التجربة التاريخية وبناء الأمم
تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT
لقد عُنيت الأمم بتاريخها القومي والوطني منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، سواءً في برامج التعليم بمختلف مستوياته، أو في مجالات المعارف الإنسانية بمختلف تخصصاتها، وكانت الدول الأوروبية أسبق في ذلك، منذ بدايات تكوين الدول القومية الحديثة مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، حينما كان التاريخ القومي بمثابة أحد أركان البنية الثقافية والمعرفية، سواء في المدارس والجامعات أو خارجهما.
التاريخ يقدم خبرة معرفية وإنسانية تُعين المواطن أيان كان عمله على تاريخ وطنه، ومكمن الخطر والصواب فيما لحق به من تجارب، وتساعده على أن يتسلح بخبرات تاريخية هائلة تمكنه من اختيار قراراته بطريقة صائبة، فضلًا عما تقدمه التجارب التاريخية من عبر ودروس لصانعي القرار، ويُلاحظ إن العناية بالتاريخ في عالمنا العربي قد تراجعت بشكل ملحوظ، سواء في المدارس أو الجامعات، أو في مختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية، وأصبحت تنطبق عليه المقولة الشهيرة (العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر)!
في كثير من الحالات اقتصرت المناهج التاريخية في عالمنا العربي على العناية بالتاريخ القُطّري بمعناه الضيق، وغاب الاهتمام بالتاريخ القومي العربي، وخصوصًا في شقه الثقافي والاجتماعي، مع أن في تاريخنا القومي ما يستحق الاهتمام والفخار، فكل الأعمال العربية الكبيرة تحققت في إطار العمل العربي المشترك، فأعمال الشعراء ومؤرخو الأدب والفكر وكل إنجازات البنائين الكبار في مختلف القضايا الثقافية والفكرية قد قرأها العرب في مختلف أوطانهم، ووحدت اللغة العربية شعورهم نحو الانتماء لمنجزات هذه اللغة أيان كان اسم كاتبها أو القطر الذي ينتمي إليه، وكل الهزائم والانكسارات التي ألمت بعالمنا العربي قد وقعت حينما تباعد العرب وانكفأ كل قطر على ذاته، وخصوصًا في تاريخنا المعاصر، حينما ألمت بنا الهزائم من كل صوب، ولم تتمكن أمتنا من اتخاذ سياسات موحدة وإجراءات عملية.
المناهج الدراسية التي تتناول تاريخ القضية الفلسطينية على سبيل المثال، أوشكت على أن تتخلص من تعريف الأبناء بهذه المأساة التاريخية، وإذا تم تناولها في بعض المناهج الدراسية فلا يُعنى بأسباب الهزيمة على المستويين السياسي والعسكري، ولم تقدم رؤية للمستقبل في سبيل استعادة الحقوق العربية، بينما الدرس المستفاد من القضية برمتها أن العرب لم ينسقوا فيما بينهم، ولم يتعاونوا بما يتناسب وأهمية القضية، وبينما العالم يمضي نحو مزيد من التعاون والشراكة والتنسيق، من خلال تجمعات سياسية واقتصادية وأمنية تستهدف بناء الأوطان وإسعاد البشر، والارتقاء بمستواهم الاجتماعي والثقافي، إلا أن العرب لم يستوعبوا الدرس بعد، ويعد ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي نموذجًا عمليًا.
لقد ارتضى حكامنا العرب أن يضاعفوا من قطريتهم، والانكفاء على ذواتهم، بينما كانت أمامهم فرص تاريخية على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ويبدو أن الشعوب العربية كانت حالمة أكثر بمستقبل أفضل، حينما تأسست الجامعة العربية في منتصف أربعينات القرن الماضي، والتي كانت أسبق كثيرًا من أي تجمعات أوروبية، وكانت هناك مشروعات اقتصادية وسياسية وثقافية وتعليمية، كان بالإمكان أن تحيل العرب إلى أمة تحتل مكانتها اللائقة بين الأمم، لكننا استبدلنا مصالحنا الحقيقية بأحلام لم تتحقق، فلا توجد أمة في العالم المعاصر خلّفت وراءها كل هذا التاريخ المشترك، وأدارت ظهرها إليه بقدر ما فعل العرب.
لا توجد أمة قد امتلكت كل المقومات الحقيقية لعمل نهضة عظيمة بقدر ما أُتيح للعرب من مقومات طبيعية وموارد مالية أفاء الله بها عليهم، وموقع جغرافي يتوسط العالم، وقوى بشرية كانت في حاجة إلى استثمارها، وثقافة عظيمة كان قوامها اللغة العربية، ورغم ذلك فقد اكتفينا بمشروعاتنا الضيقة ورؤيتنا القُطرية وسط عالم يمضي نحو الاندماج والتعاون، الذي يستهدف إعمار الأرض وشيوع المعارف لإسعاد الإنسان، لقد أسقطنا من حساباتنا تاريخًا حافلًا وثقافة عظيمة ومصالح مشتركة، واستبدلنا كل ذلك بسياسات أبعدتنا كثيرا عن تحقيق أهدافنا المشتركة.
المتابع للمشهد العربي يلحظ سباقًا هائلًا للتخلص من التاريخ المشترك، وكأنه حمل ثقيل، نود أن نلقيه وراء ظهورنا، وتعقدت علاقاتنا بعد أن حكمتها حسابات وصراعات شخصية، انعكست على مصالحنا القومية، لدرجة أننا لم نستطع ولو لمرة واحدة أن ندير واحدة من أزماتنا، بل رحنا نكيد لبعضنا، وأحلنا الجامعة العربية - بعد أن كانت أملنا الوحيد - إلى ساحة من الصراعات والتنافسات والعنتريات، التي أوشكت على ضياع الجامعة العربية، وتبديد كل آمالنا في التعاون والخاسر في كل الحالات هي الشعوب العربية، التي لا حول لها ولا قوة، ولم يبق بين العرب إلا لغة مشتركة مهددة بالانقراض، ربما مع نهايات القرن الحادي والعشرين، في ظل زحام وصخب هائلين، وسباقٍ على العناية باللغات الأجنبية في مدارسنا وجامعاتنا على حساب لغتنا العربية.
تمتلك أمتنا العربية رصيدًا ضخمًا من الخبرات الثقافية والاجتماعية والفكرية، ورغم ذلك فقد صرنا في مؤخرة الأمم في كل مناحي الحياة، وضاعف من مآسينا المصير الذي آلت إليه بعض أقطارنا العربية، من فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، وهي هزائم كارثية دفعت الشعوب ثمنها، ولم نستطع أن نجري حوارًا، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو من خلال الجامعة العربية التي فشلت في إدارة كل أزماتنا وكوارثنا، ولم يبق منها إلا مجرد بناية على نيل القاهرة، بعد أن ذهبنا في حل مشاكلنا إلى القوى الأوروبية والأمريكية، التي أربكت حياتنا وتسببت في المزيد من هزائمنا، وكانت مواقفها دائما ضد المصالح العربية، وضد الأهداف التي أنشئت الجامعة العربية من أجلها، وأعتقد أن ما ألمّ بنا من كوارث، كانت القوى الغربية دائما من ورائها، وكانت سببًا رئيسا لإرباك علاقتنا العربية العربية، ورغم ذلك فما زلنا نعلق آمالنا على القوى نفسها التي أفسدت حياتنا.
لعلنا في أمس الحاجة للتخلص من كل هذه السياسات الخاطئة، ونسترجع تاريخنا الحقيقي، من خلال سياسات جديدة تستعيد ذواتنا الثقافية وعروبة أوطاننا، لكي نرى المستقبل ونحن واثقون من الوقوف على أرض صلبة، لكي ننمي مجتمعاتنا ونحشد مواردنا نحو واقع يستهدف الإنسان العربي في كل مكان، رغبة في الانتماء شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية القادرة على الانطلاق نحو المستقبل، لعلنا نستطيع أن نستعيد ما فقدناه.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجامعة العربیة
إقرأ أيضاً:
الغرف العربية وروس كونغرس يوقّعان اتفاقية لتعزيز التعاون العربي- الروسي
كشف الدكتور خالد حنفي، أمين عام اتحاد الغرف العربية، خلال مشاركته في جلسة بعنوان: "التجارة الإلكترونية الوطنية: وضع قواعد جديدة"، ضمن فعاليات منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي الثامن والعشرين (SPIEF 2025)، الذي عقد بتنظيم من مؤسسة "روس كونجرس" وتحت رعاية وحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعدد من قادة ورؤساء دول العالم، خلال الفترة من 18 إلى 21 يونيو 2025 في سانت بطرسبرغ- روسيا، عن أنّه "من المتوقع أن تصل مبيعات التجارة الإلكترونية العالمية إلى 7.5 تريليون دولار بحلول عام 2025، مرتفعًا من 5.7 تريليون دولار أمريكي عام 2023.
وتشهد التجارة الالكترونية في المنطقة العربية نموًا سريعًا، حيث من المتوقع أن يصل حجم السوق إلى 50 مليار دولار بحلول عام 2025، بينما كانت تقُدّر قيمة سوق التجارة الإلكترونية بـ 49 مليار دولار أمريكي بنهاية عام 2022، مع زيادة كبيرة في اعتماد الدفع الرقمي حيث يُفضل 60% من المستهلكين الآن القنوات الرقمية للتسوق عبر الإنترنت، بزيادة قدرها 20 % منذ عام 2021.
وتُمثل دول مجلس التعاون الخليجي الست، ومصر 80 % من نشاط التجارة الإلكترونية في المنطقة العربية، مما يُبرز تركيزًا قد يُعيق المنافسة والابتكار بين الشركات الصغيرة".
ونوّه إلى أنّه "تقدّر قيمة سوق الذكاء الاصطناعي في التجارة الإلكترونية بـ 7.25 مليار دولار أمريكي عام 2024، ومن المتوقع أن تنمو إلى 9.01 مليار دولار أمريكي في عام 2025.
أما تقنية البلوك تشين فمن المتوقع أن ترتفع قيمتها من 17 مليار دولار أمريكي عام 2023 إلى أكثر من 943 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2032".
وختم بالقول، إنّ "هذا التحول يعيد تشكيل الصناعات، ويخلق فرصًا جديدة للنمو والتطوير لا سيما في مناطق مثل العالم العربي، حيث يتبنى القطاع الخاص الأدوات الرقمية لدفع عجلة التوسع الاقتصادي.
ومع ذلك يتطلب سد الفجوة الرقمية، وتعزيز الأطر التنظيمية، وتشجيع الابتكار في مختلف الصناعات، تضافر الجهود والتعاون من القطاعين العام والخاص. ولا شكّ أنّ المنطقة العربية التي تتمتع بسكانها الشباب، وانتشار الإنترنت المتزايد، وروح ريادة الأعمال، يمكنها الاستفادة من هذه التغييرات وقيادة دفّة هذه الثورة الرقمية".
والتقى أمين عام الاتحاد على هامش المنتدى مع محافظ سانت بيترسبرغ ألكسندر بلغوف، حيث جرى البحث في القضايا والمستجدات الراهنة على الساحة الدولية، وأهميّة تعزيز التعاون وبناء الشراكات الاستراتيجية بين روسيا والعالم العربي في ظل ما تتمتعان به من إمكانات ومقدرات طبيعية وبشرية.
وجرى بالتوازي مع انعقاد أعمال المنتدى، توقيع اتفاقية تعاون بين مؤسسة "روس كونغرس" وهي الجهة المنظمة لمنتدى سانت بطرسبرغ الدولي وتعدّ من المؤسسات التنموية ذات التوجه الاجتماعي، ومنظّم رئيسي للمؤتمرات والمعارض والفعاليات التجارية والعامة والشبابية والرياضية والثقافية على الصعيدين الوطني والدولي، ممثلة برئيسها ألكسندر ستوغليف، وبين "اتحاد الغرف العربية" الذي يعتبر الممثل الحقيقي للقطاع الخاص العربي، ممثلا بأمينه العام الدكتور خالد حنفي.
وأوضح الدكتور خالد حنفي، أنّ "مجالات التعاون الرئيسية من خلال الاتفاقية بين الطرفين تتمثل في تطوير منصات تواصل مشتركة على المستوى الدولي لتحفيز التفاعل بين الحكومات في مختلف المجالات.
بالإضافة إلى بذل الجهود لتعزيز روابط الشراكة القائمة، والسعي إلى بناء شراكات جديدة طويلة الأمد بين ممثلي مجتمعي الأعمال لدى الجانبين العربي والروسي. فضلا عن تسهيل دعم الحوار بشأن مسائل التعاون في قطاعي الاستثمار والتمويل، وأنشطة التصدير والاستيراد، وفي مجالي السياحة والتعاون الثقافي.
وكذلك الترويج العام للمواضيع المرتبطة بالفعاليات التي ينظمها الطرفان بهدف تعزيز التواصل بينهما".