تستعيد أمريكا والغرب صورة الذكاء الاصطناعي منذ بداياته وصولا إلى القلق الجمعي الذي صرنا نسمعه هذه الأيام من خطورة تغول ذلك العالم الغامض وصولا إلى تمرّده على البشر.

ولم تكن السينما بعيدة عن مثل هذا الاحتمال إذ عالجت مرارا تلك الثيمة وأظهرت تحول الإنسان الآلي إلى قوة متمردة على صانعه الأصلي وعلى سائر البشر، وشاهدنا خلال ذلك من خلال أفلام مثل أي روبوت وايكس ماشينا ومتسابق المتاهة وماتريكس واوديسا الفضاء والفاني وغيرها.

هذه الصورة سبقها تمهيد شهدته سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بتقديم نماذج أولية لاستخدامات الذكاء الاصطناعي واستخدام الروبوت وهو ما يقدمه هذا الفيلم للمخرج البريطاني غاريث ايدواردز (مواليد 1975) وهذا هو فيلمه الروائي الطويل الرابع، لكنه ما يلبث أن ينتهي بنا إلى حبكة خطيرة وتحول درامي غير متوقع وذلك بخروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة وضرب إحدى المدن الأمريكية بالقنبلة الذرية والتسبب بموت مليون شخص.

من هنا بدأت الحرب على الذكاء الاصطناعي وصولا إلى العام 2056 عندما تأخذ قارة آسيا الجديدة على عاتقها تطوير ذلك الذكاء الاصطناعي حتى تصبح ندا خطيرا للولايات المتحدة.

إذا سوف ننتقل إلى جغرافيا وثقافات أخرى هي خليط من البلدان الآسيوية من اليابان إلى كوريا إلى تايلند إلى غيرها، إنه ذلك الفضاء الاستوائي الذي تطور في ظله الذكاء الاصطناعي إلى إنتاج زعيم محلي يقود تلك الترسانة المخيفة وما هو إلا اندماج ما بين العقيدة الروحية والقدرة العسكرية لتنتج لنا بطلا استثنائيا يؤرق أمريكا يدعى نرماتا الذي يصبح هو الهدف الأول لأمريكا ولهذا سوف تزرع جاسوسا لها في آسيا هو جوشوا وهو ضابط سابق في الجيش الأمريكي – يؤدي الدورالممثل جون ديفيد واشنطن لاقتفاء أثر نرماتا الآسيوي الفتاك.

واقعيا نحن في مواجهة قوتين جبارتين تستخدمان أحدث ما توصل له العقل البشري، لكن في المقابل، هنالك آسيا المتفوقة التي استطاعت أن توجد تناغما بين الذكاء الاصطناعي وبين ثقافتها إذ بقيت الطبيعة الاستوائية تتدفق بالحياة وبقي القرويون بملابسهم التقليدية ولكن بالمقابل كان الذكاء الاصطناعي قد أسس جيشه وشرطته الخاصة.

أما الولايات المتحدة فلا تزال تئن وتدفع ثمن الكارثة بسبب التلوث الهائل الذي تسبب به الانفجار النووي وهي عندها إمكانات ضاربة وطيران شبحي فتاك وإمكانات هائلة في اصطياد الأهداف مما عمق من المواجهة.

على أن كاتب السيناريو وهو نفسه المخرج ومعه الكاتب كريس ويتز ما يلبثان أن يؤسسان لخط سردي مواز يتمثل في علاقة الحب التي تربط بين جوشوا والفتاة الآسيوية مايا (الممثلة جيما تشان) وهي التي تكون على وشك الإنجاب عندما تسيّر الولايات المتحدة أسلحتها الفضائية الفتاكة على أساس الظن بوجود نرماتا في المكان مما يؤدي إلى مقتل مايا وجنينها وهو ما سيؤذي مشاعر جوشوا بشدة لكن ماذا لو تقدم له الجيش الأمريكي وأجهزة المخابرات بعرض مفاده أنهم سوف يعيدون له مايا حية بشرط الانضمام لمهمة قتالية جديدة ومعركة فاصلة للقضاء على قائد الذكاء الاصطناعي الآسيوي نرماتا وهو ما سوف يوافق عليه جوشوا للخروج من جو الكآبة الذي كان يعيشه بسبب فقدان زوجته.

بالطبع كل ما ورد يبدو نمطا شكليا من أنماط الحروب والصراعات التي خاضتها أمريكا حول العالم والتي تم تجسيدها من خلال الأفلام الهوليودية، فهي لم تترك أرضا إلا وحاربتها أو مرّت بها وحاربت أمما وانتصرت عليها وكما قال كيسنجر يوما، إن لم يكن هنالك عدو لنا فسوف نوجده، لكن الجديد والمختلف في هذا الفيلم يكمن في براعة المخرج وفريقه الفني لاسيما إنه قادم من التخصص الرقمي الدقيق باستخدام المؤثرات البصرية الخاصة والحلول الرقمية والخدع البصرية.

يقدم لنا المخرج كثافة لافتة للنظر لتلك التفاصيل التقنية المذهلة فكل ما تشاهده يحيلك إلى العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي حتى لا تبدو القصة مفبركة ولا مفتعلة، فهنالك الجيوش المدججة بالسلاح في آسيا وهم نصف آليون ونصف بشر ينتشرون في الحقول والغابات ويدينون بالطاعة المطلقة لنرماتا ويؤمنون أنه مختلف ويمتلك من الحكمة ما يقودهم للنصر في مقابل جنود أمريكا البشريون المسلحون بالتقنيات الحديثة.

على وفق هذه الأرضية من الصراع سوف يمضي المخرج في نقلنا إلى فصول معركة طويلة ومركبة لا يكفي معها استخدام الخدع السينمائية في أعلى مستويات تطورها بل إنه يدمج كل ذلك بمشاهد ترتبط بالأرض والمكان والطبيعة حتى لا يبدو ما تراه مصطنعا أو مفبركا وقد أجاد في مثل هذا الإدماج البصري المؤثر الذي عززه وأوصله إلى الذروة مدير التصوير المخضرم الأسترالي كريج فريزر الذي سبق له وقاد عملية التصوير في أفلام مهمة أبرزها الفيلم الملحمي الكبير ديون وفيلم باتمان وفيلم روج وان وهو للمخرج نفسه وأفلام أخرى.

ولعل الحديث عن البراعة البصرية سوف ينقلنا أيضا إلى المونتاج المتميز على يد هانك كروين الذي سبق وترك بصماته في أفلام مثل فايس وبعد السقوط وشجرة الحياة ونيكسون وقتلة بالفطرة وغيرها، وهو أكمل مهمة المخرج ببراعة من خلال الانسيابية اللافتة للنظر في الانتقالات السلسة بين حجوم الكادرات وأنوع مشاهد الحركة وكذلك مستويات التصوير العلوية وأجاد مواكبة الكاميرا وهي تنقل بين البيئات المختلفة فضلا عن إكمال ذلك الإيحاء الديستوبي القاتل ومشاهد المواجهات والمعارك.

بالطبع سوف يكمل مهمة هذا الفريق المحنك على الجانب الصوتي والذي اضطلع به الألماني هانس زيمر المشهود ببراعته وحصوله على العديد من الجوائز المهمة ومن أبرزها الأوسكار عن فيلم الأسد – 1995 وفيلم ديون – 2022 وهو واضع الموسيقى التصويرية لعشرات الأفلام المهمة مثل رجل المطر والصخرة والمهمة المستحيلة والمصارع وهانيبال والملك آرثر وباتمان وشرلوك هولمز وغيرها.

على أن الانتقال السردي في هذه الدراما الفيلمية كان في اكتشاف الضابط الأمريكي الذي قطعت ذراعه بسبب الانفجار النووي الذي تسبب به الذكاء الاصطناعي، وجود طفلة نصف آلية لكن لديها قدرة خارقة ولم يخطر على بال جوشوا ولا أي أحد أن هذا هو نرماتا المطاع الذي يدير كل آسيا الجديدة ويقودها في معركتها ضد أمريكا لكن في المقابل تنشأ علاقة بين الطرفين تتجلى خلالها قدرات الطفلة الاستثنائية لننتقل معهما إلى العديد من مشاهد قطع الأنفاس والمعارك الطاحنة التي تستخدم فيها الكائنات الروبوتية المدججة بأسلحة الليزر بينما تقوم الولايات المتحدة بإرسال جنودها ومخابراتها لتنفذ عمليات تذكرك بعملياتها في فيتنام وأفغانستان والعراق لإظهار خارقية جنودها ومخابراتها لكنها مع الذكاء الاصطناعي وهذه العقيدة القتالية الآسيوية الشرسة تبدو أضعف وأكثر هشاشة.

اهتم الكثير من النقاد بهذا الفيلم وتوقفوا عنده وقفات مطولة ومن ذلك ما كتبته كريستي ليماير في موقع روجر ايبيرت، إذ أشارت إلى غنى هذا الفيلم بصريا في مقابل فقره الدرامي من وجهة نظرها، بينما رأت الناقدة ويندي ايد في الغارديان البريطانية أن التصوير والمونتاج في هذا الفيلم قد نجحا في تجذير ذلك العداء بين الإنسان والذكاء الاصطناعي فضلا عن عوامل التفوق عند الآسيويين الذين تفوقوا على الأمريكان من خلال الإدماج بين الهندسة البشرية والذكاء الاصطناعي.

...

إخراج/ غاريث إيدواردز

سيناريو/ غاريث إيدواردز وكريس ويتز

تمثيل/ جون ديفيد واشنطن وجيما تشان وكين واتاناب وسترغل سيمبسون

مدير التصوير/ غرك فيرزر

تقييمات/ روتين توماتو 66%، أي ام دي بي 7 من 10، الغارديان 5 من 10

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی هذا الفیلم من خلال

إقرأ أيضاً:

كيف تواكب المؤسسات الدينية الذكاء الاصطناعي دون تفريط في الفتوى؟ مفتي الجمهورية يُجيب

أكد مفتي الجمهورية الدكتور نظير عياد، أن مؤتمر صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي والمقرر أن تعقده الدار على مدار يومي 12 و 13 أغسطس القادم يهدف إلى استكشاف تأثير الذكاء الاصطناعي على الفتوى الشرعية، مع التأكيد على أهمية الجمع بين التقنيات الحديثة وأصول العلم الشرعي.

وقال مفتي الجمهورية في حوار خاص مع وكالة أنباء الشرق الأوسط اليوم السبت، إن المؤسسات الدينية بحاجة إلى مواكبة الثورة الرقمية عبر التحول إلى الفتوى الرقمية، مع ضمان أن تكون الفتوى مسؤولة أخلاقيًا وإنسانيًا، وأن التحديات الكبرى تشمل الفتاوى الآلية المضللة واستخدام الذكاء الاصطناعي في دعم الخطاب المتطرف.

وأشار عياد، إلى ضرورة أن يكون المفتي العصري فقيها ومفكرا، وعلينا توظيف الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة للمفتي دون التفريط في القرار الإفتائي، موضحا أن الرسالة الأساسية التي يسعى المؤتمر لإيصالها هي رسالة عالمية بامتياز، تعكس عمق الدور الحضاري الذي تضطلع به دار الإفتاء المصرية وذراعها الدولية متمثلة في الأمانة العامة لِدُور وهيئات الإفتاء في العالم في هذا العصر المتداخل.

وأوضح أنه من أبرز ما نأمل من مخرجاته هو إعداد تقرير استشرافي شامل حول التحديات والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي على الفتوى عالميًا، يتضمن تحليلاً للوضع القائم، وسيناريوهات للمستقبل، وتوصيات عملية موجهة لصناع القرار الديني، وكذلك تطوير خطاب عالمي مشترك يدعو إلى أخلاقيات رقمية عادلة، ويؤكد أن الفتوى ليست مجرد معلومة تُنتج، بل مسؤولية دينية وأخلاقية وإنسانية، فضلاً عن فتح قنوات تعاون وشراكات جديدة بين المؤسسات الدينية حول العالم، لتوحيد الجهود وتبادل الخبرات، خصوصًا في ما يتعلق بالتقنيات الجديدة، ومواجهة خطاب الكراهية، وتصحيح الصورة النمطية عن الإسلام.

وتابع:" أنه لا شك أن هذه المخرجات تمثل نقلة نوعية من العمل الإقليمي إلى الفعل الحضاري العالمي، وهي مسؤولية نضطلع بها في دار الإفتاء المصرية، والأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، بكل وعي وإصرار، وتمثل صميم رسالتنا.

ورأى المفتي، أن المؤسسات الدينية تحتاج إلى مقاربة مزدوجة، تتمثل في فهم عميق لأدوات العصر، وتمسك راسخ بأصول العلم الشرعي، فالتحول الرقمي ليس مجرد ترف تقني أو تحديث إداري، بل هو إعادة صياغة لكيفية الوصول إلى الجمهور، ومخاطبته، والتفاعل معه، في زمن تغيرت فيه وسائل السؤال، وأنماط الفهم، وحتى اللغة.

ونوه عياد، إلى أنه يمكن للمؤسسات الدينية أن تواكب الثورة الرقمية من خلال عدة مسارات استراتيجية، أبرزها التحول من الفتوى الورقية إلى الفتوى الرقمية الذكية، وبناء قاعدة بيانات معرفية فقهية رقمية، وتكوين "المفتي الرشيد" لا المفتي الآلي، وكذلك تدريب العلماء والدعاة على مهارات العصر.

ولفت إلى أنه يجب أن يعي الجميع أن الفرد مهما بلغت كفاءته، يبقى رهينًا ببيئة مؤسسية إما أن تطلق طاقاته أو تعيقه، لذلك سنعمل من خلال المؤتمر على دعم التحول المؤسسي داخل هيئات الإفتاء من خلال وضع معايير لقياس الأداء المؤسسي الإفتائي في العصر الرقمي، تتضمن مؤشرات مرجعية دقيقة لمدى التأثير المجتمعي للفتوى، ومردودها الإعلامي، وآليات ضبطها وتحليلها، إلى جانب توصيات بإنشاء فرق بحثية متخصصة داخل كل مؤسسة إفتائية، تتولى رصد المستجدات التقنية والقيمية التي تؤثر في واقع الفتوى، وتقديم الاستجابات العلمية المناسبة لها.

وأضاف الدكتور نظير، أن ذلك يأتي فضلًا عن دعم التجارب الدولية الناجحة من خلال تخصيص محور كامل في المؤتمر لعرض تجارب الدول في تطوير الأداء الإفتائي، مثل تجربة دار الإفتاء المصرية، والأردنية، والماليزية، والأوزبكية، وغيرها، وهذا التصور يفتح الباب أمام نقلة نوعية في البنية المؤسسية للفتوى، تنقلها من النمط التقليدي إلى نموذج رقمي متكامل، يراعي الشفافية، والحوكمة، وجودة المخرجات.

وعن التحديات التي يواجهها المفتي في عصر الذكاء الاصطناعي، قال إن هناك جملة من التحديات فرضها انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي، فاليوم يستطيع أي برنامج أن يولد نصوصًا دينية، أو يقدم إجابات على مسائل شرعية، دون ضبط علمي أو شرعي أو سياقي، وهنا يكمن الخطر، لأن المتلقي قد يخلط بين الفتوى الشرعية الموثوقة، وبين المحتوى الاصطناعي الخالي من المرجعية.

وأوضح مفتي الجمهورية، أنه من أبرز هذه التحديات هو انتشار "الفتاوى الآلية" التي تصدر عبر روبوتات أو منصات مدعومة بذكاء اصطناعي بلا إشراف، وكذلك التضليل الخوارزمي حيث تظهر للجمهور فتاوى شاذة أو منحرفة لأنها تتفق مع ميوله أو بحثه السابق، وأيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في دعم الخطاب المتطرف، واستغلال ضعف الوعي المجتمعي في التمييز بين المفتي الحقيقي والمنتج الرقمي المصطنع، لذلك نعمل في دار الإفتاء من خلال الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم على إطلاق مؤشرات ذكية لرصد الفتاوى المنتشرة عبر الإنترنت، وتطوير أدوات تحليل رقمية لرصد الاتجاهات المنحرفة، كما نسعى خلال المؤتمر إلى وضع ميثاق دولي للفتوى الرقمية يراعي الضوابط الشرعية والأخلاقية، ويحدد الإطار الذي ينبغي أن تتحرك فيه المؤسسات.

وبشأن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم القرار الإفتائي دون المساس بجوهر الفتوى الشرعية، أكد المفتي أن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للفتوى، لكنه ليس مفتيًا، فهو أداة قوية، لكنها تفتقر إلى العقل المقاصدي، والنظر الفقهي، والتقدير الإنساني الذي تستلزمه الفتوى، ولذلك فإن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم القرار الإفتائي لا يعني تفويض الآلة بإصدار الفتوى، بل استخدام قدراتها في تمكين العالِم الحقيقي من أداء دوره بصورة أدق وأسرع وأكثر وعيًا بتغيرات الواقع.

وشدد عياد، على أن الدار لا تتخوف من التقنية بحد ذاتها، بل من استقلالها عن الضوابط الشرعية والأخلاقية، وإذا استخدم الذكاء الاصطناعي وفق ضوابط رشيدة يمكن أن يكون عونًا للمفتي، وأداة مساعدة له ومحسنة من عمله وأدائه، وعلى سبيل المثال يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي في تصنيف الأسئلة، وتحليل الأنماط، والمساعدة في بناء قواعد بيانات ضخمة من الفتاوى، أو حتى تقديم إجابات مبدئية لبعض المسائل الشائعة أو الفتاوى العامة بناءً على فتاوى سابقة، لكن لا يمكن، ولن يكون مقبولًا، أن تتصدر الآلة مشهد إصدار الحكم الشرعي، لأن الفتوى ليست عملية حسابية أو منطقية فقط، بل هي اجتهاد إنساني مركب يتطلب الوعي بالمقاصد، وتحقيق المناط، ومعرفة حال المستفتي، ومراعاة الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.

وأشار المفتي، إلى أن الضوابط تبدأ من التأكيد أن الذكاء الاصطناعي خادم للفقيه، لا حاكم عليه أو مستقل عنه، وأن الفتوى الصادرة عبر الآلة يجب أن تمر دومًا بمراجعة بشرية من جهة مؤسسية مسؤولة.

وأوضح أن الفتوى في فلسفة الدار "بنت زمانها"، ليست استنساخًا لحلول الماضي، بل اجتهادًا متجددًا يوازن بين النص والمصلحة، بين القيم الثابتة والمتغيرات الطارئة، وهنا نؤكد أن دار الإفتاء تضم لجانًا علمية متخصصة تعكف على دراسة المسائل المستجدة، وتشرك خبراء من مجالات متعددة لفهم أبعاد الظواهر الحديثة، بما يضمن أن تكون الفتوى مواكبة دون أن تفرط، وعصرية دون أن تشوه مرجعيتها، وبهذا النهج تقدم دار الإفتاء نموذجًا حيًّا لمؤسسة دينية تجمع بين عمق التراث وحيوية الحاضر.

وعن دور التدريب والتأهيل المستمر للمفتين في بناء مفتي يواكب هذا العصر المعقد، قال إن تكوين المفتي المعاصر أصبح أمرًا ضروريًا ولا يمكن حصره في حدود الفقه التقليدي، ذلك لأن المفتي العصري لا بد أن يكون فقيهًا ومفكرًا وناصحًا اجتماعيًا ملمًا بعلوم وأدوات العصر.

وأشار عياد، إلى أنه بات ذلك مشروعًا مركبًا يتطلب تأهيلًا متعدد الأبعاد، يتقاطع فيه الفقه مع علوم الاجتماع والعلوم الإنسانية والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا وعلوم الاتصال، ولهذا السبب، انتهجت الدار في السنوات الأخيرة نهج الشراكة المؤسسية مع جهات أكاديمية ومتخصصة لتقديم تدريب نوعي للمفتين الجدد.

ولفت إلى أن الدار لا تكتفي بالتدريب الداخلي في "مركز إعداد المفتين"، بل تنسق بفاعلية مع كيانات رائدة مثل أكاديمية الأزهر العالمية للتدريب، ومؤسسات متخصصة في الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، وهذا التوسع في الشراكات يعكس قناعة الدار بأن المفتي اليوم بحاجة إلى أدوات معرفية وسلوكية تتجاوز الجواب الفقهي، ليصبح قادرًا على التعامل مع الأسئلة المركبة التي تمزج بين الدين والمجتمع والاقتصاد، وفهم البيئة الرقمية ووسائل التواصل التي تعيد تشكيل الفتوى يومًا بعد يوم، والتواصل الفعال مع جمهور متعدد الثقافات والمستويات.

وأكد عياد، الحرص على أن تكون الفتوى الصادرة عنها نتاجًا لتكامل علمي ومهني رفيع، حيث لا تكتفي بالاجتهاد الشرعي المجرد، بل تعلي من قيمة التشاور مع أهل التخصص في مختلف المجالات عند النظر في النوازل والقضايا المستجدة، وذلك إيمانًا منها بأن الفتوى الرشيدة لا تبني فقط على فهم النصوص، بل أيضًا على إدراك الواقع وتشعباته.

وفيما يخص تطوير الأدوات أو البرامج التي تعتمدها دار الإفتاء حاليًا لتسهيل العمل الإفتائي، فأكد أننا نعيش لحظة مفصلية تعيد تعريف وظيفة المفتي ودوره المجتمعي، لم يعد المفتي مجرد فقيه يجيب عن حكم الطهارة والصلاة فقط، بل أصبح رجلًا يخاطب الإنسان المعاصر، بلغته، وهمومه، وتحدياته، وسط عالم شديد التعقيد، لذلك لم تعد الكفاءة الشرعية كافية وحدها، بل أصبح من الضروري أن يضاف إليها وعي واقعي، وثقافة موسوعية، وفهم نفسي، وإدراك للسياقات الاجتماعية والسياسية والتقنية.

وأشار إلى أن المفتي اليوم يجب أن يعرف شيئًا عن الإعلام الرقمي، والاقتصاد السلوكي، والعلاقات الدولية، وقضايا البيئة والتكنولوجيا، لهذا حرصنا في دار الإفتاء على تطوير برامج تكوين المفتي لتشمل مواد مثل "فقه الواقع"، و"دراسات إنسانية"، و"مهارات القيادة والتواصل"، إلى جانب تدريب عملي مباشر على التعامل مع الأسئلة الجديدة والملفات والأدوات المعاصرة.

وعن التمييز بين الفتوى الصادرة عن عقل بشري مؤهل والردود التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، قال المفتي إن التمييز يبدأ من فهم جوهري لطبيعة كل منهما، فالمفتي الإنسان لا ينقل حكمًا فحسب، بل يجتهد، ويراعي المقاصد، ويقدر الظروف، ويتحمل مسؤولية الكلمة التي يوقع بها عن الله، بينما الذكاء الاصطناعي يقدم ردودًا آلية مستندة إلى أرشيف من النصوص والمعلومات، دون وعي أو فقه للسياقات الفردية والاجتماعية.

وأضاف عياد، أنه من ثم فالفتوى البشرية تتسم بالتفصيل، وبالقدرة على التمييز بين الحالات، وبالتردد الورع أحيانًا في إصدار الحكم، في حين تميل إجابات الآلة إلى الاختزال، والجمود، وغياب الحس الإنساني، فلا تعرف التدرج، ولا تتردد في القطع بحكم دون مراعاة لحالة السائل أو لزمانه ومكانه، كما أن المفتي البشري قد يقول لا أعلم تواضعًا وخشية، بينما الآلة تجيب على كل شيء بلا مسؤولية، ولعل أخطر ما في الفتوى الآلية أنها تخفي ظاهرها المنضبط تحت قناع تقني، بينما تفرغ الفتوى من بعدها الشرعي والروحي والإنساني، ولهذا يبقى الوعي مصدر الأمان، فكل فتوى تفتقر إلى الاجتهاد، ولا تراعي المقاصد، ولا تحمل في طياتها تمييزًا بين الناس والسياقات، لا بد أن يعاد النظر فيها.

اقرأ أيضاًمفتي الجمهورية: الجهود الوطنية تُجسد يقظة دائمة بمسؤولية حماية البلاد

مفتي الجمهورية ينعى الأمير الوليد بن خالد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود

مفتي الجمهورية: تطوير الميدان الإبراهيمي بدسوق خطوة مهمة لإحياء التراث الديني والحضاري

مقالات مشابهة

  • دعوة لمقاربة شاملة لتنظيم الذكاء الاصطناعي
  • الجدل الاقتصادي في شأن الذكاء الاصطناعي 1/5
  • الذكاء الاصطناعي يفضّل الاستشهاد بالمحتوى الصحفي
  • فيديو.. مباراة تنس بلا نهاية بين روبوتات غوغل لتدريب الذكاء الاصطناعي
  • البشر يتبنون لغة الذكاء الاصطناعي دون أن يشعروا
  • الصين تحذر من احتكار الذكاء الاصطناعي
  • كيف تواكب المؤسسات الدينية الذكاء الاصطناعي دون تفريط في الفتوى؟ مفتي الجمهورية يُجيب
  • الذكاء الاصطناعي يساعد على توقع الخصائص الكيميائية
  • أهم ما يميز أداة الذكاء الاصطناعي نوت بوك إل إم من غوغل
  • كشف دليل داعش السري: كيف يستخدم التنظيم الذكاء الاصطناعي؟