جميلٌ أن الْتأمتِ القمة العربية الإسلامية بالرياض، بعد ثلاثين يومًا ونيف من العدوان، وأدانت الهجمة التي تتعرض له غزة، أسوةً بما عبّرت عنه فعاليات من العالم، بالتضامن مع الشعب الفلسطيني، كما يقتضي ذلك منطق الأشياء، وشجبت أي خطوة تهجره من أرضه، من مخططات التسفير أو الترانسفير التي يؤمن بها اليمين الإسرائيلي، ولا تخفيها الحكومة الإسرائيلية، لما في ذلك من خطورة على الوضع والاستقرار في المِنطقة.

لم يكن لموقف القمة أن يكون أدنى مما عبّرت عنه فعاليات الرأي العام في أصقاع عدّة من العالم، بل وحكومات، ليست عربية ولا مسلمة.

ولئن كان انعقاد القمة شيئًا إيجابيًا- على الأقل رفعًا للعتب- فهو لا يكفي؛ إذ لا بد من إجراءات ملموسة لصالح الفلسطينيين، وخريطة طريق لذلك، وموقف موحد تجاه إسرائيل، وإجراءات عمليّة حيال الغرب.

انتهت القمة وصدر بيان، ولا يمكن العودة إلى الوراء باستصدار بيان غير الذي صدر، ولكن يمكن التعامل مع بعضٍ مما ورد فيه، من خلال سياسات كل دولة على حدة وَفقًا لمتن البيان وروحه. المأمول- انسجامًا مع روح القمة وبيانها- تشكيل لجنة مكوّنة من دول عربية وإسلامية وازنة، على مستوى وزراء الخارجية، تلتقي بالدول الدائمة في مجلس الأمن، للضغط على إسرائيل، والتذكير بأنّ القضية الفلسطينية هي جوهر النزاع في الشرق الأوسط، كما سبق في محطات من تاريخ جامعة الدول العربيّة، كما جرى مع مخطّط فاس (1982)، أو مخطط الملك فهد، من أجل تسويقها على مستوى الدول الفاعلة.

لم تنتهِ العمليات العدوانية، ويلزم الضغط لإيقاف العدوان، وإيصال المساعدات الإنسانية، وذلك هو الأمر الآني. ولكن يجب الاستعداد والتفكير لما بعد عمليات التدمير والتقتيل.

الخراب الذي أحدثته آلة التقتيل الإسرائيلية والدمار، يستوجبان أولًا إعادة عمل المرافق الضروريّة للحياة: (الماء والكهرباء والبنزين)، وإيواء من دُمّرت بيوتهم، ووضع خطط لإعادة البناء. المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الدول العربية والإسلامية، فيما يخصّ إعادة البناء. تحتاج دول الجوار- وبخاصة الأردن ولبنان- إلى الدعم بالنظر إلى أوضاعهما الاقتصادية، وتداعيات الوضع في غزة عليهما.

الشق الثاني ينصرف إلى العلاقة مع إسرائيل. فلا يمكن للعدوان أن يمرّ بغير عقاب، والذي وقع ويقع هو عملية إبادة، ولا يمكن التعامل كأن لا شيء حدث. بالنسبة للدول العربية التي ترتبط بعلاقات مع إسرائيل، العلاقة مع إسرائيل محرجة لبعض الدول، سواء تلك التي ترتبط باتفاقيات، مثل مصر، بناءً على معاهدة كامب ديفيد (1979)، أو وادي عربة مع الأردن (1994)، ثم الجيل الثاني، من اتفاقيات التطبيع، في إطار اتفاقيات أبراهام.

لا يمكن توقّع أن تبادر دولة مُطبِّعة كي تقطع علاقتها مع إسرائيل، للضغوط المحتملة من قِبل الولايات المتحدة، ولكن ينبغي طرح الموضوع على مستوى جامعة الدول العربية، واتخاذ موقف موحد، ما من شأنه أن يخفف من الضغوط المحتملة. يتوجب التمييز بين وضع الدول التي لها حدود مع إسرائيل- ويمكن أن تبقى في نوع من التمثيل- وتلك التي ليس لها حدود، لاتخاذ موقف موحد، يعفيها من الحرج، وانسجامًا مع ما ورد في البيان من أن القضية الفلسطينية هي جوهر النزاع. الواقع الجديد خلق وضعًا جديدًا، ولا يمكن التعامل مع حكومة يدها ملطخة بدماء الأبرياء. لا يجوز ذلك أخلاقيًا، أو براغماتيًا، حتّى لا تقع حكومات طبّعت مع إسرائيل في تنافر مع شعوبها.

 طبعًا لا يتوقع أحد في السياق الحالي، استعمال سلاح البترول، ولكن يمكن أن نأمل في الحد الأدنى من "التضامن"، من خلال إجراءات بسيطة غير مُكلفة ماديًا، منها تخفيف حدة التوتر بين الدول العربية التي هي في حالة شقاق

سبق لجامعة الدول العربية أن اتخذت موقفًا صارمًا بأن أخرجت مصر من الجامعة، ونقلت مقرّها، من القاهرة لتونس، وأوصت بقطع العلاقات الدبلوماسية معها؛ لأنّها وقّعت معاهدة كامب ديفيد. خضعت كل الدول العربية لهذا القرار، مع فيه من تشدّد. ولئن تم اتخاذ موقف جماعي- مع ما فيه من تشدد على مصر، إذ وقعت على معاهدة كامب ديفيد- أفلا يسوغ ذلك التفكير، مجرد التفكير، في اتفاقيات أبراهام، واتخاذ موقف موحد حيال هذا الأمر.

ظهر جليًا، على المستوى الرسمي للغرب، خطابٌ وفعلٌ ذوَا نغمة واحدة، فما يتعلق بممالأة إسرائيل، و"حقها في الدفاع عن نفسها"، ثم ما تمخّض عن ذلك من مواقف ضد معاداة السامية. لا يمكن الحديث مع الغرب، من خلال خطابات إنشائية، ولكن من خلال مواقف ملموسة، للضغط عليه. لا يجادل أحد في شجب كل خطاب عنصري، لكن طرح معاداة السامية، في هذا الظرف من قِبل الغرب، هو تحويل لطبيعة الموضوع، وإبادة لشعب، واقتراف جريمة ضد الإنسانية.

كيف يمكن أن نضع في الميزان نفسه، طائرات تقصف مشافيَ ومساكن، من قِبل حكومة، بجيشها وحكوماتها ورأيها العام، وكرافتيات مجهولة، أو مجرد اعتمار البعض كوفيات واعتبار ذلك مظنة لمعاداة السامية. وهل يمكن السكوت عن الإسلاموفوبيا؟ وهل يحق التصدي لمعاداة السامية، والصمت عن الإسلاموفبيا ؟ أدانت القمة سياسة الكيل بمكيالين. وينبغي إدانة معاداة السامية، والإسلاموفوبيا، سواء بسواء.

لكن هناك "لكن"، وهي أنّ هذه الرؤى تبقى مجرد أمانٍ إن لم نعد إلى الأُسّ، وإحياء بعض من قاموس جامعة الدول العربية، من ذلك تنقية الأجواء العربية، ورأب الصدع، ووضح حدّ للتشرذم، والمصارحة، ووَحدة الصف، ولكن بخطوات عملية وليس مجرد خطاب.

طبعًا لا يتوقع أحد في السياق الحالي، استعمال سلاح البترول، ولكن يمكن أن نأمل في الحد الأدنى من "التضامن"، من خلال إجراءات بسيطة غير مُكلفة ماديًا، منها تخفيف حدة التوتر بين الدول العربية التي هي في حالة شقاق، وتخفيض ميزانيات التسليح، وتحويلها للجوانب الاجتماعية، ونسبة منها للتضامن مع الفلسطينيين، والأردنيين واللبنانيين، وتسهيل التأشيرة (لا أقول إلغاءها)، لبعض الفعاليات من رجال الفكر ورجال الأعمال. مع الأمل في أن تنهض دول عربية وازنة ومؤثرة إلى بذل المساعي الحميدة، من أجل تنقية الأجواء في الساحة العربية.

لن يتعامل أحد مع العالم العربي على محمل الجد، وهو قابعٌ بما هو عليه من تمزّق وفُرقة بلغا حد الشنآن.

وهنا تجب الإشارة إلى أنّ العالم تغير، ويتغير، وأن العالم بعد انتهاء العدوان على غزة ليس كما كان قبله، كما تلك الهبّات الشعبية التي غيّرت معالم العالم. صمود غزة يعد "ديان بيان فو" (1954)، الثاني، حينما كبّد شعب فيتنام القوات الفرنسية هزيمة نكراء، بلغ صداها الشعوب المستضعفة، وشحذت هممها، فكانت تحولًا في مسار العالم. أمّا منظومة "السلم الأمريكي" فهي في طور الانهيار، وينبغي التعامل معها ببراغماتية، وليس عقد إذعان.

ما يقع على مستوى العالم نُهزة وفرصة سانحة، من شأنها تغيير موازين القوى، إقليميًا، لعالم يمثل قوة محتملة ثقافيًا وحضاريًا، ولا يتوافق وضعه السياسي مع مؤهلاته الطبيعية والبشرية، وإرثه الحضاري، وأعني بذلك العالم العربيّ.

أتمثل دومًا ببيت شهير لجرير حين أنظر لواقع العالم العربي:

ويُقضى الأمرُ حين تغيب تَيْمٌ  ولا يُستأمرون وهم شهودُ

أما آن الأوان، لنضع حدًا لسرديّة "تَيْم": حضورها أو غيابها سواء.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الدول العربیة الدول العربی مع إسرائیل موقف موحد على مستوى من خلال یمکن أن لا یمکن

إقرأ أيضاً:

السعودية تخشى تباطؤ خطة تنويع اقتصادها بعيدا عن النفط

نشر موقع "أويل برايس" الأمريكي تقريرًا سلط فيه الضوء على قلق المملكة العربية السعودية من "سخونة" اقتصادها وتأثيره على جهود التنويع بعيدًا عن النفط، إذ تواجه المملكة تحديات في موازنة النمو الاقتصادي مع الاستقرار المالي في ظل تأثير التضخم وزيادة الإنفاق الحكومي سلبًا على خطط المملكة لتنويع مصادر دخلها.

وقال الموقع، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن السعودية - أكبر مصدر للنفط الخام في العالم - تتطلع إلى منع اقتصادها من الانهاك وارتفاع التضخم حيث تهدف إلى تعزيز النمو في قطاعها غير النفطي.

وحسب وزير المالية السعودي محمد الجدعان، فإن السماح بمزيد من الوقت لتنفيذ المشاريع الاستثمارية الضخمة في إطار خطة رؤية 2030 لتنويع الاقتصاد المعتمد على النفط قد يكون خطوة حكيمة.



وأكد الوزير في منتدى قطر الاقتصادي في الدوحة الثلاثاء الماضي أنه إذا لم تسمح لاقتصادك بمواكبة مشاريعك، فإن ما سيحدث في الأساس هو استيراد المزيد.

الرياض تتطلع إلى تجنب سخونة اقتصادها

ذكر الموقع أن الجدعان يرى أن المملكة يجب أن تحرص على عدم الوصول إلى النقطة التي يصل فيها الاقتصاد إلى حدود قدرته على تلبية الطلب من الحكومة والأفراد.

وتؤدي هذه النقطة، التي يشار إليها عادة باسم الاقتصاد المحموم، إلى ارتفاع معدلات التضخم والتسرب. في الاقتصاد، يعد أحد الأمثلة على التسرب هو الكميات الكبيرة من السلع المستوردة لأنها تنقل الدخل المكتسب في بلد ما إلى بلد آخر.

وأشار الجدعان إلى أنه إذا لم تسمح السعودية لاقتصادها بمواكبة مشاريعها الاستثمارية الضخمة التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، فقد ينتهي بها الأمر إلى فقدان القدرة التصنيعية وغيرها من القدرات لدعم خططها.

وقد بدأت المملكة الاعتراف في الأشهر الأخيرة بأنها ستعطي الأولوية لبعض المشاريع التي تشكل جزءًا من خطة رؤية 2030 لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مع احتمال تأخير مشاريع أخرى.

وفي نهاية السنة الماضية، اعترفت السعودية للمرة الأولى بتأجيل بعض مشاريع خطة رؤيتها 2030 لتنويع اقتصادها بعيدا عن النفط لتجنب الضغوط على الاقتصاد. وحسب مصدر مطلع على تفكير صندوق الثروة السيادية السعودي، صندوق الاستثمارات العامة، فإن ولي العهد قد يكون مستعدًا أخيرًا لإجراء بعض المحادثات الصعبة حول المشاريع التي يمكن تسريعها وأيها يمكن انتظار تطويرها.

توقّعات متحفّظة بشأن دخل النفط 

رغم المناقشات المحتملة حول إعادة ضبط توقيت المشاريع باهظة الثمن، فلا تزال المملكة متفائلة بشأن إمكانية تحقيق خطة رؤية 2030 لتنمية اقتصادها غير النفطي من خلال السياحة والتكنولوجيا. وقال الجدعان في المنتدى الذي عُقد في قطر هذا الأسبوع إن المملكة شهدت نمواً مطرداً في قطاعها غير النفطي في السنوات الأخيرة. وأضاف أن هذا الدخل المتزايد للدولة، إلى جانب التوقعات المحافظة بشأن عائدات النفط، سيساعد السعودية في خطط تمويل العديد من المشاريع المستقبلية لرؤية 2030.

وقد نما القطاع غير النفطي والأنشطة الحكومية في الربع الأول من 2024، لكن انخفاض الأنشطة النفطية بنسبة 10.6 بالمائة - حيث حدد السعوديون إنتاج النفط عند 9 ملايين برميل يوميًا - أدى إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للمملكة بنسبة 1.8 بالمائة مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2023، وذلك حسب ما ذكرته الهيئة العامة للإحصاء السعودية في وقت سابق من الشهر الجاري. وفي الوقت نفسه، ارتفعت الأنشطة غير النفطية بنسبة 2.8 بالمائة، ونمت الأنشطة الحكومية بنسبة 2.0 بالمائة على أساس سنوي في الربع الأول من سنة 2024.



وأضاف الموقع أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي المعدل موسميا ارتفع بنسبة 1.3 بالمائة في الربع الأول من السنة الجارية مقارنة بالربع الرابع من سنة 2023، مدفوعًا بارتفاع الأنشطة النفطية بنسبة 2.4 بالمئة إلى جانب نمو الأنشطة غير النفطية بنسبة 0.5 بالمائة. وارتفعت إيرادات الدولة من قطاع النفط بنسبة 2 بالمائة على أساس سنوي في الربع الأول، في حين زادت الإيرادات غير النفطية بنسبة 9 بالمائة لتؤدي إلى زيادة إجمالية بنسبة 4 بالمائة في إجمالي إيرادات الموازنة.  ومع ذلك، سجلت المملكة العربية السعودية عجزًا في الميزانية في الربع الأول من سنة 2024 بسبب ارتفاع النفقات التي فاقت الإيرادات الحكومية.

وبشكل منفصل، يظل التضخم في المملكة ثابتًا وأقل من المستويات العالمية، مما قد يعطي ضمانات للمسؤولين والممولين في المملكة بأن الاقتصاد لا يقترب من نقطة التحول إلى النمو المفرط. وقد بلغ معدل التضخم السنوي في السعودية 1.6 بالمائة في نيسان/أبريل 2024، وارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 0.3 بالمائة في نيسان/أبريل مقارنة بشهر آذار/ مارس 2024.

وقد بدأ المسؤولون السعوديون أخيرًا الاعتراف بأن بعض المشاريع المستقبلية باهظة الثمن قد تضطر إلى الانتظار لفترة أطول حتى يتم تطويرها، لتجنب تعكير صفو اقتصاد أكبر مصدر للنفط الخام في العالم، الأمر الذي قد يكون له تأثير على سوق النفط والاقتصاد العالميين.

مقالات مشابهة

  • نُخب يمنية وعربية: ندعو إلى تصعيد الضغط الشعبي وتفعيل سلاح المقاطعة نصرةً لغزة
  • «مستثمرو السياحة»: جنوب سيناء تمتلك مناطق واعدة يجب الترويج لها عالميا
  • أستاذ قانون: عدم تقدم العرب بدعوى ضد إسرائيل في «العدل الدولية» تكتيك
  • لمصلحة من تجاهل الصراع في السودان؟!
  • المغرب: العرب يواجهون “مخاطر” متعددة تتطلب مواجهة مشتركة بعيداً عن التدخلات الخارجية
  • السعودية تخشى تباطؤ خطة تنويع اقتصادها بعيدا عن النفط
  • خالد مشعل يطالب الدول العربية والإسلامية بتشكيل جبهة سياسية تواجه إسرائيل وأمريكا
  • العراق خامسا بين الدول العربية الأكثر استهلاكاً للكهرباء في العالم
  • مخاطر تتطلب مواجهة مشتركة.. المغرب توجه رسالة الى الدول العربية
  • قوات دولية وتطبيق حل الدولتين.. هل توصيات القمة العربية قابلة للتطبيق؟