التفاوض الإقليمي والدولي عن لبنان حرباً وسلماً
تاريخ النشر: 13th, October 2023 GMT
كتبت هيام قصيفي في" الاخبار": الواضح أن هناك تسليماً غربياً وعربياً بعدم قدرة لبنان الرسمي على مواكبة ما يجري. هذا الكلام يقال في الإعلام الغربي كما في الدوائر الدبلوماسية والسياسية المعنية. لذا تنتقل وجهة القرار إلى مكان آخر، في اهتمام الدول المعنية بالتفاوض على وضع لبنان، وتحييده أو انخراطه في حرب غزة، أو نقل المواجهة إلى مكان آخر.
وفي مقابل بدء حركة إيرانية في المنطقة، لا يمكن النظر إليها إلا من زاوية أحادية، يصبح تعويل معارضي حزب الله على قدرة الدول العربية المعنية مباشرة - وأُولاها السعودية - على امتصاص آثار عملية حماس والحرب الإسرائيلية، قبل الحديث عن نقلها إلى لبنان. علماً أن هذه الدول ستكون منشغلة بالتخفيف من وقع الحملات الإعلامية الغربية والإسرائيلية التي تصوّب على أداء حماس رغم عدم علاقتها بها، بما تتركه من سلبيات على علاقة هذه الدول ليس فقط بإسرائيل، إنما كذلك بالمجتمعات الغربية، وبعواصم بنت علاقة ثقة بها، ولا سيما في ظل قواعد انفتاح كبرى سعت هذه الدول إلى إظهاره عبر حملات إعلامية واقتصادية وترويجية، كما جهدت لمحوه منذ 11 أيلول ومن ثم توسّع «داعش» وعملياته. فيما تحاول إسرائيل تظهير انتماء حركة حماس «السني»، في تحميلها مسؤولية ارتكاب أعمال عسكرية ضد المدنيين، وهذا من شأنه أن ينعكس على صورة العالم العربي ككل. ليس سهلاً، وفق ذلك، أن يكون «النفير» الذي دعت إليه حماس، مرصوداً غربياً في الدول العربية المذكورة، وتوقّع ما يمكن أن تسفر عنه في ترجمة ردّ الفعل العربي كدول ومجتمعات في التعامل مع ما يحصل في غزة. وعلى هذا الأساس، لا يعود لبنان أولوية في ذاته عربياً، في حماية موقعه، للتخفيف من احتمالات انتقال الحرب إليه. فظروف حرب تموز مختلفة تماماً، وظروف المنطقة كذلك وانشغال كل دولة بترتيب أوضاعها، علماً أنه في ظل الظروف الخطيرة، كان يُفترض بلبنان الانصراف إلى خطة مواجهة وليس الاختباء وراء ذريعة إمساك حزب الله بالقرار الأمني جنوباً.
أما غربياً، فكل ما جرى في الأيام الأخيرة أن لبنان تحوّل إلى صندوق بريد على قدر ما يمكن أن تمثله الدبلوماسية الأميركية وبعض الدول الأوروبية التي تُعنى عادة بالشأن الأمني. وكانت الرسائل تحمل إشارات تحذيرية من خطر داهم، لم ينته مفعوله بعد، وهذا الأمر عكسه جدياً تحرك دبلوماسي غربي في اتجاهات محددة لرصد أداء حزب الله وما يمكن أن يكون عليه ردّ فعله إزاء ما يمثله كل تطور عسكري جنوباً. ورغم محاولات خجولة من بعض أصدقاء لبنان لتحييده، إلا أن سياق الأحداث يجعل أنظار هذه الدول تنحرف تلقائياً نحو إسرائيل، فلا يتعدّى الاهتمام حالياً بلبنان السعْي إلى ضبط إيقاع الحرب، فلا تنفتح جبهة الشمال الإسرائيلي، تحت عنوان عدم قدرة لبنان على تحمّل أضرار الحرب المقبلة، وعدم استعداد الدول إياها لإنقاذه اقتصادياً كما فعلت في مرات سابقة. وبذلك يستكمل مسار تطبيع الوضع اللبناني بالحد الأدنى، عملاً بالأشهر السابقة التي جعلت الوضع اللبناني على حافة الانهيار من دون انزلاق تام نحو الفوضى الشاملة، ما يجعل لبنان على قائمة الانتظار كي تتبلور المساعي المتحرّكة من إيران إلى واشنطن وإسرائيل، لأن من الصعب التكهن باحتمالات حرب الاستنزاف، أو ترجمة التهديدات المتبادلة، وما يوضع على طاولة التفاوض من شروط وشروط مضادّة.
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: هذه الدول حزب الله
إقرأ أيضاً:
ترامب يخوض حربا ضد مواطنيه
ترجمة: أحمد شافعي -
لم يستعمل رئيس في تاريخ الجمهورية الأمريكية كلمة «أمريكا» بفعالية دونالد ترامب، لا بوصفها رمزا يذكِّر بالوحدة، وإنما ليصب بها الزيت على نيران حروبنا الثقافية المضرمة.
أمريكا، أمريكا، اجعلوها عظيمة. إنها بالفعل لعظيمة، فحافظوا على عظمتها. أمريكا يجب... وأمريكا سوف... وأمريكا أولا. و«أمريكا للأمريكيين وللأمريكيين فقط» مثلما قال ستيفن ميلر نائب كبير موظفي دونالد ترامب والدافع وراء كثير من سياساته المحلية القومية.
ولكن ما معنى أن يكون المرء أمريكيا لو أن رجالا مسلحين ومقنّعين يعترضون أي شخص، سواء أكان مواطنا أم لا، ويرغمونه على ركوب سيارة رباعية الدفع مبهمة العلامات ليختفي ـ إذا تحقق للرئيس ترامب مبتغاه ـ في لويزيانا النائية أو يساق إلى معسكر اعتقال في إلسلفادور؟
ذلك أن الرئيس ترامب ورجاله من أمثال ميلر يخوضون حربا لا على المهاجرين فقط ولكن أيضا على مفهوم المواطنة. فوفقا لأحد التقارير، طردت وكالة تنفيذ قوانين الهجرة والجمارك ما يصل إلى ستة وستين مواطنا خلال ولاية ترامب الأولى، ثم إنه أصدر الآن أمرا تنفيذيا ينهي حق المواطنة بالميلاد. فتنفي حكومته الأطفال الذين ولدوا في الولايات المتحدة، ومنهم ولد عمره أربع سنوات مصاب بحالة متدهورة من السرطان. وتقول وزارة العدل إنها «تعطي الأولوية لسحب الجنسية»، وتؤسس إطارا لسحب جنسية المواطنين المجنّسين الذين يعدهم البيت الأبيض غير مرغوب فيهم.
يعترف نائب الرئيس جيه دي فانس أن توسع وكالة الهجرة والجمارك هو الملهم الأساسي لأجندة البيت الأبيض. وفي سلسلة منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، رفض المخاوف من توقيع الرئيس لمشروع قانون المصالحة، قائلا إنه ليس في المشروع شيء مهم، لا الدين ولا تخفيضات برنامج الرعاية الطبية، بالمقارنة مع ضمان تمويل وكالة الهجرة والجمارك. فالوكالة التي تعمل الآن وكأنها جهاز شرطة سرية سوف تحصل على خمسة وسبعين مليار دولار إضافية لإقامة مراكز احتجاز وتوظيف موظفين جدد وتعزيز عملياتها.
وتمضي حرب الرئيس ترامب على المواطنين بالتوازي مع تسييسه لاسم أمريكا، وبرغم أن حربه نفسها غير مسبوقة الحدة، فتسييسه لاسم أمريكا يستغل تقليدا طويلا، وأمريكيا بالمناسبة، لعله في مثل قدم الأمة الأمريكية نفسها.
خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، كان أغلب سكان نصف الكرة الأرضي الغربي يشيرون إلى العالم الجديد باسم أمريكا. ثم حدث في قرابة ستينيات القرن نفسه، وفي رد فعل على جهود التاج البريطاني لتشديد السيطرة على ممتلكاتها الأمريكية، أن بدأ الرعايا البريطانيون المنشقون في استعمال لفظ «أمريكا» بمعنيين فيقصدون بأحدهما العالم الجديد مثلما يقصدون بالثاني شريحتهم الصغيرة من هذا العالم، أي الشريط الضيق من الأرض بين جبال أليجيني والبحر.
في عام 1777، أطلقت مواد دستور الاتحاد على البلد الجديد اسم الولايات المتحدة الأمريكية وبقيت تشير إليه أيضا باسم أمريكا فقط. وهذا الخلط اللغوي بين مجمل العالم الجديد وأحد أجزائه ينطوي على طموح، إذ توقع الكثيرون في الولايات المتحدة آنذاك أن تضم الأمة الجديدة نصف الكرة الأرضية بأكمله، أو أن تصل على الأقل إلى المحيط الهادئ. كان جورج واشنطن من أوائل من قصروا استعمال أمريكا على الولايات المتحدة، إذ قال في خطاب وداعه لمواطني الولايات المتحدة سنة 1796 إن «اسم الأمريكي يخصكم». في المقابل، لم يستول الثوار الساعون إلى الإطاحة بالحكم الملكي الأسباني على اسم أمريكا لأنفسهم.
فبالنسبة لهم، لم تكن أمريكا رمزا لقومية وإنما لأممية. فقد كتب الزعيم السياسي الكولومبي فرانسيسكو دي باولا سانتاندير عام 1888 أنه ليس من المهم كثيرا أين كان محل ميلاده، قائلا: «إنني لست إلا أمريكيا، وبلدي هو أي ركن في أمريكا لا يخضع لحكم الأسبان»، وكان سيمون بوليفار، الثوري الفنزويلي الذي حرر جزءا كبيرا من أمريكا الجنوبية من الحكم الإسباني، يرجو لأمريكا الحرة ـ كلها ـ أن تقود الإنسانية إلى مستقبل يحكمه القانون والعدل.
آمن البعض داخل الولايات المتحدة بهذه الرؤية. ففي خطبة الرابع من يوليو سنة 1821 استعرض جون كوينسي آدمز هذه الوطنية المتفائلة التي ارتبطت لاحقا برؤساء من أمثال وودرو ويلسون ورونالد ريجان، قائلا إن «أمريكا» وهبت العالم مبادئ «المساواة في الحرية والمساواة في العدالة والمساواة في الحقوق».
وقد تجاوزت رؤية آدمز الواقع إلى التفاؤل. ففي العقود التالية، توسعت العبودية، وتسارع تهجير الهنود والتوسع غربا وكذلك تسارعت وتيرة القومية العدوانية من النوع الذي تمثله اليوم حركة ماجا MAGA أو «إعادة أمريكا إلى عظمتها من جديد».
تابع آدمز في يأس تحول ما أطلق عليه «قاتل الهنود الاستعبادي الأنجلوسكسوني» إلى مثال وطني للبطولة. تزايد زخم الحرب على المكسيك، وبخاصة بعد أن تحرر المستوطنون الاستعباديون في تكساس سنة 1836 من الحكم المكسيكي. إذ شحذ أهل تكساس نصل التفوق العرقي للهوية البيضاء في مواجهة المكسيك، وراود الكثيرين وهم بأن جمهورية تكساس الجديدة ما هي إلا خطوة أولى إلى تحويل القارة بأكملها إلى وطن أنجلوسكسوني. وقال سام هاوستن رئيس تكساس إن العلم أحادي النجمة سيخرج من رحم العرق الأنجلوسكسوني ليخفق فوق المكسيك وأمريكا الوسطى. ودعا رجل دولة آخر ومالك عبيد من تكساس يدعى آشبل سميث إلى «أمركة هذه القارة بالسيف».
أصبحت الأنجلوسكسونية الناشئة من رحم الحرب، مثلما تخوف آدمز، سمة محركة للأمريكية بالمقابلة بين فضائلها والرذائل المتصورة في الأمريكيين الأسبان. فكتبت صحيفة نيويورك مورنينج هيرالد عام 1839 أن «الحكم الجمهوري الرشيد المستقر العادل القائم على المساواة لن يوجد أبدا في الجمهوريات الأسبانية حتى يتولى العرق الأنجلوسكسوني مقاليد الحكم في شتى أرجاء أمريكا الجنوبية». بمعنى أن الجمهوريات الأمريكية الأسبانية كانت البلاد «المنحطة» الأصيلة في العالم.
ضمت الولايات المتحدة تكساس إليها في عام 1845 وقامت في العام التالي بغزو المكسيك. وبحلول عام 1848، انتصر الجيش الأمريكي في الحرب، وبرغم وجود العديد من المتحمسين للتوسع الذين ناصروا الاستيلاء على «كامل المكسيك»، فإن الرأي المعارض الذي تبناه السناتور جون سي كالهون من كارولينا الجنوبية هو الذي ساد. إذ حذر كالهون من أن دمج «أعراق المكسيك المختلطة» في الولايات المتحدة سوف يقوض حكم «العرق القوقازي».
ما كان للولايات المتحدة أن تتقبلهم مواطنين، فقد قال كالهون إن «حكمنا هو حكم الرجل الأبيض». وكان عدد الأمريكيين في المكسيك أكبر من أن يمكن اتخاذهم عبيدا، فقصر الكونجرس المهمة على الاستيلاء على نصف المكسيك الشمالي الأقل كثافة سكانية.
جاءت أمريكا الأسبانية برد دائم على الأنجلوسكسونية، في أعقاب قيام وليم ووكر بغزو نيكاراجوا سنة 1855. لقد فشل ووكر ـ وهو مرتزق من تينيسي متحالف مع تجار العبيد الجنوبيين ـ في مسعاه إلى «أمركة» نيكاراجوا، لكن أفعاله أثارت غضب الأمريكيين الأسبان فبدأوا يتكلمون عن وجود أمريكتين لا يمكن التوفيق بينهما. وبإلصاق صفة «اللاتينية» بأمريكا، جعلوا أنفسهم ـ بالمقارنة مع جيرانهم في الشمال، السكسونيين الجشعين الفرديين الأنانيين الغزاة المستعبِدين ـ أكثر إنسانية وروحانية وتناغما مع اعتماد الوجود البشري على بعضه بعضا.
واليوم بات استعمال كلمة «أمريكا» في وصف الولايات المتحدة وحدها أمرا روتينا، فأغلب الناطقين بالإنجليزية يستعملونه بلا نية عدائية. ومع ذلك يتبرم كثير من الأمريكيين اللاتينيين حينما يستولي ممثلو الولايات المتحدة على اسم أمريكا وكأنما لا وجود لأمريكا لاتينية، فحينما يقول شخص مثل ميلر إن «أمريكا للأمريكيين» يجدون أن الحقد ينضح من مقولته.
في عام 1971 كتب الروائي الأوروجواني إدواردو جاليانو: «لقد فقدنا الحق في تسمية أنفسنا أمريكيين». وكان جاليانو رجلا مثقفا وحضريا، أما أغلب أبناء المكسيك الأفقر من أبناء الريف ممن عبروا الحدود الجنوبية على مدار أكثر من قرن باحثين عن عمل فكانوا يقولون مثل قوله. ففرقة «لوس تيجريس ديل نورتي» المكسيكية الشمالية تغني بأن مجمل العالم الجديد هو «أمريكا»، وأن «كل المولودين هنا أمريكيون». وللفرقة أغنية أخرى تقول: «نحن أكثر أمريكية من ابن الأنجلوسكسوني». وهذه الفرقة تحظى بشعبية كبيرة بين المهاجرين، الذين يتعرضون اليوم لملاحقة هيئة الهجرة والجمارك الأمريكية، وسوف يتعرض أطفالهم المولودون على أرض الولايات المتحدة للحرمان من المواطنة، إذا ما حقق الرئيس ترامب مبتغاه.
عندما تحررت الولايات المتحدة من الحكم الكولونيالي قبل مئتين وتسع وأربعين سنة، أسهمت في ظهور مبادئ المساواة والعدالة الحديثة، كما قال آدمز في الرابع من يوليو ذات ماض بعيد. ولكنها انقلبت أيضا على تلك المبادئ. فقد اتسع نطاق العبودية بشكل وحشي، بينما غذت الحروب العرقية الحدودية فكرة تفوق الولايات المتحدة على بقية الدول وانتفاء المساواة بينها وبين تلك الدول، فهي أفضل من الجمهوريات الجديدة الأخرى التي تكونت منها «أمريكا».
ويستمر هذا التقليد على أيدي أصحاب الأيديولوجيات في الحركة الترامبية، إذ يتصورون «أمريكا» معقلا لأنجلوسكسونية محاصرة. وكما كان الحال في أربعينيات القرن التاسع عشر، فإن هاجسهم المشترك هو المكسيك. ففي ذلك الماضي، كان «العرق التيوتوني العظيم» ينتشر، كما كتب المبعوث الأمريكي إلى المكسيك عشية الحرب المكسيكية الأمريكية، وأنه سرعان ما «ينتشر في جميع أنحاء القارة». والآن انقلبت الأمور إلى الداخل، إذ إن ثمة، من وراء جدار، إلحاحا على البيت الأبيض من أجل اتخاذ إجراءات أشد صرامة ضد المهاجرين، وهكذا فإن الصراع على معنى أمريكا يكشف حقيقة القومية التي تتبناها حركة ماجا: فهي أحدث تعبير عن الاعتقاد بالتفوق الأنجلوسكسوني، وعن الرغبة في الهيمنة على العالم، دون محاسبة من العالم.
واليوم، من الذي يسمي نفسه أمريكيا في أمريكا الرئيس ترامب؟ اسألوا برايان جافيديا، المواطن الأمريكي الذي أوقفته دورية الحدود في الثاني عشر من يونيو، فأرغمته عناصرها على إدارة وجهه نحو سياج معدني أسود، مطالبين بمعرفة المستشفى الذي ولد فيه. أجاب جافيديا: «أنا أمريكي يا أخي!». ثم قال لاحقا: «نحن غير آمنين يا رفاق، نحن اليوم غير آمنين في أمريكا».
جريج جراندين أستاذ تاريخ في جامعة ييل ومؤلف كتاب «أمريكا، أمريكا».
خدمة نيويورك تايمز