المقاومة وكأس الحنظل
تاريخ النشر: 4th, November 2023 GMT
بدر بن خميس الظفري
منذ بداية حرب "طوفان الأقصى"، لم أستطع التعبير في مقال عما يقع من أحداث، خشية أن أتهم بأن نظرتي عاطفية للأمور، لأنّ الأحداث لم تكن قد اتضحت بعد، والمواقف كانت متذبذبة، وكانت هناك شكوك تدور حول صمت البعض، وترقب حول ردود الفعل سواء من طرف المقاومة أو من قبل الطرف الآخر.
ثم راجعت نفسي ووجدت أن العاطفة هي ما يميز الإنسان السوي الطبيعي عن الإنسان المختل، وأن من لا تتحرك عاطفته لما يحدث في غزة ليس من حقه أن يحكم على الآخرين، فليس إنساناً من لم تحرك مشاعرَهُ تلك الإبادات اليومية التي يرتكبها نمرود العصر وفرعون هذا الزمن، العدو الصهيوني المتعجرف المغرور، الذي يصول ويجول ويفعل ما يشاء، أمام مرأى العالم الغربي المنافق الذي يدعي الحضارة والتحضر، والذي وضع لنفسه قانونا دوليا وإنسانيا، ولم يلتزم به يوما عندما يتعلق الأمر بمصالحه.
لا أستطيع وصف حجم الغيظ الذي أحس به وأنا أتابع هذه الأحداث، والغضب الشديد المتولد في قرارة نفسي، والألم المؤرق الناتج من رؤية مشاهد الدمار والقتل والدماء التي لم أكن أتصور أن أراها واقعا حقيقيا بعدما كنَّا نشاهدها في الأفلام الهوليودية.
إن الألم الذي يعتصر قلوبنا لا ينتج من مشاهد القصف العشوائي والجثث المتناثرة والأطفال المشوهين فحسب؛ بل نتألم أيضا من عجزنا عن الاستجابة لنداءات الثكالى من الأمهات الغزاويات، ومن عدم قدرتنا على فعل شيء ونحن نشاهد دموع رجال غزة الأشداء، والحرقة في قلوبهم على فقدان عوائلهم، بينما نحن نتنعم في بحبوحة من العيش، واقفين أمام أنفسنا عاجزين عن نصرة إخواننا في الإنسانية وفي الدين وفي العروبة، ونتألم أكثر عندما نسمع اتهامات التخوين والعمالة للمرابطين المجاهدين من أبطال المقاومة الفلسطينية الباسلة، التي يطلقها بعض النَّاس، لأسباب مذهبيّة وسياسية في معظمها، في وقت نحن في أمس بحاجة إلى التضامن والوحدة أمام عدو لا يعترف بإنسانيتنا وأحقيتنا في الحياة.
إننا في خضم هذه المآسي، نحاول أن نخفف على أنفسنا بالدعاء تارة، وبالبكاء تارة أخرى، وقد نخرج عن أطوارنا فنلعن العدو وندعو عليه بالهلاك والدمار، ونبكي لعل الله ينظر إلى ضعفنا ووهننا وتضرعنا، فيخفف من آلامنا بالتخفيف عن أولئك المستضعفين، ويرحمنا بأن ينصرهم على عدوهم الغاشم ذي الحقد الدفين.
نتابع مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية، نبحث عن بارقة أمل تدخل البهجة في قلوبنا، فترانا نفرح ونحن نسمع تصريحًا من أحد أحرار العالم يندد فيه بتلك المجازر، أو قرارًا من منظمة عالميّة أو إقليميّة تستنكر ما يحدث من قصف وترويع وتعطيش وتجويع، فقد وصلنا إلى مرحلة أنّ أقصى ما نريده من العالم هو الكلام، بعدما عجز عن الفعل، وترانا ننتشي فرحًا ونحن نشاهد أبطال المقاومة من كتائب الشهيد عز الدين القسام أو سرايا القدس وهم يدمرون آلية عسكرية هنا، ويقتلون جنديا صهيونيا هناك، أو يطلقون رشقات صاروخية دفاعا عن أنفسهم باتجاه مناطق الاحتلال الإسرائيلي الغاصب.
ويفرحنا أيضًا خروج الملثم المُلقب بأبي عبيدة، وهو يُعطينا دروسا في الرجولة والشرف والشجاعة والقوة، يزف إلينا بشارات النصر والغلبة والعزة، بالرغم من الخسائر البشرية الهائلة التي يتعرض لها قطاع غزة، وبالرغم من انقطاع أساسيات الحياة اليومية من ماء وطعام ووقود وكهرباء ومعدات طبية، يذكرنا بالرواية التي تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حفر الخندق استعدادًا لمعركة الأحزاب، الذين اجتمعوا من كل ملة، بعدِّهم وعتادهم، للقضاء على الدين الجديد، وتقول الرواية: إن صخرة استعصت على من كانوا يحفرون الخندق، فاستعانوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لكسرها، وفي تلك الظروف الصعبة القاهرة التي تدعو لليأس والهزيمة بالنظر إلى موازين القوى بين الطرفين، بشَّر عليه الصلاة والسلام، وهو يكسر الصخرة، بالنصر المُبين في تلك المعركة؛ بل وذهب إلى أبعد من ذلك عندما تنبأ بامتداد رقعة الدولة الإسلامية بفتح فارس والشام واليمن، ثم وقع ما تنبأ به الصادق المصدوق.
ستنتهي هذه الحرب مؤقتًا، وسينتهي هذا الصراع ولو إلى حين، لكن الحياة في غزة بعد طوفان الأقصى لن تكون طبيعية؛ فرجال المقاومة وشعب غزة والفلسطينيون بشكل عام قد تعبوا من الوعود العرقوبية، والمفاوضات العبثية، والبيانات الانهزامية، والاتفاقات الشكلية، والذل والإهانة والقهر والخذلان من القريب والبعيد، وهم مصرون على استئصال سرطان الاحتلال البغيض من أصله، وعلى كنسه من أرضهم بأنفسهم، ولسان حالهم قول عنترة بن شدّاد:
لا تسقني ماءَ الحياةِ بذلةٍ // بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
خطيب المسجد الحرام: يبقى الدين في الناس ما بقيت فيهم شعائره
قال الشيخ الدكتور ماهر المعيقلي، إمام وخطيب المسجد الحرام ، إن الله تعالى تكفّل بحفظ دينه، وجعل من أسباب حمايته الشرعية، وحفظ شعائره سواء كانت شعائر زمانية أو مكانية أو تعبدية.
يبقى الدينوأوضح “ المعيقلي” خلال خطبة الجمعة الأولى من شهر ذي الحجة، اليوم، من المسجد الحرام بمكة المكرمة، أنه يبقى الدين في الناس، ما بقيت فيهم شعائره وتعظيم شعائر الله، دليل على تقوى القلب وخشيته، موصيًا بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه وتجنب مساخطه ومناهيه.
واستشهد بما قال الله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، منوهًا بأن من شعائر الله، يوم عرفة، وهو يوم الوفاء بالميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم.
ودلل بما ورد في مسند الإمام أحمد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج مِنْ صُلْبِه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذَّر ، ثم كلَّمهم قُبُلًا، قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).
في يوم عرفةوأضاف أنه في يوم عرفة ينزل ربنا جل في علاه إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله وكبريائه وعظمته فيباهي بأهل الموقف ملائكته، وهو أكثر يوم في العام يُعتق الله فيه خَلْقًا من النار، سواء ممن وقف بعرفة منهم ومَنْ لم يقف بها من الأمصار".
ونبه إلى أن عظيم الأزمنة الفاضلة، من عظيم شعائر الله، ونحن في هذه الأيام، نعيش في خير أيام العام، التي أقسم الله بها، وفضلها على سِوَاهَا، فقال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرِ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) .
وأفاد بأن عشر ذي الحجة، اجتمع فيها مِنَ العبادات ما لم يجتمع في غيرها، مشيرًا إلى أن من فضائل هذه الأيام المباركات أن فيها يوم النحر، وهو من خير أيام الدنيا، وأحبها إلى الله تعالى وأعظمها حرمةً، وفيه عبادة الأضحية، والأضحية سُنَّة مؤكدة، لا ينبغي تركها لمن قَدَرَ عليها.
من أراد أن يضحيوأشار إلى أنه ينبغي لمن أراد أن يضحي إذا دخلت عشر ذي الحجة أن يُمسك عن شعره وأظفاره وبشرته، حتى يذبح أضحيته ؛ لما روى مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليُمْسِكُ عن شَعْرِه وأظفاره).
وأوصى قائلاً: فامتثلوا أمر ربكم، وقفوا على مشاعركم، وأتموا نسككم، واقتدوا برسولكم- صلى الله عليه وسلم-، وابتهلوا إلى ربكم رحمته، تفوزوا برضوانه وجنته، مؤكدًا أن المملكة، بذلت كل وسعها، وسخرت أمنها وأجهزتها، وهيأت كل أسباب التسهيل والراحة والأمن والسلامة.
وتابع: وذلك عبر أنظمتها التي تهدف إلى سلامة الحجيج وأمنهم، وتيسير أداء مناسكهم، تحت سلطة شرعية في حفظ النفس والمال، لذا فإن الحج بلا تصريح هو إخلال بالنظام وأذية للمسلمين، مقابل حقوق الآخرين، وجناية لترتيبات وضعت بدقة متناهية.
وأردف: فحري بمن قصد المشاعر المقدسة، تعظيم هذه الشعيرة العظيمة، واستشعار هيبة المشاعر المقدسة بتوحيد الله وطاعته والتحلي بالرفق والسكينة والتزام الأنظمة والتعليمات، وبعد عن الفسوق والجدال والخصام، ومراعات المقاصد الشرعية، التي جُعِلَتْ من السلامة، والمصلحة العامة، حفظ الله حجاج بيته الحرام، وتقبل حجاجهم وسائر أعمالهم ووردهم إلى أهلهم سالمين وبالمثوبة غانمين.