تستعيد أمريكا والغرب صورة الذكاء الاصطناعي منذ بداياته وصولا إلى القلق الجمعي الذي صرنا نسمعه هذه الأيام من خطورة تغول ذلك العالم الغامض وصولا إلى تمرّده على البشر.

ولم تكن السينما بعيدة عن مثل هذا الاحتمال إذ عالجت مرارا تلك الثيمة وأظهرت تحول الإنسان الآلي إلى قوة متمردة على صانعه الأصلي وعلى سائر البشر، وشاهدنا خلال ذلك من خلال أفلام مثل أي روبوت وايكس ماشينا ومتسابق المتاهة وماتريكس واوديسا الفضاء والفاني وغيرها.

هذه الصورة سبقها تمهيد شهدته سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بتقديم نماذج أولية لاستخدامات الذكاء الاصطناعي واستخدام الروبوت وهو ما يقدمه هذا الفيلم للمخرج البريطاني غاريث ايدواردز (مواليد 1975) وهذا هو فيلمه الروائي الطويل الرابع، لكنه ما يلبث أن ينتهي بنا إلى حبكة خطيرة وتحول درامي غير متوقع وذلك بخروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة وضرب إحدى المدن الأمريكية بالقنبلة الذرية والتسبب بموت مليون شخص.

من هنا بدأت الحرب على الذكاء الاصطناعي وصولا إلى العام 2056 عندما تأخذ قارة آسيا الجديدة على عاتقها تطوير ذلك الذكاء الاصطناعي حتى تصبح ندا خطيرا للولايات المتحدة.

إذا سوف ننتقل إلى جغرافيا وثقافات أخرى هي خليط من البلدان الآسيوية من اليابان إلى كوريا إلى تايلند إلى غيرها، إنه ذلك الفضاء الاستوائي الذي تطور في ظله الذكاء الاصطناعي إلى إنتاج زعيم محلي يقود تلك الترسانة المخيفة وما هو إلا اندماج ما بين العقيدة الروحية والقدرة العسكرية لتنتج لنا بطلا استثنائيا يؤرق أمريكا يدعى نرماتا الذي يصبح هو الهدف الأول لأمريكا ولهذا سوف تزرع جاسوسا لها في آسيا هو جوشوا وهو ضابط سابق في الجيش الأمريكي – يؤدي الدورالممثل جون ديفيد واشنطن لاقتفاء أثر نرماتا الآسيوي الفتاك.

واقعيا نحن في مواجهة قوتين جبارتين تستخدمان أحدث ما توصل له العقل البشري، لكن في المقابل، هنالك آسيا المتفوقة التي استطاعت أن توجد تناغما بين الذكاء الاصطناعي وبين ثقافتها إذ بقيت الطبيعة الاستوائية تتدفق بالحياة وبقي القرويون بملابسهم التقليدية ولكن بالمقابل كان الذكاء الاصطناعي قد أسس جيشه وشرطته الخاصة.

أما الولايات المتحدة فلا تزال تئن وتدفع ثمن الكارثة بسبب التلوث الهائل الذي تسبب به الانفجار النووي وهي عندها إمكانات ضاربة وطيران شبحي فتاك وإمكانات هائلة في اصطياد الأهداف مما عمق من المواجهة.

على أن كاتب السيناريو وهو نفسه المخرج ومعه الكاتب كريس ويتز ما يلبثان أن يؤسسان لخط سردي مواز يتمثل في علاقة الحب التي تربط بين جوشوا والفتاة الآسيوية مايا (الممثلة جيما تشان) وهي التي تكون على وشك الإنجاب عندما تسيّر الولايات المتحدة أسلحتها الفضائية الفتاكة على أساس الظن بوجود نرماتا في المكان مما يؤدي إلى مقتل مايا وجنينها وهو ما سيؤذي مشاعر جوشوا بشدة لكن ماذا لو تقدم له الجيش الأمريكي وأجهزة المخابرات بعرض مفاده أنهم سوف يعيدون له مايا حية بشرط الانضمام لمهمة قتالية جديدة ومعركة فاصلة للقضاء على قائد الذكاء الاصطناعي الآسيوي نرماتا وهو ما سوف يوافق عليه جوشوا للخروج من جو الكآبة الذي كان يعيشه بسبب فقدان زوجته.

بالطبع كل ما ورد يبدو نمطا شكليا من أنماط الحروب والصراعات التي خاضتها أمريكا حول العالم والتي تم تجسيدها من خلال الأفلام الهوليودية، فهي لم تترك أرضا إلا وحاربتها أو مرّت بها وحاربت أمما وانتصرت عليها وكما قال كيسنجر يوما، إن لم يكن هنالك عدو لنا فسوف نوجده، لكن الجديد والمختلف في هذا الفيلم يكمن في براعة المخرج وفريقه الفني لاسيما إنه قادم من التخصص الرقمي الدقيق باستخدام المؤثرات البصرية الخاصة والحلول الرقمية والخدع البصرية.

يقدم لنا المخرج كثافة لافتة للنظر لتلك التفاصيل التقنية المذهلة فكل ما تشاهده يحيلك إلى العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي حتى لا تبدو القصة مفبركة ولا مفتعلة، فهنالك الجيوش المدججة بالسلاح في آسيا وهم نصف آليون ونصف بشر ينتشرون في الحقول والغابات ويدينون بالطاعة المطلقة لنرماتا ويؤمنون أنه مختلف ويمتلك من الحكمة ما يقودهم للنصر في مقابل جنود أمريكا البشريون المسلحون بالتقنيات الحديثة.

على وفق هذه الأرضية من الصراع سوف يمضي المخرج في نقلنا إلى فصول معركة طويلة ومركبة لا يكفي معها استخدام الخدع السينمائية في أعلى مستويات تطورها بل إنه يدمج كل ذلك بمشاهد ترتبط بالأرض والمكان والطبيعة حتى لا يبدو ما تراه مصطنعا أو مفبركا وقد أجاد في مثل هذا الإدماج البصري المؤثر الذي عززه وأوصله إلى الذروة مدير التصوير المخضرم الأسترالي كريج فريزر الذي سبق له وقاد عملية التصوير في أفلام مهمة أبرزها الفيلم الملحمي الكبير ديون وفيلم باتمان وفيلم روج وان وهو للمخرج نفسه وأفلام أخرى.

ولعل الحديث عن البراعة البصرية سوف ينقلنا أيضا إلى المونتاج المتميز على يد هانك كروين الذي سبق وترك بصماته في أفلام مثل فايس وبعد السقوط وشجرة الحياة ونيكسون وقتلة بالفطرة وغيرها، وهو أكمل مهمة المخرج ببراعة من خلال الانسيابية اللافتة للنظر في الانتقالات السلسة بين حجوم الكادرات وأنوع مشاهد الحركة وكذلك مستويات التصوير العلوية وأجاد مواكبة الكاميرا وهي تنقل بين البيئات المختلفة فضلا عن إكمال ذلك الإيحاء الديستوبي القاتل ومشاهد المواجهات والمعارك.

بالطبع سوف يكمل مهمة هذا الفريق المحنك على الجانب الصوتي والذي اضطلع به الألماني هانس زيمر المشهود ببراعته وحصوله على العديد من الجوائز المهمة ومن أبرزها الأوسكار عن فيلم الأسد – 1995 وفيلم ديون – 2022 وهو واضع الموسيقى التصويرية لعشرات الأفلام المهمة مثل رجل المطر والصخرة والمهمة المستحيلة والمصارع وهانيبال والملك آرثر وباتمان وشرلوك هولمز وغيرها.

على أن الانتقال السردي في هذه الدراما الفيلمية كان في اكتشاف الضابط الأمريكي الذي قطعت ذراعه بسبب الانفجار النووي الذي تسبب به الذكاء الاصطناعي، وجود طفلة نصف آلية لكن لديها قدرة خارقة ولم يخطر على بال جوشوا ولا أي أحد أن هذا هو نرماتا المطاع الذي يدير كل آسيا الجديدة ويقودها في معركتها ضد أمريكا لكن في المقابل تنشأ علاقة بين الطرفين تتجلى خلالها قدرات الطفلة الاستثنائية لننتقل معهما إلى العديد من مشاهد قطع الأنفاس والمعارك الطاحنة التي تستخدم فيها الكائنات الروبوتية المدججة بأسلحة الليزر بينما تقوم الولايات المتحدة بإرسال جنودها ومخابراتها لتنفذ عمليات تذكرك بعملياتها في فيتنام وأفغانستان والعراق لإظهار خارقية جنودها ومخابراتها لكنها مع الذكاء الاصطناعي وهذه العقيدة القتالية الآسيوية الشرسة تبدو أضعف وأكثر هشاشة.

اهتم الكثير من النقاد بهذا الفيلم وتوقفوا عنده وقفات مطولة ومن ذلك ما كتبته كريستي ليماير في موقع روجر ايبيرت، إذ أشارت إلى غنى هذا الفيلم بصريا في مقابل فقره الدرامي من وجهة نظرها، بينما رأت الناقدة ويندي ايد في الغارديان البريطانية أن التصوير والمونتاج في هذا الفيلم قد نجحا في تجذير ذلك العداء بين الإنسان والذكاء الاصطناعي فضلا عن عوامل التفوق عند الآسيويين الذين تفوقوا على الأمريكان من خلال الإدماج بين الهندسة البشرية والذكاء الاصطناعي.

...

إخراج/ غاريث إيدواردز

سيناريو/ غاريث إيدواردز وكريس ويتز

تمثيل/ جون ديفيد واشنطن وجيما تشان وكين واتاناب وسترغل سيمبسون

مدير التصوير/ غرك فيرزر

تقييمات/ روتين توماتو 66%، أي ام دي بي 7 من 10، الغارديان 5 من 10

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی هذا الفیلم من خلال

إقرأ أيضاً:

إيكونوميست: الذكاء الاصطناعي يُسرّع العمل ولن يقصي البشر

أكدت صحيفة "إيكونوميست" البريطانية في تقرير حديث لها أن المخاوف المتزايدة بشأن قيام الذكاء الاصطناعي بالقضاء على الوظائف لا تزال حتى الآن غير مدعومة بأي أدلة اقتصادية حقيقية، مشيرة إلى أن سوق العمل العالمي لا يزال صامدًا بل ويُظهر مؤشرات نمو في عدة قطاعات.

وقالت الصحيفة إن الذكاء الاصطناعي يواصل تطوره أسبوعًا بعد أسبوع، حتى بات قادرًا على تنفيذ مهام متقدمة مثل كتابة التقارير وإنشاء الفيديوهات الفورية، مع انخفاض ملحوظ في معدلات "الهلاوس" التي كانت تميز الجيل السابق من هذه النماذج.

ومع ذلك، لم تظهر أي موجة تسريح جماعي بسبب الذكاء الاصطناعي، رغم أن مصطلح "AI unemployment" (البطالة بسبب الذكاء الاصطناعي) سجل أعلى معدل بحث عالميًا عبر غوغل في وقت سابق هذا العام.

 

ترجمان لا أكثر.. وتكنولوجيا لا تُطيح بالبشر

واستند التقرير إلى دراسة شهيرة نُشرت مؤخرًا للباحثين كارل بنديكت فري وبيدرو يانوس-باريديس من جامعة أكسفورد، والتي تربط بين الأتمتة وتراجع الطلب على المترجمين. إلا أن بيانات وزارة العمل الأميركية تكشف أن عدد العاملين في مجالات الترجمة والتفسير ارتفع بنسبة 7% مقارنة بالعام الماضي، وهو ما يدحض هذه الفرضية.

كما أشار التقرير إلى شركة التكنولوجيا المالية "كلارنا" التي كانت قد تباهت سابقًا باستخدام الذكاء الاصطناعي لأتمتة خدمات العملاء، لكنها عادت مؤخرًا عن هذا التوجه. وقال المدير التنفيذي للشركة، سباستيان سيمياتكوفسكي: "سيظل هناك دائمًا إنسان إذا أردت ذلك".

إعلان لا دليل على "كابوس الوظائف"

وحلل التقرير أيضًا معدلات البطالة بين خريجي الجامعات الجدد مقارنة بمتوسط البطالة العام في أميركا، وهو مقياس غالبًا ما يُستخدم لاستشراف آثار التكنولوجيا على الوظائف.

ووجدت "إيكونوميست" أن نسبة بطالة الخريجين بلغت نحو 4% فقط، وهي نسبة منخفضة تاريخيًا، وأن الفارق بين بطالتهم وبطالة باقي السوق بدأ منذ 2009، أي قبل ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي بزمن طويل.

وفي تحليل شامل لبيانات التوظيف حسب المهنة، ركز التقرير على وظائف "الياقات البيضاء" مثل العاملين في الدعم الإداري، والخدمات المالية، والمبيعات، وهي الفئات التي يُعتقد أنها الأكثر عرضة للاستبدال بالذكاء الاصطناعي. لكن النتيجة جاءت معاكسة تمامًا، إذ ارتفعت نسبة العاملين في هذه الفئات بشكل طفيف خلال العام الماضي.

وأشار التقرير إلى أن معدل البطالة في الولايات المتحدة لا يزال منخفضًا عند 4.2%، وأن نمو الأجور لا يزال قويًا، وهو ما يتعارض تمامًا مع فرضية انخفاض الطلب على العمالة.

أما عالميًا، فقد سجل معدل التوظيف في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) مستوىً قياسيًا في عام 2024.

لماذا لا يُفقدنا الذكاء الاصطناعي وظائفنا؟

وطرحت "إيكونوميست" تفسيريْن رئيسييْن لثبات معدلات التوظيف رغم ضجة الذكاء الاصطناعي:

قلة الاستخدام الفعلي للتقنية: حيث تُظهر الإحصاءات الرسمية أن أقل من 10% من الشركات الأميركية تستخدم الذكاء الاصطناعي فعليًا في إنتاج السلع والخدمات. تحسين الأداء لا الاستغناء عن البشر: حتى عندما تعتمد الشركات هذه التكنولوجيا، فإنها لا تُقيل موظفيها، بل تستفيد من التقنية في زيادة الكفاءة وتسريع المهام.

وختمت المجلة تقريرها بالتأكيد على أنه لا يوجد في الوقت الحالي ما يستدعي الذعر، فالحديث عن "نهاية الوظائف" لا يزال أقرب إلى صبي يصرخ بوجود ذئب، بينما لا شيء في الأفق حتى الآن.

إعلان

مقالات مشابهة

  • وليد علاء الدين: الشعراء أول مَن وضع أسس الذكاء الاصطناعي!
  • الذكاء الاصطناعي يثير ضجة حول عادل إمام
  • الأخلاقيات في الأتمتة: معالجة التحيز في الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي يقلب موازين البحث في في غوغل
  • الذكاء الاصطناعي.. إلى أين يقود العالم؟
  • الذكاء الاصطناعي يدخل عالم التسوق
  • الذكاء الاصطناعي والدراما العراقية.. صراع بين تطور التقنية السريع وبطء الواقع
  • "ديب سيك" الصينية تحدث نموذج الذكاء الاصطناعي R1
  • الذكاء الاصطناعي واقـــع لا مفـــرّ منـــه
  • إيكونوميست: الذكاء الاصطناعي يُسرّع العمل ولن يقصي البشر