الأقمار الصناعية تسرد أسرار الفضاء والأرض
تاريخ النشر: 20th, September 2023 GMT
قبل عقود ليست بالكثيرة، ومع بداية استخدام الصواريخ في الحروب المستعرة، فكّر بعض أصحاب الخيال العلمي والمهندسين في إمكانية استخدام هذه الصواريخ لوضع جهاز إلكتروني ليدور حول الأرض مستغلا الميكانيكا المدارية، التي كانت مفهومة تقريبا ولكن دون تطبيق عملي لها، وذلك ليقوم هذا الجهاز بالتصوير أو تبادل الاتصالات اللاسلكية مع نقاط متفرقة في أنحاء الكوكب، وهو ما اتضح لاحقا أنه أحد أعمدة التطور البشري في العصر الحديث، وستلامس تطبيقاته مختلف جوانب حياة البشر بشكل يومي، ويكون مجالا للتنافس وإظهار مدى التطور التقني للدول.
فلِكي تصنع قمرا صناعيا بإمكانيات ذاتية عليك أن تكون عالما بشكل عميق للكثير من العلوم والتخصصات الدقيقة، بدءًا من مختلف تقنيات التصنيع، ومعرفة خصائص المعادن والمواد المركّبة، والاتصالات اللاسلكية، والأنظمة الإلكترونية، والديناميكا الحرارية، والدفع النفاث وغيرها.
وهذا هو الجانب الأسهل في الأمر، أما الجانب الأصعب فهو إيصال هذا القمر إلى الفضاء ووضعه بشكل دقيق في مدار الأرض؛ كي يدور حولها وفق حسابات رياضية دقيقة تطوّع ميكانيكا المدارات، وهذا غير ممكن -حاليا على الأقل- سوى من خلال الصواريخ، وهي أجهزة معقدة بشكل يصعب على أغلب الناس تخيله، وليس أصدق على ذلك من العادة التي جرت في ضرب المثل بصناعة الصواريخ عند محاولة القيام بشيء صعب. فالصواريخ يجب أن تكون قادرة على توليد دفع نفاث قوي جدا، وهذا الدفع يتطلب استهلاك كميات مهولة من الوقود تصل لبضعة أطنان في كل ثانية، ولتحقيق ذلك يجب ضخه بعنف بالكميات المطلوبة، وخلطه بنسب دقيقة ومحسوبة مع المادة المؤكسدة، ثم احتواء الحرارة الهائلة والاهتزازات العنيفة الناتجة عن حرقه، ثم التأكد من أن هذا الصاروخ سيتبع مسارا محددا أثناء صعوده إلى الفضاء ويقطع من خلاله بيئات تختلف بشكل جذري على طول مساره حتى وصوله لمداره. كل هذه العوامل -التي لم نذكر سوى قليل منها- تجعل صناعة الصواريخ حكرا على عدد قليل من الأمم حتى الآن، بل إلى وقت قريب، لم يكن من الممكن صناعة الصواريخ سوى بواسطة مؤسسات الحكومات؛ لأنها كانت الوحيدة التي تستطيع المغامرة برؤوس أموال ضخمة في سبيل تطويرها، وذلك بعد الإيمان بأهميتها في التفوق العلمي.
من الحرب إلى السلم والاستدامة
الشيء الملفت -كحال الكثير من التقنيات المتطورة- هو أن الاستخدام العسكري لأغراض التجسس وتصوير مواقع العدو، والتواصل الراديوي بين أماكن متباعدة على الأرض هو الغرض الأساسي والأول الذي طُورت لأجله تقنيات الأقمار الصناعية، ولكن الحال مختلف الآن، فأغلب الأقمار الصناعية التي تعوم في فضاء الأرض الآن لها استخدامات علمية ومدنية مختلفة، وكثير من هذه الاستخدامات يعرفها أغلب الناس، كالملاحة بنظام تحديد المواقع العالمي، واستقبال البث التلفزيوني، والتخطيط العمراني. أما هنا فسنسرد بعض الاستخدامات التي ربما لا يعرفها كثير من الناس، التي توضح الاستخدامات المتنوعة والواسعة لهذه الأجهزة المتطورة التي أصبحت تراقب الأرض من منظور جديد لم يعهده البشر.
من هذه الاستخدامات غير المألوفة هي مراقبة صحة النباتات ومعرفة ما إذا كانت تقوم بعملية التحليل الضوئي بشكل طبيعي أم لا قبل أن تظهر عليها حالة الإجهاد وتبدأ بالموت أو التحول للون الأصفر، وهذا يفيد المزارعين على معرفة ما إذا كانت المياه والأسمدة تصل بشكل مناسب إلى كل المساحة المزروعة، والطريقة تتم من خلال مراقبة الأشعة تحت الحمراء المنبعثة من الشمس والمنعكسة عن أوراق النباتات.
وفي مجال المحيطات يختص أحد الأقمار الصناعية في مراقبة ملوحة البحار، حيث إنها تختلف من مكان لآخر، وهذا يسهم في معرفة مقدار تدفق مياه الأنهار إلى المحيطات، ومعرفة معدل ذوبان الجليد في المناطق القطبية، وأيضا كمية المياه التي تتبخر من البحار، كما أن هناك قمرا صناعيا مخصصا لقياس ارتفاع سطح البحر من مكان لآخر، والغرض هو فهم حركة تيارات البحر، ومراقبة مدى ارتفاع مستوى سطحه، وهو أمر أصبح يؤرق المدن الساحلية حول العالم.
وفي الدول التي يشيع فيها حدوث العواصف الترابية، تشكل مراقبة رطوبة التربة أهم عامل للتنبؤ بحدوث هذه العواصف، وتفيد كذلك في التنبؤ بحدوث الانهيارات الطينية المدمرة في حالة تشبع التربة بالرطوبة.
أما على مستوى قياس التغيرات التي تحدث في الكوكب نتيجة انبعاثات الكربون، فهناك أكثر من قمر صناعي تم إطلاقه لدراسة أماكن انبعاث الكربون وأماكن امتصاصه، ومعرفة ما هي أفضل الوسائل التي يمكن أن تتبعها الدول لخفض هذه الانبعاثات.
وقبل حوالي عقدين من الزمن أطلقت الولايات المتحدة بالتعاون مع ألمانيا زوجين من الأقمار الصناعية، كان الغرض العلمي لهما هو قياس التغيرات في مجال الجاذبية في كوكبنا؛ لأنه من المعلوم لدى المجتمع العلمي أن قوة الجاذبية تحددها الكتلة المولدة لها، لذلك كان قياس اختلاف الجاذبية مفتاحا مهما لمعرفة كيفية توزيع الكتل حول العالم وكيفية انتقالها من مكان لآخر على مدى السنين.
كشف الألغاز العلمية
وهناك الكثير من الإجابات العلمية التي أجابت عليها الأقمار الصناعية من الفضاء بعد أن شكلت لغزا محيرا لفترات طويلة، فمثلا، تمثل غابات الأمازون رئة كوكب الأرض بسبب خصوبتها الشديدة التي تحتضن ملايين الأنواع من النباتات، لكن الغريب هو أن تربة هذه الغابات لا تحتوي على عنصر غذائي مهم، وهو الفوسفور، فلم يكن معروفا من أين تحصل أشجار الأمازون على حاجتها منه، حتى أوجدت الأقمار الصناعية إجابة أكيدة وغير متوقعة، وهو أن الرياح تحمل سنويا ملايين الأطنان من غبار الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا الغني بالفوسفور لآلاف الكيلومترات وتلقيه في حوض الأمازون، لتتلخص الإجابة في أن أخصب بقعة على وجه الأرض تغذيها في الواقع أفقر بقعة عليها.
وفي بحث نشرته وكالة ناسا مؤخرا، وجدت فيه أنها استنتجت من خلال بيانات أرصاد الأرض المتراكمة منذ سبعينيات القرن الماضي أن هناك ظروفا جوية معينة تسبق انتشار أسراب الجراد المدمرة في شمال شرق أفريقيا، وهذا الاستنتاج يتيح معرفة موعد انتشار هذه الأسراب قبل مدة لا تقل عن ثلاثة أسابيع، وهي مدة كافية للقضاء على الأسراب في مهدها قبل انتشارها وتسببها في تدمير الغطاء النباتي لمساحات شاسعة.
ثمار اقتصادية
أما في الوقت الحالي وبعد أن تطورت الأقمار الصناعية وأصبحت هناك الكثير من الشركات التي توفر بياناتها أو تهتم بتحليل هذه البيانات، ظهرت استخدامات لا حصر لها تدر المليارات لأصحاب هذه الشركات، فمثلا، أطلقت إحدى الشركات حوالي 200 قمر صناعي صغير لتوفير تصوير متواصل لكامل كوكب الأرض كل يوم، وهذه البيانات الهائلة فتحت شهية المختصين في مجالات الأعمال والبيئة والأمن وغيرها على استخدامها واستثمارها. فمثلا، قامت إحدى الشركات بتوفير خدمة التأمين على البذور للمزارعين في إحدى الدول الأفريقية كي تعوضهم بقيمتها في حالة عانوا من نقص الأمطار خلال موسم الزراعة. كما أن هناك شركة أصبحت توفر خدمة لأصحاب الأحواض المائية لمراقبتها من الفضاء وإشعارهم بموعد تعقيمها في حالة وجود أي بوادر على ظهور الطحالب أو الملوثات فيها.
كل هذه الاستخدامات هي عينة بسيطة من أفق استخدام بيانات الأقمار الصناعية التي باتت أحد أكبر محركات الاقتصاد العالمي في العصر الحديث، التي من الواضح أنه لا يوجد سقف محدد لاستخداماتها وما يمكن أن توفره من حلول وأجوبة لمختلف مشاكل الكوكب وألغازه.
عيسى سالم آل الشيخ
مؤسس مبادرة ناسا بالعربية
عضو مجلس إدارة الجمعية الفلكية العمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأقمار الصناعیة من خلال
إقرأ أيضاً:
الصواريخ الإيرانية أصابت 5 قواعد عسكرية للاحتلال وتكتم على الأضرار
قالت صحيفة التلغراف البريطانية، أمس السبت، إن 5 منشآت عسكرية للاحتلال على الأقل، تعرضت لقصف مباشر من صواريخ إيرانية خلال الحرب التي استمرت 12 يوما.
وبناء على بيانات الرادار والأقمار الصناعية التي راجعها باحثون من جامعة ولاية أوريجون الأمريكية، أصابت ستة صواريخ إيرانية أهدافا عسكرية في شمال ووسط وجنوب فلسطين المحتلة.
وشملت المواقع المستهدفة قاعدة معسكر تسيبوريت قرب الناصرة، وقاعدة جليلوت، وقاعدة تل نوف الجوية، ومركزا لجمع المعلومات الاستخبارية، ومنشأة لوجستية رئيسية.
ولم يعلن الاحتلال عن هذه الضربات، ولا يمكن الإبلاغ عنها من الداخل بسبب قوانين الرقابة العسكرية الصارمة، لكن ستزيد هذه البيانات من تعقيد المعركة الكلامية بين الطرفين، حيث يسعى كل طرف إلى ادعاء النصر المطلق.
وقالت الصحيفة إن هذه الضربات على المنشآت العسكرية تضاف إلى 36 ضربة أخرى معروف أنها اخترقت أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، مما تسبب في أضرار جسيمة للبنية التحتية السكنية والصناعية.
تشمل الضربات الصاروخية الناجحة التي اعترف بها الاحتلال، سبع ضربات على مرافق النفط والطاقة، وتدمير جزء من معهد وايزمان، أحد مراكز البحث العلمي الرائدة لدى الاحتلال، وإلحاق أضرار جسيمة بالمركز الطبي لجامعة سوروكا، وهو مستشفى يقع بجوار جامعة بن غوريون في بئر السبع، وكذلك الضربات على سبع مناطق سكنية كثيفة البناء تركت أكثر من 15000 مستوطن بلا مأوى.
وبحسب تحليل للصحيفة، والتي قالت إنه على الرغم من اعتراض الغالبية العظمى من الصواريخ الإيرانية، إلا أن نسبة الصواريخ التي نجحت في الوصول إلى الهدف ازدادت باطراد خلال الأيام الثمانية الأولى من الحرب.
وقال الخبراء إن أسباب ذلك غير واضحة، ولكنها قد تشمل ترشيد مخزون محدود من الصواريخ الاعتراضية على جانب الاحتلال، وتحسين أساليب إطلاق الصواريخ، واحتمال استخدام إيران لنوعيات أكثر تطورا.
ولفتت إلى أن أنظمة الدفاع الجوي للاحتلال، كانت مدعومة طوال الحرب بمنظومتي دفاع صاروخي أمريكيتين أرضيتين من طراز "ثاد"، وصواريخ اعتراضية بحرية أطلقت من قواعد أمريكية في البحر الأحمر.
ويقدر أن الولايات المتحدة أطلقت ما لا يقل عن 36 صاروخا اعتراضيا من طراز "ثاد" خلال الحرب بتكلفة بلغت نحو 12 مليون دولار أمريكي لكل صاروخ.
وكان اختراق أنظمة الدفاع الصاروخي الشهيرة للاحتلال، بمثابة صدمة، حيث اضطر الجيش إلى إصدار إشعارات تحذر من أنها "ليست محكمة".
وصرح رافيف دراكر، أحد أشهر الصحفيين لدى الاحتلال، الأسبوع الماضي: "وقعت العديد من الضربات الصاروخية الإيرانية على قواعد الجيش، في مواقع استراتيجية لم ننشر عنها شيئا حتى اليوم.. لقد خلق ذلك حالة لا يدرك فيها الناس مدى دقة الإيرانيين وحجم الدمار الذي أحدثوه في أماكن عديدة".
ويظهر تحليل البيانات الذي أجرته الصحيفة أن أداء أنظمة الدفاع الأميركية والإسرائيلية المشتركة كان جيدا بشكل عام، ولكنها كانت تسمح بمرور نحو 16 بالمئة من الصواريخ بحلول اليوم السابع من الحرب.
وقال المسؤولون الإيرانيون إن الطريقة الرئيسية لاختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية كانت استخدام الصواريخ والطائرات المسيرة في آن واحد لإرباك أنظمة الدفاع.
يقول المسؤولون الإيرانيون إن الصواريخ السريعة الممزوجة بطائرات مسيرة أبطأ أربكت الدفاعات وجعلتها تشتت انتباهها.
وصرح مسؤول إيراني للصحيفة: "الهدف الرئيسي من إطلاق طائرات مسيرة انتحارية على إسرائيل هو دائما إبقاء أنظمتها مشغولة". وتابع: "العديد منها لا ينجح في اختراقها يتم اعتراضها ومع ذلك، فإنها تسبب ارتباكا".
ويرجح أن جزءا كبيرا من ترسانة الصواريخ الباليستية الإيرانية لا يزال سليما. وحتى وفقا للتقديرات الإسرائيلية، لم يدمر سوى نصف منصات إطلاقها خلال الحرب، ولا تزال هناك مخزونات كبيرة من الصواريخ.
وأكد اللواء علي فضلي نائب القائد العام للحرس الثوري أن "مدن" الصواريخ الجوفية لا تزال سليمة في إيران. وصرح يوم الخميس قائلا: "لم نفتح أبواب أي من مدننا الصاروخية بعد".
وتابع: "نقدر أنه حتى الآن لم يستخدم سوى حوالي 25 إلى 30 بالمئة من القدرة الصاروخية الحالية، وفي الوقت نفسه، تدعم دورة الإنتاج هذه القدرة التشغيلية بقوة".
من جهته قال مسؤول عسكري إسرائيلي يوم الخميس "إيران كان لديها نحو 400 منصة إطلاق، ودمرنا أكثر من 200 منها، مما تسبب في اختناق في عملياتها الصاروخية".
وأضاف: "قدرنا أن إيران كانت تمتلك ما بين 2000 و2500 صاروخ باليستي في بداية الحرب. ومع ذلك، فقد كانوا يتجهون بسرعة نحو استراتيجية الإنتاج الضخم، مما قد يؤدي إلى زيادة مخزونهم الصاروخي إلى 8000 أو حتى 20000 صاروخ في السنوات القليلة المقبلة".