العودة إلى القيم
القيم إذن هي الفضائل التي يعتمدها النسق المعياري العام للمجتمع، والأخلاق هي التسامي إلى أعلى درجات هذا السلم القيمي.
القيم هي التي تمكّن البشرَ من التواصل العمومي الحقيقي وتتيح للإنسان الخروجَ من ذاتيته المغلقة، وليست بالتالي طريقاً للتعصب أو الجمود.
أدرك الأصوليون هذا المنحى في القيم الشرعية من خلال أطروحة مقاصد الشريعة التي اعتبر الشاطبي أنها مشتركة بين الملل والأديان، أي أنها إنسانية كونية.
المدونة الأخلاقية التراثية تتمحور حول ثلاث مفاهيم محورية: الآداب والفضائل والمكارم، وتدور حول التسامي والترقي في السلوك والعمل، بدل معايير الفعل القابلة للتعميم الكوني.
اعتبر جوناس أن القيم لا بد أن تستند إلى مرجعية دينية متعالية، ويمكن لهذا التعالي أن يأخذ أشكالا متعددة، من التعلق العاطفي والمحبة الصافية إلى الانقياد الطوعي والرضى النفسي.
رأي مستشرقون غربيون أن الشريعة الإسلامية لا تتضمن منظومةً أخلاقية لكن الحقيقة أن تصورها الأخلاقي يختلف عن فكرة المعايير الذاتية المجردة والكونية التي ترى القيم قوانين ملزمة.
* * *
تتردد مقولةُ «القيم» على كل الألسن، البعض يتحدث عن منظومة القيم الاجتماعية على غرار علماء الاجتماع، والبعض الآخر يتحدث عن القيم الدينية.. وقد أصبح «حلف القيم» محوراً لعمل منظمة اليونسكو.
وفي السياق العربي الإسلامي، برزت مبادرة منتدى أبوظبي للسلم الذي يرأسه العلامة الشيخ عبد الله بن بية وترعاه دولة الإمارات العربية المتحدة حول حلف الفضول الجديد الذي هو حلف فضائل وقيم عالمي.
ومع أن مفهوم القيمة ظهر في الأصل في الحقل الاقتصادي، فإنه دخل في التفكير الفلسفي على يد «نتشه» خلال بلورته لمنهج الجينالوجيا الذي يحلل أصول القيم وقيمة الأصول، من منظور نقدي لا يرى في التقويمات الأخلاقية سوى مظهر من مظاهر قوة الضعفاء والعبيد.
وقد كاد مفهوم القيم يختفي في الفلسفة المعاصرة، منذ أن أصبح المسلك التفكيكي غالباً عليها، إلى حد أنها توزعت إلى مسلكين: نتشوي جينالوجي ينظر للمسألة الخُلُقية من زاوية الغرائز الحيوية؛ وليبرالي يستبدل القيم بالقانون المدني ويعوض الخيرَ بالعدل. ومن الاستثناءات النادرة أطروحة الفيلسوف الألماني هانس جوناس في كتابه «كيف تنشأ القيم؟» الذي صدرت ترجمته الفرنسية مؤخراً.
في هذا الكتاب يرى جوناس أن مسألة الغيرية التي هي محور التفكير الفلسفي الراهن، تقتضي التصورَ الموضوعي للقيم، أي اعتقاد استقلالها عن الذات وعن المواقف النفسية الفردية والجماعية، والنظر إليها من حيث هي مطلقات كونية تتعالى على التاريخ والسياقات الاجتماعية.
ومن هنا اعتبر جوناس أن القيم لا بد أن تستند إلى مرجعية دينية متعالية، ويمكن لهذا التعالي أن يأخذ أشكالا متعددة، من التعلق العاطفي والمحبة الصافية إلى الانقياد الطوعي والرضى النفسي، بما يعني أن القيم هي التي تمكّن البشرَ من التواصل العمومي الحقيقي وتتيح للإنسان الخروجَ من ذاتيته المغلقة، وليست بالتالي طريقاً للتعصب أو الجمود.
في معجمنا العربي، لا نجد مكاناً للقيم بالمفهوم المعاصر، بل أن المدونة الأخلاقية التراثية تتمحور حول ثلاث مفاهيم محورية هي: الآداب والفضائل والمكارم، وكلها تدور حول معنى التسامي والترقي في السلوك والعمل، بدل معايير الفعل القابلة للتعميم الكوني كما هو تصور كانط للمسألة الأخلاقية.
ومن هنا يمكن القول إن ما نعنيه حالياً بالقيم هو نظام السلوك المتبع اجتماعياً، أي الفضائل العامة التي لا تستند بالضرورة لمرجعية دينية، حتى لو كان الشرع اعتمدها لاحقاً، كما يستشف من الحديث الشريف «إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق».
وعلى هذا الأساس كان اعتماد «حلف الفضول» السابق على الرسالة المحمدية، بالرجوع إلى مقاصده ومراميه الثابتة. وإذا كان الكثير من المستشرقين الغربيين يرى أن الشريعة الإسلامية لا تتضمن منظومةً أخلاقية (وهو رأي الفيلسوف الألماني هيغل)، فالحقيقة أن تصورها الأخلاقي يختلف عن فكرة المعايير الذاتية المجردة والكونية التي لا ترى في القيم سوى قوانين ملزمة.
وقد حاول الفقيه الأزهري المرحوم محمد عبد الله دراز في كتابه الشهير «دستور الأخلاق في القرآن الكريم» تأصيل أخلاق الواجب الكانطية من منظور إسلامي، إلا أنه لم يدرك أن مساحة التشريع السلوكي في الإسلام لم تتجاوز الحدود القصوى في الفعل وفق سلم متدرج من المنع إلى الوجوب مروراً بالكراهية والترغيب، مما حدا بالإمام أبي حامد الغزالي إلى اعتبار الفقه علماً من علوم الدنيا غرضه منع الظلم وضمان الحقوق.
القيم إذن هي الفضائل التي يعتمدها النسق المعياري العام للمجتمع، والأخلاق هي التسامي إلى أعلى درجات هذا السلم القيمي. ولقد أدرك الأصوليون هذا المنحى في القيم الشرعية من خلال أطروحة مقاصد الشريعة التي اعتبر الشاطبي أنها مشتركة بين الملل والأديان، أي أنها إنسانية كونية.
ومع أن الفكر الغربي تخلى عن نظرية الفضائل الأرسطية منذ عصور الحداثة، فإن العديد من المقاربات الفلسفية الراهنة أعادت الاعتبار لهذه النظرية باعتبار أن قوانين الواجب لا يمكن أن تغني عن ما سماه بول ريكور «القصدية الأتيقية» التي هي مصدر التقويمات الجوهرية أي تحديد معايير الخير والعدل.
ما نخلص إليه هو أن القيم لا تكون إلا كونية، ومن ثم خطورة وعقم كل المقاربات النسبية للقيم من منطلق التعددية الثقافية والعقدية أو من منظور التفكيك النقدي. وهكذا يمكن القول إن الحوار المطلوب مع الثقافات الأخرى لن يكون بالضرورة إلا في نطاق هذه القيم الكونية.
*د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني
المصدر | الاتحادالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: القيم الأخلاق الفكر الغربي القيم الدينية الشريعة الإسلامية
إقرأ أيضاً:
بنك قناة السويس يقود صكوك متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية بـ5.8 مليار جنيه
أعلن بنك قناة السويس عن إتمام إصدارين ناجحين من صكوك التمويل المتوافقة مع أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، بقيمة إجمالية بلغت نحو 5.8 مليار جنيه، حيث تولى البنك دوري «ضامن التغطية» و«وكيل السداد» في كلا الإصدارين، ويأتي ذلك في إطار استراتيجيته الهادفة إلى التوسع في الأنشطة الاستثمارية وتعزيز حضوره في مجال أدوات التمويل الإسلامي.
يشمل الإصدار الأول «صكوك مضاربة بقيمة 3 مليار جنيه لصالح شركة أمان لتمويل المشروعات»، ويهدف هذا الإصدار إلى تمويل محفظة التمويل المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية الخاصة بالشركة، ويمثل خطوة في دعم التوجه نحو تمويل المشروعات ذات الأثر التنموي والاقتصادي، خاصةً في قطاع التمويل الصغير والمتناهي الصغر، الذي يُعد من الركائز الأساسية لتحقيق الشمول المالي ودعم النمو الاقتصادي المستدام.
بينما يشمل الإصدار الثاني «صكوك بصيغة المشاركة بقيمة 2.8 مليار جنيه لتمويل مشروع باب مصر»، وهو مشروع تطوره شركة باب مصر للتطوير العمراني، التابعة بالكامل لشركة حسن علام للإنشاءات. ويُعد هذا الإصدار هو أول إصدار لصكوك من نوعه بصيغة المشاركة، ويستهدف تمويل تطوير منطقة استراتيجية تضم 17 مبنى متعدد الاستخدامات (تجارية، إدارية، سكنية، طبية)، إلى جانب مرافق خدمية ومبانٍ مخصصة لانتظار السيارات، بما يسهم في إعادة إحياء منطقة محطة قطارات صعيد مصر، أكبر محطة سكك حديدية في مصر، وتطويرها عمرانياً واستثمارياً.
وفي هذا السياق، قال عاكف المغربي، الرئيس التنفيذي والعضو المُنتدب لبنك قناة السويس، أن نجاح هذه الإصدارات يعكس استراتيجية البنك لتنويع خدماته المالية والاستثمارية، حيث يقدّم بنك قناة السويس باقة متكاملة من خدمات أدوات الدين تشمل: ترويج وتغطية الاكتتاب، وكالة السداد، أمين الحفظ، متلقي الاكتتاب، وضمان التغطية، إلى جانب تقديم خدمات استشارية وهيكلية، ما يعزّز من قدرته على تلبية مختلف الاحتياجات التمويلية للمشروعات.
وأشار المغربي إلى أنه منذ حصول بنك قناة السويس على رخصة الترويج وتغطية الاكتتاب، شارك البنك في عدد كبير من الإصدارات الناجحة في قطاعات استراتيجية متنوعة مثل التعليم، التمويل الاستهلاكي والعقاري، التمويل متناهي الصغر، التنمية العمرانية، والتنمية الاجتماعية. وخلال عام 2024 فقط، شارك البنك في 12 إصدارًا بقيمة إجمالية 12.1 مليار جنيه، فيما شارك منذ بداية عام 2025 في 4 إصدارات بإجمالي 7 مليارات جنيه، ولعب خلالها أدوارًا متعددة شملت ضامن التغطية، «أمين الحفظ»، «متلقي الاكتتاب»، و«وكيل السداد»، مما يعكس عمق الخبرة التي يتمتع بها فريق العمل.
والجدير بالذكر أن بنك قناة السويس يستهدف خلال المرحلة المقبلة تعزيز تواجده في سوق أدوات الدين، مع التركيز على قطاعات ذات فرص واعدة، هذا ويواصل البنك توليه لأدوار رئيسية في تلك الإصدارات، بما يدعم رؤيته نحو تحقيق نمو مستدام في حجم أعماله، حيث يتبنى البنك استراتيجية استثمار شاملة تهدف إلى تعظيم القيمة المُضافة للأصول التي يديرها، في إطار رؤيته لتقديم حلول تمويلية شاملة تلائم احتياجات مختلف شرائح العملاء وتدعم جهود التنمية الاقتصادية.
اقرأ أيضاًسبيشال جروب ومينت لإدارة الأصول العقارية تطلقان مشروع «40 سكوير» بالعاصمة الإدارية
المنيا تحقق رقمًا قياسيًا في توريد القمح.. استقبال 182 ألف طن حتى الآن
الجهاز المركزي: 1.6 مليار دولار حجم التجارة البينية لمصر واليونان