النظام الفاتر والنظام النامي
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
جاء في «لسان العرب» لابن منظور: (النَّظْم: التأليف.. وكل شيء قرنتَه بآخر أو ضممتَ بعضه إلى بعض فقد نظمته. والانتظام: الاتِّساق. ونظام كل أمر: مِلاكه. والجمع.. أنظمة وأناظيم)، هذا المعنى اللغوي.. استعمل في الحقل الأدبي ليدل على نوع من الشعر، يهتم غالبا بنظم فن من العلوم، أطلق عليه: منظومة، والجمع: مناظيم، (ومنه نظمت الشعر ونظّمته).
«النظام».. تطور من معنى (مِلاك الأمر) إلى مصطلح يعني آلية عمل مؤسسي لمجموعة عناصر منسجمة ومتكاملة لتسيير قطاع من الحياة، لأجل تحقيق أهداف مقصودة، هذه العناصر تقوم على رؤية واضحة ومنطق محدد وقيم إنتاج. فهناك الأنظمة: السياسية والاجتماعية والحيوية والفيزيائية والوظيفية.. إلخ، ولذلك؛ اتخذ النظام تعريفه بحسب العلم الذي يستعمله، بيد أن التعريفات تتفق على أنه مجموعة العناصر المتسقة التي تعمل معاً بشكل علمي، بحيث إن كل عنصر يقوم بعمله محركا العناصر الأخرى، ولو أن عنصراً تخلّف عن القيام بدوره لأي سبب كان؛ فلا يُعدّ جزءاً من النظام، وكذلك؛ لو اكتشف أن ضمّه كان خطأً أو وهماً، فعُدِّل وصف النظام؛ بحيث لا يصبح ذلك العنصر من مكوناته. فلو فرضنا أن نظاماً ما يقوم في تشغيله وإدارته على الخبرة، ثم تحوّل إلى اعتماد الانتخاب، فالخبرة لن تعتبر من عناصره، رغم أن بعض المنتخَبين قد يكونون خبراء، اللهم إلا إن كان الانتخاب من ذوي الخبرة فقط، فيكون عنصرا الخبرة والانتخاب من مكونات هذا النظام.
النظام.. قرين المنطق، فإن كان المنطق هو الإطار النظري لعلم ما؛ فإن النظام هو الإطار العملي لتحويل ذلك العلم إلى مؤسسة انتاج. فالطب -مثلاً- له منطقه، ولا يتحول إلى مؤسسة صحية إلا في ظل نظام علمي. وإذا كان المنطق تحكمه قواعد كلية وقوانين تفصيلية؛ فإن النظام تحكمه البيروقراطية، وكما لا يجوز للمنطق الخروج على قواعد العلم وقوانينه؛ كذلك لا يسمح النظام خروجَ مقطوراته عن سكة البيروقراطية.
لقد تكلمت عن البيروقراطية في مقالي «ما بعد البيروقراطية.. وضرورة التحوّل الإداري» [جريدة «عمان»، 27/ 9/ 2021م]، وقلت: (على الجهاز الإداري أن يتجاوز برتوكولات البيروقراطية المعتادة، بل عليه أن يتجاوزها بأسرها؛ بما في ذلك اسمها، وأن يطويها بيد الشكر، ويرفعها في تأريخ الأنظمة التي تعاقب الإنسان على الاستفادة منها، وأن يعلن بأنه اعتمد نظام «ما بعد البيروقراطية»). ورغم صعوبة التحول عن البيروقراطية في أنظمتنا؛ فإن الزمن سيفرض تحولاته «ما بعد البيروقراطية»؛ باتجاه أدوات جديدة تسيّر الأنظمة، وهذا لا يعني أن هذه الأدوات ستلغي سلسلة عمل النظام، بل ستبقى؛ ولكن بطرق تتلاءم مع متطلبات الحياة الجديدة، وهذا التطور هو قاعدة مطردة في أنظمة الحياة، بما في ذلك العلوم ومنطقها ومناهجها، التي تشهد تحولاً بحسب التقدم في المكتشفات فيها، وإعادة صياغة قواعدها وقوانينها.
وبعد؛ فلنأتِ إلى النظام الفاتر والنظام النامي.
النظام الفاتر.. كيان ذو رؤية محددة ونسق إجرائي صارم وآليات تنفيذ متسلسلة ومعهودة. الرؤية فيه غير قابلة للتطور، فهو مغلق يرفض أن تزاحمه أية رؤية أخرى، ولو كانت أفضل وتدفع به إلى الأمام. ولديه في ذلك تبرير بأنه هو الأصلح للمجتمع، وقد أثبت جدواه منذ إنشائه، وطالما أنه صالح للخدمة فلماذا نطوّره! وأن المجتمع يرفض أي نظام بديل عنه، وربما يثور ويدخل في فوضى، والبديل غير مجرَّب مما قد يجلب مساوئه للمجتمع. وقد تشتد المعارضة في تغيير رؤية هذا النظام من داخله أكثر من المجتمع، لأنه بمرور الأيام يكون هدفه البقاء، وليس تقدّم المجتمع وتحقيق مصالحه، بل أن رؤيته قد تُنسى؛ فيصبح عمله ميكانيكياً، وتظهر لرؤيته -دون أن تتغير- تبريرات تتناسب مع تحولات الحياة، لكي يحافظ على وجوده، وتغدو الوسائل فيه غايات والشكليات جوهريات.
النظام الفاتر.. رتيب، ومريح للعاملين فيه، غير أنه لا يطوّر من خبراتهم، ولا ينهض بقدراتهم، ولا يفتح آفاق العمل أمامهم. وهو بانغلاقه قد يمنع دخول بعض سلبيات الأنظمة الأخرى إلى المجتمع، ولكنه أيضاً يمنع الاستفادة من إيجابياتها. وهذا النظام يصاب بالجمود، ويصبح غير قابل للتغيّر بسهولة، كالأنظمة القبلية والدينية والعرقية، تليها الأنظمة السياسية المستبدة، ثم الأنظمة الاقتصادية الموجَهة.
وهو نظام.. مَن ينتسب إليه ليس بمقدوره إلا أن يعمل تحت آلياته الصارمة، بل النظام -كما قلت- لا يقبل أن ينتسب إليه صاحب رؤية؛ مهما بدت أنها ستفعّل عملَ النظام وتخدم المجتمع، لأن النظام لا يرى المجتمع إلا من خلاله. والأكثر من ذلك؛ أن المجتمع قد لا يرى نفسه إلا من خلال النظام الذي يهيمن عليه، وهذا يتضح في المجتمعات التي تسودها الأنظمة الجامدة؛ سواءً أكانت سياسية أم قبلية أم دينية.
إن النظام الفاتر لن تتركه تحولات الحياة على انغلاقه، فإن لم ينفتح ستتجاوزه الأيام، وستأتي عليه ساعة الصفر التي ينهار فيها؛ فيدخل المجتمع في فوضى، قد يحتاج مدة طويلة حتى يستعيد استقراره في ظل أنظمة أكثر حيوية وانفتاحاً. لكن الانهيار قد لا يكون سريعاً، فقد يتمكن النظام من ترميم نفسه لإطالة أمده، دون أن يستطيع التقدم نحو وضع أفضل، فضلا عن منافسته للأنظمة النامية.
أما النظام النامي.. فلديه كفاءة في استقطاب مختلف الرؤى وتفعيلها، بحيث إن كل رؤية هي إضافة له، ويحرر منتسبيه من كونهم أدوات إجرائية ليصبحوا عقولاً مفكِّرة. والمجتمع.. الذي يسوده هذا النظام مجتمع ديناميكي حر، يطوّر من وعيه بالحياة، ويسهم في تنمية أفراده. وهذا النظام.. لا يعني أنه هلامي لا تحكمه آليات عمل، أو لا يملك رؤية محددة، فلو أنه كذلك لما كان من الأساس نظاماً، بل الرؤية لديه واضحة ويتطور بوعي، ويؤكد على الالتزام بالقيم الأخلاقية. والرؤى الجديدة التي تتحصل لديه من منتسبيه؛ تستنير بها رؤيته.
النظام النامي.. يتحلى بأمرين:
- القدرة الذكية على اجتذاب أصحاب الرؤى الفاعلة والملهمة، فهو مهيأ بالأساس للتطور ويزعجه الجمود، ودرجة قلقه من التغيير ضعيفة. بل لديه قرون استشعار يبصر بها القدرات التي تضيف إلى فاعليته، ولا تحجبه عنها المصالح الذاتية لمنتسبيه، لأن لديه حساسية مفرطة من وجود مصالح ذاتية قد تصيبه بالفتور.
- القدرة على تفعيل آليات عمله بتجدد رؤيته، وهو بجوهره قادر أن يفكر بأدوات متطلعة للمستقبل، غير مكبلة بقيود الماضي، وهذا فارق جوهري بين النظامين، فالنظام الفاتر.. ينظر لأمجاد الماضي، والنظام النامي.. ينظر لصناعة المستقبل.
ومع ذلك؛ على الأنظمة النامية أن تحذر من النزق نتيجة حماس بعض منتسبيها، فيجعلون النظام مشاعاً لكل رأي فطير أو تغيير من دون تقدير، فالنظام النامي.. ينبغي أن يتخمّر الرأي لديه حتى يصبح رؤية ناضجة ليسير عليها، لا أن تقفز به الآراء في عماء الفراغ.
على المجتمعات الذكية ألا تنفتح أنظمتها الفاترة فجأة، فالأنظمة فجائية الانفتاح سرعان ما تنهار، فهي واقعاً ليست بأنظمة، بل تعيش مرحلة مراهقة تكثر فيها أحلام اليقظة. والمجتمع الذكي.. لا تحبسه الأنظمة الفاترة في الماضي، وإنما يبني أنظمة نامية بالمعنى القيمي البنّاء، ويحذر كذلك من الأنظمة المغامرة التي تجر على المجتمع الويلات.
ختاماً.. النظام النامي هو الأنسب للتحولات التي تحدثها الحياة باستمرار؛ لاسيما في العصر الرقمي، فهو إن ظهرت به عيوب، أو أحدث ضجة في المجتمع، قادر على معالجتها حتى يستقر، كما أنه يراقب نفسه من الانغلاق والانفتاح غير المدروس على حدٍ سواء، ولديه رؤى وآليات كفيلة بالحفاظ على مبادئه العليا وقيمه الأخلاقية، وإمداد منتسبيه بروح يجعل رؤيتهم متقدة ومتطورة باستمرار
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا النظام نظام م
إقرأ أيضاً:
«رؤية عُمان 2040» ... الهوية الثقافية والإبداعية
كانت الأيام التي قضيتها فـي عُمان جميلة، وهو البلد الذي يحظى بزياراتي المتعددة خلال العام الواحد؛ لما له ولأهله من مكانة كبيرة بدأت منذ أول زيارة عام 2014 كناشر، فتحولت إلى علاقة حميمة وجدانية مع الأصدقاء والأهل، لتتوج فـي حصولي على درجة الدكتوراة من أهم جامعاتها، جامعة السلطان قابوس العريقة والمتقدمة أكاديميا عبر تصنيفات عربية وعالمية. فكانت زيارتي مؤخرا استكمالا لهذه المحبة، وستستمر بإذن الله، حيث قدمت حلقة عمل ضمن فعاليات معرض مسقط الدولي للكتاب تحت عنوان «تجويد كتابة القصة القصيرة» بدعوة من اللجنة الثقافـية للمعرض حيث الحفاوة والضيافة والتنسيق والاهتمام الذي برهن على القدرة العالية والنشطة والاحترافـية للقائمين على الأنشطة والمعرض، بما يمكنهم من إقامة فعاليات ثقافـية عالمية على مدار العام. وهذا يؤكد على تحوّل الفعل الثقافـي باعتماد الثقافة موردا رئيسا فـي تنمية الإنسان فـي سلطنة عمان، وإذ تؤكد «رؤية عمان 2040» على بناء مجتمعٍ يفخر بهويته وثقافته ويعمل على صون تراثه وتعزيزه فمن أهداف الرؤية دعم المعرفة والإبداع فـي المجتمع وتعزيز الاستثمار المستدام فـي التراث والثقافة والفنون كركائز للتنمية الاقتصادية الوطنية، حيث ترتبط هذه الأهداف بتعميق الوعي بالهوية الوطنية والإرث الحضاري فـي المناهج ووسائل الإعلام؛ إذ تهدف إلى تكوين مجتمع مبدع قادر على استثمار معارفه وثقافته فـي دفع التنمية.
ففـي قطاع الفنون والآداب، تشمل توجهات الرؤية دعم القطاع الثقافـي والإبداعي عبر رعاية الفنون والإعلام والثقافة. وفـي إطار الاستراتيجية الوطنية للثقافة، أُطلق مشروع «المختبرات الثقافـية العمانية» فـي فترة المعرض- الذي يهدف إلى تقديم موروث سلطنة عمان الزاخر بالطاقات الوطنية عبر معارض وبحوث ومنتديات، ويسعى إلى تعزيز الهوية العمانية عالميا من خلال التعاون بين المؤسسات الحكومية والخاصة. كما تتضمن المبادرات إنشاء مرافق فنية جديدة؛ فمثلا تم الإعلان عن مشاريع مثل «مدينة الأفلام» لدعم صناعة السينما المحلية و«متنزه إبداع» لعرض المنتجات الثقافـية العمانية. وتستهدف هذه المشاريع جذب المواهب الشابة والمستثمرين فـي مجالات الأدب والفنون عبر توفـير بنية أساسية متخصصة ومعارض دورية وفرص للشراكة الدولية، بما يعزز الشراكة الثقافـية بين الجميع، وانحسار مساحة الجزر الثقافـية.
وفـي قطاع التراث، تضع الرؤية الحفاظ على التراث الثقافـي المادي وغير المادي نصب عينيها من خلال تبنّي سياسات صون وترميم للمعالم التاريخية. فقد ركزت على ضرورة الحفاظ على الهوية العمانية من خلال ترميم القلاع والحصون وتحويلها إلى مواقع ثقافـية وسياحية جذابة. وضمن خطة التنمية السياحية والثقافـية، تم طرح الفرص الاستثمارية لإحياء هذه المواقع وتحويلها إلى مراكز ثقافـية تخدم المجتمع والزوار؛ انسجاما مع التوجهات الوطنية لصون التراث العماني المتعدد على امتداد رقعة السلطنة وتعزيزه دوليا. بالإضافة إلى ذلك، تدعم الحكومة إنشاء متاحف ومدارس للفنون والحرف التقليدية، وإقامة مهرجانات أدبية وفنية لتعزيز التعبير الثقافـي وإثراء المشهد الثقافـي العماني.
وفـيما تعلق بالصناعات الإبداعية، اعتُبرت هذه الصناعات من القطاعات المحورية فـي تنويع الاقتصاد. إذ أطلقت الحكومة برنامجًا وطنيًّا لتطوير هذه الصناعات (تحت مظلة برنامج «نَزْدَهِر» للاستثمار والتصدير) شمل وضع خريطة طريق واستراتيجيات لتعزيز هذا القطاع، وقد أعلنت وزارة التجارة والصناعة عن استشارة عالمية لصياغة استراتيجية قطاع الصناعات الثقافـية والإبداعية وضوابطه الاستثمارية، بهدف جذب الاستثمارات إلى هذا القطاع الجديد، كما نظّمت حلقة عمل وطنية بالشراكة بين وزارة الثقافة والرياضة والشباب وهيئات الاستثمار لتحديد الفرص والقدرات الرئيسية، ما أثمر إطلاق مشاريع كبرى (مثلا: «مدينة أفلام» و«إبداع بارك» وغيرها)، وفرص استثمارية جديدة فـي مختلف أنحاء سلطنة عمان، وتعتمد هذه البرامج على تعزيز شراكات مثمرة بين القطاعين العام والخاص والمؤسسات الثقافـية لتحفـيز الإبداع وتشغيل الطاقات الوطنية فـي الإنتاج الفني والأدبي.
وبتكامل هذه الخطوات، تبرز «رؤية عُمان 2040» كداعمٍ قوي للثقافة والإبداع، من خلال تحقيق مجموعة من المبادرات القطاعية التي تحفز الفنون والآداب، تحمي التراث، وتطلق العنان للصناعات الإبداعية كمحرك مهم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لا تنحصر بفعاليات عام معين أو دورة أو خطة سنوية، وإنما هي مسيرة مكملة، ستحقق ريادتها فـي المنطقة على مختلف القطاعات الثقافـية، العلمية والرياضة.
المصادر:
بيانات رسمية عن «رؤية عُمان 2040»،
وبيانات وزارة الثقافة والرياضة والشباب ووسائل الإعلام العمانية حول مبادرات القطاع الثقافـي.
د.فهد الهندال كاتب وناشر وناقد كويتي