إذا لم يكن هذا تطبيعاً فماذا يكون؟
تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT
إذا لم يكن هذا تطبيعاً فماذا يكون؟
لم يعد التطبيع مع إسرائيل منفصلاً عن قضية فلسطين فقط، بل أصبح يسبق المفاوضات نفسها أو يتقدّم في موازاتها.
ماذا تريد السعودية بالضبط؟ وهل يستحقّ تفاهمٌ دفاعيٌّ مع واشنطن تنازلاتٍ ثقيلةٍ من دولة تتمتع برأسمال رمزي نادر وفريد في المنطقة والعالم؟
لا تحتاج السعودية للتفاوض، بل نتنياهو وبايدن، فكلاهما في أسوأ أوضاعه، مقارنة بالسعودية التي تتمتع بوضعٍ أقوى، يُفترض معه أن تفرض الشروط وتتمسّك بها.
ما تحتاجه السعودية أولا أن تعرف ماذا تريد بالضبط، وملاءمة ذلك لاحتياجاتها الفعلية ومكانتها الفريدة وأوراق قوتها، وسوى ذلك ستظلّ عُرضةً للضغوط لتقديم التنازلات.
خفضت أميركا سقف المطالب السعودية بالاتفاق الدفاعي "المحتمل"، من وضعٍ شبيهٍ بمنظومة دفاع الناتو، إلى أقل من الاتفاقات الأميركية الدفاعية مع اليابان وكوريا الجنوبية.
ما يتسرّب يُريب، وجديده تقرير لرويترز استند إلى 3 مصادر إقليمية ويفيد بأن الرياض خفّضت سقوفها المعلنة على نحو غير مفهوم، ولا يليق بمكانتها الفريدة في المنطقة والعالم.
* * *
لا يُعرَف بعد كيف تدير السعودية مفاوضاتها مع الأميركيين بشأن تفاهم دفاعي مقترح والتطبيع مع إسرائيل، وما إذا كانت هناك استراتيجية سعودية واضحة تحكم هذه المفاوضات أم لا!
لكن ما يتسرّب يُريب، وجديده أخيرا تقرير نشرته وكالة رويترز للأنباء، استند إلى ثلاثة مصادر إقليمية، ويفيد بأن الرياض خفّضت سقوفها المعلنة على نحو غير مفهوم، ولا يليق بمكانتها الفريدة في المنطقة والعالم.
بدايةً، فصلت قضية فلسطين عن التطبيع، وما بدا أنها شروط مسبقة ومشروعة، مثل التطبيع مقابل التزام إسرائيل بالمبادرة العربية للسلام، تراجع إلى تحسين شروط حياة الفلسطينيين، وقيام حكومة نتنياهو ببعض الإجراءات الشكلية.
وإذا صحّ هذا فإنه يضرّ بالرياض طرفا مفاوضا، وهو ما تفعله للأسف على أرض الواقع، فلم يعد التطبيع مع إسرائيل منفصلاً عن قضية فلسطين فقط، بل أصبح يسبق المفاوضات نفسها أو يتقدّم في موازاتها.
فالرياض استقبلت وزيرين إسرائيليين في الأسبوع الماضي، كما استقبلت الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) وفداً إسرائيلياً للمشاركة في اجتماعات لليونسكو، وقبل ذلك، في نهاية أغسطس/ آب، استقبلت ركّاب طائرة إسرائيلية هبطت اضطرارياً في مطار جدّة.
وإذا كان ثمة ما يستوقف في سياق هذا الماراثون التطبيعي، فهو تذكير المراقب العربي بأن هناك اتحادا دوليا للبريد العالمي، وأنه عقد أحد مؤتمراته في الرياض بمشاركة وزير الاتصالات الإسرائيلي، شلومو كارعي!
فإذا كانت هذه من مفاعيل مؤتمر لاتحاد البريد العالمي، فماذا نقول لو قرّر الأمين العام للأمم المتحدة عقد دورة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة في الرياض؟ هل كانت السعودية سترفض حضور نتنياهو وكامل فريقه الوزاري، بل وأعضاء الكنيست وقادة الجيش إذا أرادوا المشاركة؟
يُحيلنا ما حدث ويحدُث إلى تحذير العاهل الأردني، عبد الله الثاني، في كلمة ألقاها في مؤتمر عقد على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيرا في نيويورك، فأنت "لا يمكنك القفز بالمظلة فوق الفلسطينيين للتعامل مع العرب".
ورسالة الرجل يمكن قراءتها على أكثر من وجه، فهي ليست انتقاداً قاسياً ومحقّاً لاستراتيجية نتنياهو القائمة على السلام مقابل السلام، بل ربما للسياسة السعودية (وقبلها الإماراتية والبحرينية) التي بدأت بالقفز فعلياً من فوق فلسطين وحقوق شعبها، إضافة إلى القفز من فوق مبادرة أقرّتها السعودية بنفسها للحلّ، وهدفها من ذلك كله التوصّل إلى تفاهم دفاعي مع الولايات المتحدة.
وانظر ماذا يحدُث، عندما تغيب استراتيجيات التفاوض الحقيقية التي لا تحتفظ بأوراق التفاوض القوية إلى آخر لحظة، لحسم الموقف لصالحها. وفق ما يتسرّب من التقارير الإخبارية على الأقل، ونتمنى ألا يكون صحيحاً، فصلت الرياض التطبيع عن قضية فلسطين، بل شرعت بالتطبيع بشكل متسارع.
ثم قامت بأمرٍ شبيهٍ إزاء الاتفاق الدفاعي المحتمل، فقد رفعت السقف في البداية، وطالبت ببرنامج نووي بالموازاة مع الاتفاق، قبل أن تكتشف أن طرح الملفّين معاً مضرّ بها تفاوضياً، فنحّت البرنامج النووي جانباً إلى حين، وانفتحت على فكرة تقديم تنازلاتٍ مؤلمة عن مطالبها الأولى بشأنه، على أمل تحسين شروطها التفاوضية بشأن الاتفاق الدفاعي.
هذا التراجع وعدم تحديد الأولويات عرّضها لضغوط متزايدة، وساهم في تخفيض سقف مطالبها في ملفّات التفاوض مجتمعة، وانتهى الأمر بتخفيض الولايات المتحدة سقف المطالب والتوقّعات السعودية إزاء الاتفاق الدفاعي "المحتمل"، من وضعٍ شبيهٍ بمنظومة دفاع حلف شمال الأطلسي كما كانت تطالب السعودية، إلى ما هو أقل من الاتفاقات الأميركية الدفاعية مع اليابان وكوريا الجنوبية.
أي أن التفاوض قد يصل إلى وضع يساوي وضع البحرين، وحتى في هذه الحالة فقد يكون تفاهماً أمنياً، وليس اتفاقاً ملزماً يحظى بموافقة الكونغرس، كأنك يا أبا زيد ما غزيت.
يعيدنا هذا كله إلى السؤال الأول، فماذا تريد السعودية بالضبط؟ وهل يستحقّ تفاهمٌ دفاعيٌّ مع واشنطن تنازلاتٍ ثقيلةٍ من دولة تتمتع برأسمال رمزي نادر وفريد في المنطقة والعالم؟
ليست السعودية من يحتاج إلى التفاوض، بل نتنياهو وبايدن، وكلُّ منهما في أسوأ أوضاعه، مقارنة مع السعودية التي تتمتع بوضعٍ أقوى، يُفترض معه أن تفرض الشروط وتتمسّك بها.
لكن ما تحتاجه قبل ذلك أن تعرف ماذا تريد بالضبط، وملاءمة ذلك لاحتياجاتها الفعلية ومكانتها الفريدة وأوراق قوتها، وسوى ذلك فإنها ستظلّ عُرضةً للضغوط لتقديم التنازلات.
*زياد بركات روائي وصحفي وإعلامي فلسطيني/أردني
المصدر | العربي الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: السعودية أميركا إسرائيل الكونغرس بايدن قضية فلسطين التطبيع مع إسرائيل عبدالله الثاني فی المنطقة والعالم قضیة فلسطین ماذا ترید
إقرأ أيضاً:
هل دقت ساعة التطبيع أمام القيادة السورية؟
قبل فترة ليست بالطويلة تساءلت في مقال سابق حمل عنوان "ما الذي يضمره أبو إيفانكا ترامب لسوريا وقيادتها؟"؛ ويبدو أن بعض الأشقاء لم يرق لهم الموضوع عنوانا ومضمونا وسرعان ما أشهروا سيوف الرفض والاستنكار في وجهي، لا سيما وأن النشوة حينها بلغت ذروتها بعد قرار رفع العقوبات الظالمة عن بلادهم.
من السذاجة قطعا التعامل مع "الكرم الأمريكي" بحسن نية، ولدينا مع الولايات المتحدة سجل حافل بالطعنات والغدر والمكائد، منها القريب وحتى البعيد، وها نحن اليوم نقف أمام سيل جارف من التقارير الإعلامية الغربية التي تهلل لقرب انضمام سوريا للواء المطبعين الجدد جنبا إلى جنب مع أشقائها "المتحضرين" و"المسالمين" من العرب.
"أبو يفانكا" وزمرته بقيادة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف؛ يصدرون ليل نهار تصريحات يملؤها التفاؤل في الوصول للهدف المنشود؛ بينما على الجانب الآخر ما زال التردد سيد الموقف والاكتفاء بتوجيه "بالونات اختبار" بين الفينة والأخرى؛ لأن هناك قناعة تامة بأن الشعب السوري الأصيل رغم إصرار البعض على تزييف الحقائق وتقديمه في قالب مخادع منسلخ عن مبادئه وقناعاته الراسخة، وهو من بذل الدماء والأرواح لمقاومة العدو الغاصب، لا يمكن البتة أن يتجرد من انتمائه فجأة ويرتمي في أحضان الذئب ويفقد بصره وبصيرته ويراه في هيئة حمل وديع.
ما هي المكاسب التي ستحققها القيادة السورية لشعبها مقابل هذه التنازلات الثقيلة التي لا تقدر بثمن؟ وهل أمامها حقا هامش للمناورة والتفاوض ما دامت "منيّة" (باللهجة المحلية السورية) رفع العقوبات الاقتصادية حاضرة في كل حديث أمريكي؟
حقيقة الشروط السورية:
نعيد التأكيد على نقطة التزام الطرف السوري للصمت المطبق لحدود كتابة هذه الأسطر، ورغم أن لا دخان بدون نار، إلا سننظر لما يروج في الإعلام العبري على أنها "شروط رسمية سورية" بمنتهى الريبة والشك، ومن ذلك الحديث مثلا عن طلب اعتراف إسرائيلي رسمي بحكومة الرئيس أحمد الشرع، وانسحاب كامل من الأراضي التي احتلها الكيان بعد سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، بالإضافة إلى وقف شامل للغارات الجوية الإسرائيلية على سوريا، وترتيبات أمنية جنوبي البلاد، إلى جانب ضمانات بدعم أمريكي للحكومة السورية. كما يتم تداول أحاديث متعددة عن "اعتراف دائم بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل".
لكن إذا افترضنا دقة ما سبق، مع العلم أن أغلبه بالفعل مطروح وبقوة في مختلف المنابر، ما هي المكاسب التي ستحققها القيادة السورية لشعبها مقابل هذه التنازلات الثقيلة التي لا تقدر بثمن؟ وهل أمامها حقا هامش للمناورة والتفاوض ما دامت "منيّة" (باللهجة المحلية السورية) رفع العقوبات الاقتصادية حاضرة في كل حديث أمريكي؟ وهل تُركت منافذ وأبواب أخرى أمام الشرع للتنصل والبحث عن خيارات أفضل؟
الكل في خدمة مستقبل "إسرائيل":
السعي لإمساك العصا من المنتصف صار غير مجدٍ في خضم التغيرات المتسارعة في المنطقة، ولن تكون حرب الاثني عشر يوما الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني آخرها. و"أبو إيفانكا" وحاشيته مهتمون جدا بتصدير خطاب وردي وفضفاض مفاده أن سفينة التطبيع تستعد لاستقبال ركاب جدد ومن الطراز الرفيع
لفتني هذا التصريح المقزز لوزير خارجية الكيان حين قال: "إذا توفرت فرصة لتوقيع اتفاق سلام أو تطبيع مع سوريا شرط أن تبقى الجولان معنا سيكون ذلك إيجابيا لمستقبل إسرائيل". وهذا الكلام يلخص واقع الحال برمته، فالكل مجمع على السعي نحو هدف واحد هو ضمان مستقبل أفضل لهذا الورم الخبيث رغما عن أنف التاريخ وتضحيات السوريين المطالَبين بالانصياع لا أقل ولا أكثر، مقابل حفنة من "الانسحابات التكتيكية" والوهمية، وهي بالأصل حق من الحقوق الأصيلة للشعب السوري؛ فكيف يصنف الانسحاب من الأراضي التي احتلها العدو ويعتبر انتهاكا صارخا للسيادة السورية ولكل المواثيق والأعراف الدولية ونهبا فاضحا أسوة بقطاع الطرق واللصوص؛ على أنها "هدايا" و"كرم حاتم" تستوجب الثناء والشكر؟ وهل من مصلحة القيادة السورية تقديم نفسها في هذه الصورة العاجزة لهذه الدرجة؟ ومتى ستخرج بلهجة واضحة صريحة للحديث في هذا الملف الشائك والحساس؟ ولماذا تترك الباب مفتوحا للتأويلات والتفسيرات المخلفة؟
خيارات ضيقة:
المؤكد أن الخيارات ضيقة جدا على الرئيس أحمد الشرع، لكنه كان على علم تام بهذه الخطوات حين قرر ركوب صهوة الخيل الأمريكي منذ الصورة الشهيرة في العاصمة السعودية الرياض، والسعي لإمساك العصا من المنتصف صار غير مجدٍ في خضم التغيرات المتسارعة في المنطقة، ولن تكون حرب الاثني عشر يوما الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني آخرها. و"أبو إيفانكا" وحاشيته مهتمون جدا بتصدير خطاب وردي وفضفاض مفاده أن سفينة التطبيع تستعد لاستقبال ركاب جدد ومن الطراز الرفيع، أو كما صرح المبعوث الأمريكي ويتكوف بأن إدارة بلده تأمل في "تحقيق تطبيع مع دول لم يكن لأحد أن يتصور انضمامها وستكون هناك إعلانات كبيرة قادمة".
ومن هذا المنطلق لم يعد أمام القيادة السورية مجال للتردد، وقد دقت ساعة الحسم، مع العلم أن "شماعة" القفز من قارب النظام المخلوع لن تنطلي على أحد؛ لأن الكل يعي بأن بشار الأسد المحترف للشعارات المتهالكة والكلام المعلّب لم يتجاوز إطار المتاجرة، أسوة بالعديد من الأنظمة العربية الأخرى التي كانت تقتات على الوتر الحساس لشعوبها المتمثل في مقاومة الكيان الغاصب ونصرة قضية فلسطين، والأيام أثبتت زيف ادعاءاتها وأسقطت ورقة التوت التي سترت عوراتها؛ فهل ستنجو قيادة أحمد الشرع من مطبات أبي إيفانكا ومن معه؟ وهل هناك أوراق متاحة أمامها لاستخدامها للانعتاق، أم أنها حقا مقتنعة بالتوجه صوب "سراب" التطبيع دون مضايقات ولا ضغوط؟