ديسمبر: لكن أزهار الشتاء بخيلة
تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT
ديسمبر: لكن أزهار الشتاء بخيلة
خالد فضل
لنيّف وعشرين سنة مضت من عمر الزمان الذي ما نزال نحيا في أحشائه، نتقلّب في رحمه ريثما يقذفنا إلى زمان الأبدية، ظلّ شهر ديسمبر من كل عام يعني لنا في أسرة كمبوني الخرطوم؛ زمنا مغايرا عن بقية العام.
ديسمبر شهر الميلاد المجيد عند المسيحيين الكاثوليك، و25 منه يمثل ذروة مجد تلك الاحتفالات، ففي لحظة الميلاد تتبدد الظلمات كما يقول مقطع إنشاد من ترانيم الميلاد، وكنت دوما ضمن المشاركين في تلك الإحتفالات رفقة الزميل الصديق روبرت أبّو حياه الغمام أينما أقام، وأرسل له التهاني مقدما.
عاصرنا خلال تلك السنوات عدداً من الآباء شغلوا منصب العميد في مدارس كمبوني الخرطوم ثلاثة ايطاليين وبريطاني من أصول مصرية وبولندي وفلبيني، الأمانة تقتضي القول إنهم جميعا كانوا من محبي السلام ومن عاشقي السودان المتفانين في خدمة التعليم فيه، وهذه سانحة لتحية الأحياء منهم فقد رحل الأب بيبينو قبل سنوات قليلة.
بعد هذه السنوات الطوال يتلفت القلب الآن حزينا، وقد كان اليوم في الطابور الصباحي يبدأ في بعض الأحيان بدعاء ويسمونه الصلاة، تقول بعض كلماته- من الذاكرة فعفوا إن لم يكن دقيقا- يا الله أجعلني أداة للسلام، فحيث الظلام أزرع النور وحيث الشك أزرع اليقين وحيث الكراهية أزرع الحب… إلخ، لقد كانت تلك من الافتتاحيات الرائعة جدا في قلب الخرطوم، وفي شارع القصر الجمهوري على مقربة من مقر القيادة العامة للقوات المسلحة وليس بعيدا عن البرج الذي كان مقرا فيما يبدو لأحد أفرع قيادة قوات الدعم السريع!!
وإلى أضلاع هذا المثلث الملعون تنسب كل الجرائر التي يعيش في كنفها السودانيون/ ات منذ صبيحة السبت 15 أبريل من هذا العام الذي يلملم بقية أيامه ليرحل، ومن الصدف أنني أمضيت ومعي مئات الطلبة/ ات والزملاء/ ات المعلمين والعاملين، أمضينا نهار الرعب الأول وليله داخل مباني كمبوني التي يحاصرها مثلث الموت، وأصيب أحد طلابنا بشظية شقت فضاء السوق العربي ومبانيه العالية لترشق الصبي في ظهره ويسيل دمه غزيرا ولا إسعاف إلاّ ما تيسّر في صندوق الإسعافات الأولية المعهود. وسهرنا الليل وكملنا- يا حليل زمن غنا عركي الشفيف- تحت أزيز الصواريخ ولهيب القذائف، ودوي الإنفجارات، لقد بات وسط الخرطوم كئيبا والدنيا خواتيم رمضان، نتلصص طريقنا بين الفرندات بحثا عن لقمة نحلل بها الإفطار، ولمّا عزّ النصير وبات من المستحيل تحرك سيارات من أي جهة كانت لإنقاذ العالقين من الصبية والصبايا والأطفال، توكلنا في صبيحة اليوم التالي وخرجنا رفقة طلابنا/ تنا وتقسمنا على مدن العاصمة الثلاث، كل مجموعة صوب ناحية، والقصف والقذائف، وبعض الجثث مسجية تحت السلالم في بعض عمارات السوق العربي، لقد عاش الأطفال تجربة لن تمحى آثارها من مشاعرهم قريبا، وقطعنا المسافة من السوق العربي إلى السوق الشعبي الخرطوم مشيا على الأقدام؛ فيما كانت سيدة حبلى تكاد تضع مولودها، تمسك ببطنها تارة وبرأسها تارات أخر، وكان القلب مهموما، والبال مشغولا، ليس بالمصير الشخصي؛ فذاك أمر يقع تحت رحمة رصاصة طائشة تصيب من أي جهة جاءت، ولكن أثقل ما على القلب هو المصير الذي تُساق إليه بلادنا كلها، وإن كانت ستكون فعلا بلادنا بعد هذا اليوم، همّ شعبنا إن كان سيظل شعبنا وقد خرج المارد عن القمقم وأصبحت السيطرة عليه ضربا من المستحيل، لقد انكسرت الزجاجة وأندلق السائل فهل من عودة لذات السائل إلى نفس الزجاجة المهشّمة؟ هذا هو ما يشغل البال، وديسمبر تبخل أزهاره، يتردد صدى ترانيم الميلاد والرقص والاحتفال وبهيج الكرنفال، فالتعددية الباذخة التي يمثلها مجتمع كمبوني كانت حديقة غنّاء فيها تطريب وإمتاع للروح وإثراء للعقل ورفدا للقلب، والسلام تاج على رؤوس الذين يعيشون فيه لا يراه إلا الموجوعون بالحرب، وفي أتون الحرب فقدنا د. بشرى بن عوف أحد أميز الخريجين في مدارس كمبوني الطبيب المشهور في أدق التخصصات والأستاذ الجامعي المرموق، كما فجعنا برصاصة تغتال صديقنا وزميلنا ابن جنوبنا الحبيب بل ابن السودان الكبير الأستاذ الباشمهندس بيتر كيانو الذي كان إلى ما قبيل الحرب بقليل يشغل منصب المدير في القسم الثانوي، وهو بعد المترجم الحاذق والمهندس الفنان والرياضي الذي لا يشق له غبار والفيزيائي الباتع، فقدناه وفقده حقل التعليم إن كان من عودة لسكة التعليم ثانية!! فقدنا الطمأنينة، وفقدنا كمبوني في وسط الخرطوم، هل تراها الآن ثكنة لهذا الفيلق أو تلك الكتيبة من المجاهدين أو الأشاوس الميامين!!! والصلاة في حرمها لأكثر من تسعين عاما تنادي بأن أجعلني أداة للسلام بالعربية والإنجليزية وحتى اللاتينية تتعدد الألسن والدعاء واحد، حيث الشك الإيمان وحيث الكراهية الحب يا الله، فهل يسمع المتقاتلون نداء السلام.
الوسوماشتباكات الجيش والدعم السريع الجيش الخرطوم الدعم السريع خالد فضل كمبونيالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: اشتباكات الجيش والدعم السريع الجيش الخرطوم الدعم السريع خالد فضل
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: العودة للخرطوم ورسائل مفضل
أصدر مجلس الوزراء الانتقالي التعميم رقم (18) لسنة 2025 موجّهًا وزارات العدل، الزراعة والري، المعادن، الثروة الحيوانية والسمكية، البنى التحتية والنقل، التحول الرقمي والاتصالات، التربية والتعليم، التعليم العالي، الموارد البشرية والرعاية الاجتماعية، الشؤون الدينية والأوقاف، والثقافة والإعلام والآثار والسياحة ببدء ترتيبات انتقالها من بورتسودان إلى الخرطوم.
وعلى الرغم من أن القرار يبدو إداريًا، إلا أنه لا يخلو من الدلالات السياسية فهذه الوزارات كانت تعمل في بورتسودان بطاقة محدودة ومهام محدودة ، وعودتها الآن تعني استدعاء كامل القوة العاملة للدولة مع توفير امكانات العمل واستعادة نبض الجهاز التنفيذي إلى مركز السلطة.
وفي الوقت نفسه، فإن انتقالها إلى مقار بديلة داخل الخرطوم، دون منطقة الوسط ، وفقا لتقديرات لجنة الفريق جابر التي تدرس إعادة تخطيط المنطقة المركزية لصناعة عاصمة حديثة. وهنا يكتسب القرار بعده الاستراتيجي: فالدولة لا تكتفي بالعودة إلى الخرطوم، بل تعود ربما وهي تعيد تعريف قلب العاصمة حيث الواقع الجديد ، في خطوة تجمع بين استعادة المؤسسات ، والشروع في هندسة شكل الدولة المقبلة.
عودة الحكومة الاتحادية إلى الخرطوم في ديسمبر الجاري تعيد رسم مركز السلطة في السودان بعد أكثر من عامين من التشتت القسري جراء تمرد مليشيا الدعم السريع . الخرطوم، التي شهدت خرابًا ممنهجًا وفقدت دورها كمسرح للقرار الوطني، تعود لتصبح رمزية الدولة ومرآة سلطتها على الأرض، في وقت ما تزال فيه التهديدات الأمنية والمخاطر السياسية قائمة.
هذا القرار ، إعادة تعريف العلاقة بين المركز والجهاز التنفيذي وإعادة ضبط الأداء المؤسسي على أساس يضمن استقرار العاصمة وقدرة الحكومة على فرض إرادتها لاسيما اننا مقبلون علي خطة للعام الجديد حملت الكثير من الاهداف والتحديات .
بالمقابل جات زيارة المدير العام لجهاز المخابرات العامة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل بالأمس لولاية الخرطوم في هذا التوقيت في صميم هذه الاستراتيجية، فهي رسالة مزدوجة: داخليًا تحذر من نشاط المتعاونين مع الميليشيات والخلايا النائمة، وتؤكد أن العودة ليست لحظة انتصار فحسب، بل بداية إدارة دقيقة لما بعد الحرب، وخارجيًا تؤكد قدرة الدولة على التحكم في الخرطوم، وتثبيت وجودها السياسي والأمني قبل أي ترتيبات.
اختيار مفضل لهذا التوقيت ليس صدفة، فهو يتزامن مع القرار الخاص بنقل الوزارات لذلك يهدف إلى ضبط المشهد الداخلي والسيطرة على النسق الأمني والسياسي في العاصمة، وشارة ذكية لتأكيد أن كل تحرك حكومي يتم ضمن خطة واضحة ومنسقة مع كافة الأجهزة الأمنية.
حديث مفضل أيضًا اكد الأهمية الرمزية للأمن والمجتمع المدني والثقافة في تثبيت الدولة: رتق النسيج الاجتماعي، نبذ خطاب الكراهية، وضمان مشاركة مؤسسات الدولة مع المجتمع، كلها أدوات تجعل السلطة ليست مجرد قوة مادية، بل قوة معنوية تستطيع أن تعيد رسم المشهد الداخلي.
لذلك العودة تحمل رسائل واضحة للجبهة الداخلية : أن انتظار القرار لن يكون خيارًا، وأن الخرطوم ستكون مركز المبادرة القادمة ، وأن أي تحرك سياسي داخلي يجب أن يأخذ في الاعتبار طبيعة السلطة المعاد تأسيسها في العاصمة. فالخطر الحقيقي الآن لا يكمن فقط في بقايا الميليشيات، بل في الفراغ السياسي أو التشتت المؤسسي الذي قد يسمح للقوى الداخلية المتربصة أو الخارجية الطامعة بإعادة صياغة الواقع على حساب الدولة.
سياسيًا، القرار يعيد تشكيل القوة بين الدولة وشعبها ، ويؤكد أن الحكومة تتحرك وفق استراتيجية مركزية متدرجة: استعادة السيادة على العاصمة، إعادة ضبط الجهاز التنفيذي، ومزج الأداء الأمني مع العمل السياسي، ما يخلق قدرة أكبر على إدارة الأزمة واستشراف المرحلة المقبلة. هذه الإجراءات ترسل رسالة لكل القوى الإقليمية والدولية: الخرطوم قلب القرار الوطني، بعودتها يعود التوازن وتعود الإرادة الوطنية متماسكة .
العودة للخرطوم إذن ليست مجرد إعادة مقار وزارات او ضبط للأداء التنفيذي للحكومة ، بل إعادة بناء الدولة نفسها من داخل العاصمة، مع وضع جميع الأطراف القيادات العليا ، إداريين، أمنيّين، ومجتمعيين ،ضمن رؤية واضحة لتحقيق تماسك سياسي واستقرار استراتيجي.
بحسب #وجه_الحقيقة ، العودة تمثل تحركًا استراتيجيًا متعدد الأبعاد: داخليًا تؤكد قدرة الدولة على إدارة السلطة وتنظيم المشهد السياسي، أمنيًا تعيد ضبط العاصمة ومواجهة التهديدات، وإقليميًا ترسل إشارات قوية بأن الحكومة ما تزال قادرة على المبادرة والتحكم بزمام الأمور. الخرطوم اليوم ليست مجرد مقر، بل منصة لإعادة تعريف السلطة والسيادة، وقلب أي استراتيجية وطنية أو تفاوضية محتملة ، وما قاله حديث مفضل يؤكد أن المرحلة المقبلة ستُدار بحذر، مع مزج السياسة والأمن والإدارة المؤسسية في بوتقة واحدة لضمان استمرار الدولة واستقرارها.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 9 ديسمبر 2025م [email protected]
Promotion Content
أعشاب ونباتات رجيم وأنظمة غذائية لحوم وأسماك
2025/12/09 فيسبوك X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة إسحق أحمد فضل الله يكتب: (يا أيها القبر… كم أنت حلو)2025/12/09 من ينطق2025/12/08 وجوه يجب أن تتقدم المشهد.. لماذا تتجاهل الدولة أصحاب الحجة؟2025/12/08 عائشة الماجدي تكتب ✍️ (يٌمه نحن الجيش)2025/12/08 الصين من الهامش إلي المركز2025/12/08 تحولات آلية دعاية تبرير الغزو2025/12/08شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات غياب الدولة وتمدد المليشيا… ا 2025/12/08الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن