لجريدة عمان:
2025-05-08@10:51:27 GMT

التجربة التاريخية وبناء الأمم

تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT

لقد عُنيت الأمم بتاريخها القومي والوطني منذ فترة مبكرة من التاريخ الحديث، سواءً في برامج التعليم بمختلف مستوياته، أو في مجالات المعارف الإنسانية بمختلف تخصصاتها، وكانت الدول الأوروبية أسبق في ذلك، منذ بدايات تكوين الدول القومية الحديثة مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، حينما كان التاريخ القومي بمثابة أحد أركان البنية الثقافية والمعرفية، سواء في المدارس والجامعات أو خارجهما.

فلم تكن العناية بالمعارف التاريخية ترفًا ثقافيًا، وإنما كانت أحد الوسائل المهمة لبعث ثقافة المواطنة، بما في ذلك الاعتزاز والفخار بما قدمه الآباء والأجداد تقديرًا لأوطان تستحق أن يترسخ تاريخها بين الأمم والشعوب الأخرى، هكذا فعلت الأمة الألمانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية ..إلخ.

التاريخ يقدم خبرة معرفية وإنسانية تُعين المواطن أيان كان عمله على تاريخ وطنه، ومكمن الخطر والصواب فيما لحق به من تجارب، وتساعده على أن يتسلح بخبرات تاريخية هائلة تمكنه من اختيار قراراته بطريقة صائبة، فضلًا عما تقدمه التجارب التاريخية من عبر ودروس لصانعي القرار، ويُلاحظ إن العناية بالتاريخ في عالمنا العربي قد تراجعت بشكل ملحوظ، سواء في المدارس أو الجامعات، أو في مختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية، وأصبحت تنطبق عليه المقولة الشهيرة (العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر)!

في كثير من الحالات اقتصرت المناهج التاريخية في عالمنا العربي على العناية بالتاريخ القُطّري بمعناه الضيق، وغاب الاهتمام بالتاريخ القومي العربي، وخصوصًا في شقه الثقافي والاجتماعي، مع أن في تاريخنا القومي ما يستحق الاهتمام والفخار، فكل الأعمال العربية الكبيرة تحققت في إطار العمل العربي المشترك، فأعمال الشعراء ومؤرخو الأدب والفكر وكل إنجازات البنائين الكبار في مختلف القضايا الثقافية والفكرية قد قرأها العرب في مختلف أوطانهم، ووحدت اللغة العربية شعورهم نحو الانتماء لمنجزات هذه اللغة أيان كان اسم كاتبها أو القطر الذي ينتمي إليه، وكل الهزائم والانكسارات التي ألمت بعالمنا العربي قد وقعت حينما تباعد العرب وانكفأ كل قطر على ذاته، وخصوصًا في تاريخنا المعاصر، حينما ألمت بنا الهزائم من كل صوب، ولم تتمكن أمتنا من اتخاذ سياسات موحدة وإجراءات عملية.

المناهج الدراسية التي تتناول تاريخ القضية الفلسطينية على سبيل المثال، أوشكت على أن تتخلص من تعريف الأبناء بهذه المأساة التاريخية، وإذا تم تناولها في بعض المناهج الدراسية فلا يُعنى بأسباب الهزيمة على المستويين السياسي والعسكري، ولم تقدم رؤية للمستقبل في سبيل استعادة الحقوق العربية، بينما الدرس المستفاد من القضية برمتها أن العرب لم ينسقوا فيما بينهم، ولم يتعاونوا بما يتناسب وأهمية القضية، وبينما العالم يمضي نحو مزيد من التعاون والشراكة والتنسيق، من خلال تجمعات سياسية واقتصادية وأمنية تستهدف بناء الأوطان وإسعاد البشر، والارتقاء بمستواهم الاجتماعي والثقافي، إلا أن العرب لم يستوعبوا الدرس بعد، ويعد ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي نموذجًا عمليًا.

لقد ارتضى حكامنا العرب أن يضاعفوا من قطريتهم، والانكفاء على ذواتهم، بينما كانت أمامهم فرص تاريخية على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ويبدو أن الشعوب العربية كانت حالمة أكثر بمستقبل أفضل، حينما تأسست الجامعة العربية في منتصف أربعينات القرن الماضي، والتي كانت أسبق كثيرًا من أي تجمعات أوروبية، وكانت هناك مشروعات اقتصادية وسياسية وثقافية وتعليمية، كان بالإمكان أن تحيل العرب إلى أمة تحتل مكانتها اللائقة بين الأمم، لكننا استبدلنا مصالحنا الحقيقية بأحلام لم تتحقق، فلا توجد أمة في العالم المعاصر خلّفت وراءها كل هذا التاريخ المشترك، وأدارت ظهرها إليه بقدر ما فعل العرب.

لا توجد أمة قد امتلكت كل المقومات الحقيقية لعمل نهضة عظيمة بقدر ما أُتيح للعرب من مقومات طبيعية وموارد مالية أفاء الله بها عليهم، وموقع جغرافي يتوسط العالم، وقوى بشرية كانت في حاجة إلى استثمارها، وثقافة عظيمة كان قوامها اللغة العربية، ورغم ذلك فقد اكتفينا بمشروعاتنا الضيقة ورؤيتنا القُطرية وسط عالم يمضي نحو الاندماج والتعاون، الذي يستهدف إعمار الأرض وشيوع المعارف لإسعاد الإنسان، لقد أسقطنا من حساباتنا تاريخًا حافلًا وثقافة عظيمة ومصالح مشتركة، واستبدلنا كل ذلك بسياسات أبعدتنا كثيرا عن تحقيق أهدافنا المشتركة.

المتابع للمشهد العربي يلحظ سباقًا هائلًا للتخلص من التاريخ المشترك، وكأنه حمل ثقيل، نود أن نلقيه وراء ظهورنا، وتعقدت علاقاتنا بعد أن حكمتها حسابات وصراعات شخصية، انعكست على مصالحنا القومية، لدرجة أننا لم نستطع ولو لمرة واحدة أن ندير واحدة من أزماتنا، بل رحنا نكيد لبعضنا، وأحلنا الجامعة العربية - بعد أن كانت أملنا الوحيد - إلى ساحة من الصراعات والتنافسات والعنتريات، التي أوشكت على ضياع الجامعة العربية، وتبديد كل آمالنا في التعاون والخاسر في كل الحالات هي الشعوب العربية، التي لا حول لها ولا قوة، ولم يبق بين العرب إلا لغة مشتركة مهددة بالانقراض، ربما مع نهايات القرن الحادي والعشرين، في ظل زحام وصخب هائلين، وسباقٍ على العناية باللغات الأجنبية في مدارسنا وجامعاتنا على حساب لغتنا العربية.

تمتلك أمتنا العربية رصيدًا ضخمًا من الخبرات الثقافية والاجتماعية والفكرية، ورغم ذلك فقد صرنا في مؤخرة الأمم في كل مناحي الحياة، وضاعف من مآسينا المصير الذي آلت إليه بعض أقطارنا العربية، من فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، وهي هزائم كارثية دفعت الشعوب ثمنها، ولم نستطع أن نجري حوارًا، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو من خلال الجامعة العربية التي فشلت في إدارة كل أزماتنا وكوارثنا، ولم يبق منها إلا مجرد بناية على نيل القاهرة، بعد أن ذهبنا في حل مشاكلنا إلى القوى الأوروبية والأمريكية، التي أربكت حياتنا وتسببت في المزيد من هزائمنا، وكانت مواقفها دائما ضد المصالح العربية، وضد الأهداف التي أنشئت الجامعة العربية من أجلها، وأعتقد أن ما ألمّ بنا من كوارث، كانت القوى الغربية دائما من ورائها، وكانت سببًا رئيسا لإرباك علاقتنا العربية العربية، ورغم ذلك فما زلنا نعلق آمالنا على القوى نفسها التي أفسدت حياتنا.

لعلنا في أمس الحاجة للتخلص من كل هذه السياسات الخاطئة، ونسترجع تاريخنا الحقيقي، من خلال سياسات جديدة تستعيد ذواتنا الثقافية وعروبة أوطاننا، لكي نرى المستقبل ونحن واثقون من الوقوف على أرض صلبة، لكي ننمي مجتمعاتنا ونحشد مواردنا نحو واقع يستهدف الإنسان العربي في كل مكان، رغبة في الانتماء شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية القادرة على الانطلاق نحو المستقبل، لعلنا نستطيع أن نستعيد ما فقدناه.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية سابقا ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية سابقا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجامعة العربیة

إقرأ أيضاً:

السفير ماجد عبد الفتاح: الجامعة العربية ترفض أي إدارة خارجية للأراضي الفلسطينية

أكد السفير ماجد عبد الفتاح، رئيس بعثة جامعة الدول العربية لدى الأمم المتحدة، أن الجامعة العربية ترفض أي قرارات تُتخذ لحكم دولة فلسطين أو أي جزء من أراضيها من خارج السلطة الفلسطينية الشرعية، موضحًا أن هذا الموقف يأتي في ظل محاولات متكررة لتهميش السلطة الفلسطينية، حيث أعلن بعض الأطراف رفضهم لكل من حماس والسلطة الفلسطينية، في تحركات وصفها بأنها مدفوعة من الجانب الإسرائيلي، مؤكدًا ضرورة التصدي الحازم لهذه المحاولات.

ضياء رشوان: فلسطين القضية المركزية لنا.. وطوفان الأقصى أيقظ الوعي العربيفلسطين تدعو إلى الضغط على إسرائيل لإنهاء المجاعة المتعمدة في غزة

وشدد «عبدالفتاح»، خلال مداخلة  عبر شاشة «القاهرة الإخبارية»، على أن الجامعة العربية، بالتنسيق مع عدد من الدول العربية، نقلت تحذيراتها للجانب الأمريكي من خلال القنوات الدبلوماسية والسفارات في واشنطن، بشأن خطورة هذه الطروحات، رغم أنها لا تُطرح رسميًا داخل أروقة الأمم المتحدة، موضحًا أن الجامعة العربية ترفض ما تردد بشأن خطط لتوصيل المساعدات إلى الفلسطينيين من خلال الجيش الإسرائيلي أو شركات أمريكية، وأن هذه التوجهات مرفوضة من الجامعة ومن كافة الدول العربية.

وتابع: «الأمم المتحدة تمتلك آلية فاعلة تتمثل في وكالة «الأونروا»، وهي الجهة الوحيدة المخولة بتنفيذ مهام توزيع المساعدات، وتحظى بدعم أكثر من 100 دولة في الأمم المتحدة من خلال الدعم المالي واللوجستي»، مشيرًا إلى أن الحديث عن بدائل للأونروا غير مقبول على الإطلاق، خاصة في ظل استمرار القضية المعروضة بشأنها أمام محكمة العدل الدولية.

طباعة شارك جامعة الدول العربية الأمم المتحدة فلسطين

مقالات مشابهة

  • السفير ماجد عبد الفتاح: الجامعة العربية ترفض أي إدارة خارجية للأراضي الفلسطينية
  • هل يجب على المسلمين غير العرب تعلم اللغة العربية؟.. علي جمعة يُجيب
  • منتخب شباب اليد يهزم العراق في افتتاح مبارياته في البطولة العربية بالكويت
  • شباب اليد يهزم العراق في افتتاح مبارايته في البطولة العربية بالكويت
  • شباب اليد يفتتح مشواره في البطولة العربية اليوم بمواجهة العراق
  • الثقافة العربية بالترجمات الهندية.. مكتبة كتارا تفتح جسرا جديدا للأدب العربي
  • المكاسب التي سيحققها العراق من عقد القمة العربية في بغداد
  • بإشراف وزارة التربية والتعليم وبرعاية بنك الشمول للتمويل الأصغر الإسلامي .. تكريم أبطال العرب الفائزين في البطولة العربية للروبوت _ تونس 2025
  • اختتام أعمال مؤتمر الخليج العربي بجامعة هارفارد
  • منتخب شباب اليد يعلن الطوارئ استعدادا لضربة البداية في البطولة العربية