نجد بعضهم متهور للغاية بصورة يصعب كبح جماحه ، و مستبد لا يضع لنفسه خطوط حمراء و لا يحسب لأدائه العام أي حساب ، غير مبالين بنتائج أفعالهم ولا يدرسون قراراتهم أبداً ، و قد أصاب بعضهم عطش جارف لممارسة السلطة و فرض الأوامر و ممارسة التعسف إشباعاً لنفوسهم المريضة .

يأدون هذه الأدوار بذكاء حاد ، و أحياناً يصبح الذكاء عليهم لعنة ، و أخرى يكون تذاكياً متعمدا ، حيث يصعب التواصل بينهم و بين الآخرين ، و خصوصاً إذا تجاوزت أعمارهم المتذاكين سقف عمري معين و تجاوزوا حدود ال 60 من العمر حينها تبرز عندهم بعض العادات الغريبة و الصفات الشاذة التي تصاحبها افعال فيها درجة من الغرابة و تأتي في أشكال مختلفه على غرار الحسم في بعض الآمور ، و الاجتهاد الخجول أحياناً ، و قد يصاحب عند البعض سلوك يتعلق بالرغبة الجامحة في المخاطرة و يتطور هذا السلوك إلى إستخدام لغة التهديد و الوعيد في بعض الأمور التي لا ترتقى لمستوى أن تكون موضوع من الأصل ، و مثل هذا السلوك يصنف شاذاً و إنفعالياً لأنه يكون متجاوزاً لسقف الجدية التي يتطلبها الموقف ، و يحدث كل هذا فضلا عن سلوك التسامح الذي يجب أن يتوفر مع الآخرين ، و على الرغم من أن الذكاء صفة إيجابية و نعمة إلا أنه قد يصبح نغمة عندما يكتوي بنيرانه الواقعين تحت تأثيره المباشر ، فنجد ضحياهم كثر و يواجهون صعوبات كبيرة خصوصاً إذا كان المتذاكي عليهم في موضع صناعة (القرار) أو (يمتلك سلطة) ، و لو كان حراساً لمدخل أي مؤسسة يتردد عليها الناس كثيراً ، فإن المصيبة حينها ستكون عليهم أكبر .

يجب على سعادة وزير التعليم العالي و البحث العلمي بروف دهب أن يفهم حقيقة واحدة فقط و هي أن هذه الحرب كانت ضد وجودية السودان ، و أنها لا تتمثل في العمليات الحربية (فقط) التي تدور رحاها في الخرطوم و بعض ولايات دارفور ، بل هي حرب شاملة إستهدفت إستإصال كل شيء حتى التأريخ و الطبيعة و الجغرافيا لم تسلم منها ، و هي كما أسلفت ضد وجودية السودان (يكون أو لا يكون) ، حيث أراد صانع هذه الحرب إفراغ السودان من أي محتوى يمكن ان يستفاد منه ، و أن القوة الغاشمة و الغشيمة التي تدير هذه الحرب قامت بمحق و سحق أي رصيد يدخره الشعب السوداني من كل شيء ، و كان من أولويات مشروع هذه الحرب هو تهجير الشعب قسرياً إلى الشتات في أرض الله الواسعة ، و ما زال هذا الإفراغ و إفقار الشعب مستمراً في غير ميادين القتال ، ففي بعض الأحيان يتم هذا العمل الجبان بصورة ناعمة و على أيادي نحسبها وطنية خبرت كيف تستخدم سلطاتها في تنفيذ هذا المخطط الأسود ، و يتم ذلك عبر مجموعة خطيرة من المختبئين في دهاليز السلطة المظلمة و ما زالوا على رأس أعمالهم يتصرفون كما يشاؤون و يديرون هذه العمليات بصمت شديدة مستخدمين فيها ذكائهم الحاد و نفوذهم القوي لأجل صناعة (الخراب) ، فبعضهم ينفذ المخطط بوعي تام بمالاته و البعض الآخر بدون وعي ، ففي كل الحالتين فإن النتيجة تصب في ماعون أجندات الحرب ، و يعاونهم على ذلك بعض مرضى النفوس ، و كل من فضل أن يكون مطية ضد أهله وشعبه ، و كذلك أيضاً هنالك بعض المغيبين الذين لا يعون ما يفعلون ، و أقرب دليل على ذلك القرار الذي أصدرته وزارة التعليم العالي و البحث العلمي بشأن تعطيل الدراسة في جميع مؤسسات التعليم العالي إلى أجل غير مسمى و أكاد أجزم باليقين النافي للشك بأن هذا القرار تم تجيره فقط بإسم السيد الوزير ، لأنه قرار يصعب أن يخرج من شخص متشبع بالوطنية و يعمل لأجل المصلحة العامة و لا أظن أن السيد دهب يمكن أن يكون ضد المصالح العليا للوطن ، و تتمثل خطورة هذا القرار في إنه أسهم إسهاماً مباشراً في إفراغ الجامعات الوطنية و الحكومية و الخاصة و الأهلية من طلابها و تهجيرهم بالإكراه تهجيراً قسرياً إلى الدول المجاورة لأجل لحاق ما يمكن لحاقه من أعمارهم التي ضاعت بدون مبرر ، و على الرغم من أن هذا القرار يضع وزير التعليم العالي في خانة العداء تجاه مستقبل إبنائنا الطلاب إلا إنه لم يراودني في يوم ما أدنى شك في وطنية هذا الرجل ، و كما إنني لم و لن أطعن في أدائه العام لصالح الدولة السودانية و لا يجوز لي إتهامه بالخيانة ، فهو رجل مهني ، و لكن نعتبر له ما مسنا من ضر (سقطة معلم) ، و لكن قد أجد له المبرر الكافي ، و ذلك لبعده المكاني عن المشهد السوداني ، فهو مقيم في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية مما جعل إحساسه ضعيفاً تجاه ما يحدث في الساحة ، الشيء الذي جعل فعله لا يتناغم مع المزاج العام للشعب في خضم تداعيات هذه الحرب ، التي كانت للشعب أفضل مدرسة و قد كشفت له العدو من الصليح ، و تعلم منها الشعب الكثير و المفيد الذي لا يحصى و لا يعد .

على العموم أتى قرار السيد الوزير خاوياً من الموضوعية و القانونية و العقلانية ، و الادهى و الأمر (غير مسبب) ، و كما لا يدانيه المنطق ، حيث مارس السيد الوزير في هذا القرار درجة من الذكاء أو التذاكي من أجل ان يسجل به لنفسه حضور في دفتر الأحوال ، و ينفي به غيابه و يدارى به قضية عدم تواجده داخل الوطن في مثل هكذا ظروف ، أي من أجل ان يقول للناس (أنا موجود) و لا أكثر من ذلك ، هذا القرار من المؤكد مؤشر و إنزار مخيف لتطورات تفيد بتصدع باتا وشيكاً في الجهاز التنفيذي في كامل الدولة ، و هذا الأمر سيهد كامل المعبد على العابد ، لأن جميع منتسبيه يغردون خارج السرب و كأن بهم جُنة ، و لكن هذا القرار الذي أحدث فرقة ضخمة لم يزعجني أبداً ، و يجب أن يطمئن الجميع لأن مثل هذه القرارات لن تصمد طويلاً ، و لذلك لا أرى ان تكون هنالك ضرورة لمطالبة سعادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان للتدخل و إيجاد معالجة حاسمة لمثل هذه الأفعال التي تعتبر في مقام الترهات ، لأن هذا القرار أضعف من أن يصمد أمام القضاء الإداري لمدة ربع ساعة فقط ، و لقد جرب سعادة الوزير تلك الحرب القانونية التي أشعلها مع نفسه ضد جامعة أفريقيا العالمية سابقاً في شأن داخلى يخصها و ليس للوزارة سلطة في ذلك ، حيث ذهب ذلك القراره الأبتر في مهب الريح ، و تم كسر حلقته في ظرف ساعة واحدة فقط حينما تمت مواجهه بالقانون ، و من هذا المنطلق أهيب بجميع مدراء و عمداء الجامعات و الكليات أن يطمئنوا تماماً ، و ألا يضغطوا على أعصابهم ، لأن مسيرة التعليم أقوى من أن يتحكم فيها شخص أو قرار ميت قبل أن يولد ، و لهذا يجب ألا يكون لهم شاغل ، و أن يتركوا الامر لأصحاب الشأن من الشباب ليأخذوا حقوقهم الدستورية عبر المحاكم الإدارية التي ستنصفهم في الحال ، أو من خلال الشرعية الثورية إن أرادوا ذلك ، و يجب أن يعلم كل الذين يغردون خارج السرب و يتفسحون خارج الصندوق أن مسيرة التعليم العالي ستستمر رغم أنف من أبى ، و الله من وراء القصد .

المصدر: نبض السودان

كلمات دلالية: الحروف همس التعلیم العالی هذا القرار هذه الحرب

إقرأ أيضاً:

عوض تاج الدين: المضادات الحيوية لا يكون لها دور في علاج الإصابات الفيروسية

أكد الدكتور محمد عوض تاج الدين، مستشار رئيس الجمهورية للصحة والوقاية، أن إصابة الشخص بالأنفلونزا المصحوبة بارتفاع مستمر في درجة الحرارة، وصعوبة في التنفس، مع وجود كحة تستدعي استشارة طبيب مختص لتقييم الحالة.

وأوضح مستشار رئيس الجمهورية للصحة والوقاية، خلال مداخلة هاتفية ببرنامج "قلبك مع جمال شعبان"، الذي يقدمه الدكتور جمال شعبان، العميد السابق لمعهد القلب القومي، أن المضادات الحيوية لا يكون لها دور في علاج الإصابات الفيروسية، وأن دورها مقتصر فقط على علاج الالتهابات البكتيرية.

كما حذر الدكتور محمد عوض من تناول المضادات الحيوية دون الرجوع إلى استشارة طبية، مشددًا على أنها تعتمد على جرعات محددة ولفترة زمنية معينة يقررها الطبيب المختص لضمان فعاليتها وتجنب آثارها السلبية.

وفي ظل انخفاض درجات الحرارة، شدد تاج الدين على أهمية الوقاية قائلاً: "الوقاية ثم الوقاية ثم الوقاية"، موصياً بتجنب الانتقال المفاجئ بين الدفء والبرودة، واستخدام كمامة أو غطاء عند الخروج للجو البارد، إضافة إلى الراحة لمدة يومين إلى ثلاثة أيام عند الإصابة بأي أعراض برد.

مقالات مشابهة

  • استمرار فعاليات دروب الفنون بالمنيا
  • الانتقالي يكشف الحقيقة… وينفي مزاعم انسحاب قواته من حضرموت
  • مباراة الأردن 0 – 0 العراق / بث مباشر
  • صحيفة الثورة الخميس 22 جمادى الاخرة 1447 – 12ديسمبر 2025
  • السيّد: هل تكفي الدولارات القليلة التي تحال على القطاع العام ليومين في لبنان ؟
  • عاجل | ترامب: سنعلن عن مجلس السلام الخاص بغزة العام المقبل والجميع يريد أن يكون عضوا فيه
  • عوض تاج الدين: المضادات الحيوية لا يكون لها دور في علاج الإصابات الفيروسية
  • تقرير: 2025 قد يكون ثاني أحر عام في التاريخ
  • مراهقون: الحد الأدنى لحظر مواقع التواصل يجب أن يكون 14 عامًا
  • وفاة شخص بحادث دهس على طريق الأزرق – العمري