عربي21:
2025-07-13@10:03:35 GMT

الطوفان والدولة المستحيلة

تاريخ النشر: 26th, December 2023 GMT

* لم يحصل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في الفراغ.. قيلت هذه العبارة أكثر من مرة في ربط الهجوم القسامي الكبير بتاريخ النضال الفلسطيني ومعاناة الحصار الطويلة. ومن نافل القول أن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لم يحصل في الفراغ، فما من حدث يحصل في العدم أو يولَد من صفر زمني بلا سياق، لكنّ عبور القسّام المدوّي فوق جدار إسرائيل يمكن قراءته بسياقات عديدة، لا تقتصر على تاريخ القضية ويوميات الاحتلال، بل تتجاوزها لشيء من خارجها تماما.

وما نقصده بهذا "الشيء" هو أمر من عالم الأفكار كان يعتمل بوضوح في الساحة العربية منذ سنوات، ويتعلق تحديداً بسؤال "الدولة".

* قبل عقدٍ من الطوفان صدر كتاب المفكر وائل حلاق "الدولة المستحيلة"، ورغم الصدى الذي أحدثه الكتاب فور صدوره، إلا أنه اكتسب زخما مضافا خلال العامين الماضيين بعد ظهورٍ مصوَّرٍ لمؤلفه وحديثه المباشر في مادة الكتاب وجوهر الأطروحة. لا يتعلق الكتاب بقضية فلسطين من قريب أو بعيد، فموضوعه هو استحالة الجمع بين النسيج الأخلاقي للإسلام وبنية الدولة الحديثة، لكن المشهد العربي الذي تبلور بعد أكثر من شهرين من بداية الحرب يجعل التفكير بالدولة المستحيلة أمراً مفيدا.

وما يلي ليس استنطاقا للكتاب ولا تطبيقا له على المشهد الحالي، وإنما تفكير في جواره وعلى مقربة منه في سياقٍ مستجدّ وفي قلب حدث هائل لا يشبه سواه.

* أربع جهات تنخرط اليوم في عمل عسكري -متفاوت المستوى- بإطار المواجهة مع إسرائيل؛ أولها طبعا هي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ويتلوها حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن وتنظيمات إسلامية في العراق. القاسم المشترك بين هذه الأضلاع الأربعة هو أنها في جوهرها حركات مسلحة لم تكتسب صفة الدولة الحديثة؛ الدولة الحديثة التي تستلزم شروطا كثيرة منها السيادة والاعتراف الدولي. وباستثناء حركة أنصار الله في اليمن، فإن بقية الأضلاع لا تحاول أن تدعي لنفسها أصلا صفة الدولة الرسمية. ليس مهماً إن كانت الدول العربية القائمة اليوم دولا حديثة "بحقّ" أم لا، ما هو مهمٌّ أن هذه الدول هو ما يَنتُج عربيا عند محاولة بناء دولة حديثة. بوسعك أن تسمّي النتيجة ما شئت، لكن الواقع يبقى على حاله.

* لماذا يبدو العمل الفاعل في الصراع مع إسرائيل مقتصرا اليوم على كيانات خارج تعريف الدولة ومظلة "الشرعية"؟ ما أن يُفكر المرء بإجابة ممكنة حتى يطفو سؤال رديف هو النظير المتمم للسؤال الأول: لماذا يستحيل الفعل على الدولة العربية؟ لماذا يبدو الشلل جواب هذه الدولة في أي مواجهة مع إسرائيل؟ ولأي حد بات هذا الشلل شرطا وجوديا للدولة العربية بالنظر لبنيتها واقتصادها وعلاقاتها الدولية؟

لا نحتاج حذراً من تعميم متعسف نمارسه في أسئلة كهذه، فالتعميم في مكانه وله سَنَد إحصائيٌّ عزّ نظيره، فالأمر لا يخص دولة أو اثنتين أو حتى عشرا، بل كامل منظومة الدول المعنية ودون استثناءٍ واحد. أمام هذا الفشل المدوّي للكيانات العربية الرسمية، يمارس أكثر مثقفينا بكائيات تقليدية على ضفاف "الدولة المتخيلة"؛ الدولة المتخيلة التي يرونها في أذهانهم معبرةً عن الإرادة الشعبية وحُلم الديمقراطية والقادرة على الفعل المؤثر في لحظات فارقة كهذه اللحظة. لكن خارطة الخلاص عند هؤلاء هي ذاتها دوما: الإصرار السرمدي على بناء الدول الحديثة، وتحميل المسؤولية لفشلنا ببناء هذه الدولة. هذه البكائيات (ومعها خارطة الخلاص السرمدية) هي شاهد فقر وترهل -قبل أي شيء آخر- لفضاء الثقافة العربية وفكرها السياسي؛ في الترويج للوهم وفي حبس الخيال بحلٍّ مستوردٍ ثبت فشله عند منعطفات لم يعد عدّها ممكنا لفرط كثرتها.

* من المضائق المائية الأربع التي يحضر فيها العرب، وحدهم أنصار الله من عسكروا البحر وجعلوه أداةً للضغط الاقتصادي والأمني على إسرائيل، ومن كامل الحدود المحيطة بالكيان العبري، وحدها المقاومة الإسلامية في لبنان من دخلت مواجهة مفتوحة ومستمرة مع جيشه، وأمام قواعد أمريكية تملأ الخارطة العربية، وحدها الفصائل العراقية من نظّمت جهدا متواصلا لضربها. الأمر لا يُختزل في مسألة "المحور" وبرنامجه السياسي، فحتى داخل حدود "المحور" وعناصره المؤسسة، وحدها الحركات المسلحة -لا الدول- من تمكّن من اجتراح فعلٍ عسكري مباشر ومؤثر خارج حدود الدعم اللوجستي والمدّ بالسلاح.

* تقرأ ما يُكتب عن "الدولة" في العالم العربي، فتجدها محطّ توافق بين كثير من المتخاصمين: الكل يريدها، والخلاف ليس على المبدأ وإنما على الطبيعة والكيفية والمآل المنشود. قلة صغيرة من تُشهر كفرَها بهذا الصنم المعبود، فالخروج عن ملة الدولة هو خروج عن حتمية التاريخ وأبسطِ مستلزمات الحداثة. وصارت عبارات من قبيل "لا حل إلا بالدولة" قولا شائعا في الأدبيات العربية، تذوب فيه فكرة الحداثة بلغة الغيبيات. ليس بعيدا عن كل هذا ما كتبه كارل شميت عن الدولة الحديثة: كل مفاهيمها الكبرى ليست سوى علمنةٍ لمفاهيم من عالم الدين. ولا يحتاج المرء تدقيقا كثيرا حتى يلمح هذه السمة عند المتمسكين بفكرة الدولة في سياقنا العربي، فمهما تراكمت أمثلة الفشل يبقى استقراء النتيجة على حاله، فالمسألة باتت أقرب للإيمان منها للقناعة.

* ومرة أخرى، فمن يَنقدون أداء الدولة العربية أمام المجزرة الإسرائيلية يطمسون وراء نقدهم سؤالا أهمّ بكثير: هل يمكن للدولة العربية أن تكون شيئا سوى هذا الذي نراه؟ وهل يمكن بناء دولةٍ -في السياق العربي- من دون ارتهان للهيمنة الغربية وعجزٍ كاسح عن الفعل بلحظات كهذه؟ كثيرون يرون في السؤال نفسه إهانةً للقدرة العربية على الانعتاق، فالسؤال يوحي باستحالة نجاحنا في إنشاء دولة مستقلة بحق. لكن الواقع أن هؤلاء مرتهنون لصورة مستوردة لكيانهم السياسي الممكن، ويرون أن النهوض -كي يكون نهوضاً- لا بد أن يقود حتما لنتيجة واحدة: الدولة الحديثة.

* لماذا ينبغي أن تكون "الدولة" هدفنا؟ وإذا سلمنا أن الدولة، المستقلة حقاً، هي هدف بذاته، فهل يسمح ظرفنا الموضوعي بنشوئها؟ مَن ذاك الذي يمثل اليوم إحساسا جامعا للانعتاق والتحرر أكثر من جماعة مسلحة محاصرة في قطاع غزة، لا يعترف بشرعية حُكمِها أغلب العالم؟ وأي قوة على امتداد العالم العربي أعادت لمفهوم السيادة وقْعَه كما فعلت جماعة مسلحة في البحر الأحمر لا يكاد أحد يعترف لها بشرعية الدولة؟

* ليست الأسئلة السابقة أسئلة حقا؛ الواقع أنها قراءة تقدّم نفسها بهيئة السؤال لواقعٍ يتبلور أمامنا ويتآكل فيه صنم الدولة الحديثة، ويصعد مقابله نزوع للتحرر من استيطان الغرب لأفكارنا وخيالنا ولإجابتنا عن سؤال "ماذا نريد". هل نحتاح حقاً اعترافا دوليا بشرعياتنا؟ وهل يلزمنا حقا أن نحاكي شكل الدولة الحديثة ونجعل منه مسطرةً لمعنى النهوض؟ لربما لا نحتاج قادةً في قصور رئاسية على رؤوس التلال وذرى الجبال تصلهم إسرائيل وأسراب الأطلسي متى شاءت، وإنما رجال يديرون المعارك من تحت الأرض ويمثّلون الكيان السياسي المستقل، الوحيد والممكن، في ظرفنا التاريخي والسياق الذي نحن فيه اليوم. من الصعب على الساجدين في محراب الدولة الحديثة أن يقبلوا التفكير -مجرد التفكير- في أسئلة كهذه، لكن الواقع الذي من حولهم، وحولنا، ينزاح بسرعة متصاعدة، وسنرى ماذا سيحلّ بمحرابهم، ومحرابنا، بعد هذه الحرب.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الدولة حماس حزب الله غزة حماس غزة حزب الله الحوثيين الدولة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدولة الحدیثة

إقرأ أيضاً:

بابكر فيصل والديمقراطية المستحيلة

(1) عندما جاء الوليد بن الوليد بن المغيرة الى المدينة ليعلن إسلامه وقد سبقه إليها شقيقه سلمة. سأله النبي صلى الله عليه وسلم وأين خالد ؟؟
أي لماذا لا يزال خالد في الجانب الخطأ من التاريخ أمن ضيق سقف العقل ، أم ضيق الوعاء؟ فأرسل الوليد رسالة شفيفة عميقة استقرت في وعي ووجدان خالد واقنع بها عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة وأسلموا الثلاثة وقال النبي : رمتكم مكة بفلذات أكبادها . ومن تلك اللحظة التاريخية بدأت فيوضات الفتوحات الكبرى لحركة الاسلام وهكذا يتجلى دور الكبار في مسارات حركة التاريخ.
(2)
منذ انتفاضة ديسمبر 2018م انتظمت في حوارات فكرية وسياسية في الفضاء العام والخاص مع معظم قيادات قحت وفي طليعتهم الاخ بابكر فيصل رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الاتحادي وقد تركز حواري معهم حول ضرورة تجذر قيم وشعارات الثورة في بنية المجتمع ، والابتعاد عن أوهام الثنائية المدمرة (نحن صناع الثورة)، (وهم أعداء الثورة) وإعلاء شعار (كلنا مع الثورة) وإدماج كل القوى السياسية في حوارات قضايا البناء الوطني والديمقراطي وعدم إقحام القضايا الهوياتية ومرجعية الحكم خلال المرحلة الانتقالية ، تجنبا لانقسام عمودي في احواز المجتمع وإنجاز السلام مع الحركات المسلحة، وانهاء ثقافة توظيف البندقية في الممارسة السياسية، وإسناد الحكم خلال المرحلة الانتقالية لكفاءات وطنية مستقلة، وتفرغ القوى السياسية لبناء هياكلها وإدارة حواراتها الافقية للتوافق حول الانتخابات وغرس المشروع الوطني الديمقراطي المستدام.
(3)
كذلك ركزت في حواري معهم على ضرورة عدم معاداة المؤسسة العسكرية التي انحازت لخيارات الشعب السوداني في ثلاث هبات اكتوبر 1964 وابريل 1985م وديسمبر 2018م والابتعاد عن شيطنة تيارات الاسلاميين فالبعض منهم له سهم في صناعة انتفاضة ديسمبر 2018م والبعض الأخر اعلن المعارضة العقلانية البناءة. وشددت في حواري معهم على ضرورة تحصين المشروع الوطني الديمقراطي من خطر الثورة المضادة الداخلي والمتمثل في قوات الدعم السريع وطموحات أسرة آل دقلو في ملك السودان وضرورة دمج هذه القوات في الجيش قبل مغادرة الثوار ساحة الاعتصام. والخطر الخارجي والمتمثل في معاداة محمد بن زايد لتطلعات الشعوب في الحكم الديمقراطي الرشيد . هذا نصيبي من النصيحة لقيادات تقدم ومنهم بابكر فيصل ولكنهم هربوا من كل هذه القضايا الاستراتيجية وتكففوا السلطة بالتحالف مع بندقية مليشيا آل دقلو الارهابية ونظام محمد بن زايد شبه الإقطاعي انها الديمقراطية المستحيلة.
(4)
شاهدت فيديو لبابكر فيصل ذكر فيه أنهم لن يتحاوروا مع الاسلاميين حول قضايا البناء الوطني والديمقراطي لأنهم جماعة سياسية مسلحة ، ولم ترق لي مرافعة الاخ حسن اسماعيل الذي ذكره بما يشبه التبرير لحمل الاسلاميين للسلاح بماضي الحزب الاتحادي في العمل السياسي المسلح منذ تأسيس الجبهة الوطنية بقيادة الشريف الهندي والتي قادة حركة يوليو 1976م، وتجربة التجمع الوطني الديمقراطي 1995م، الى توقيعهم اعلان المباديء في أديس أبابا يناير 2024م مع مليشيا الدعم السريع الارهابية . بينما الأصل تأسيس المرافعة بثبيت نبذ العنف وتوظيف البندقية في العمل السياسي وهذه من خلاصات مراجعات التيار الاسلامي الوطني . فالاسلاميون جماعة فكرية وسياسية راسخة في قاعدة المجتمع السوداني وتؤمن بالديمقراطية كآلية للتداول السلمي للسلطة ، وتمارس العمل السياسي عبر الاطر الدستورية والقانونية وتداعوا للقتال كتفا بكتف مع الشعب السوداني والجيش في معركة الكرامة بعد اعلان رئيس مجلس السيادة النفرة الشعبية لمواجهة مشروع تمزيق السودان ونهب ثرواته وسيظلون مع الشعب السوداني في خندق المعركة حتى القضاء الناجز على المليشيا الارهابية .
(5)
عودا على بدء والتشبه بالرجال فلاح . بابكر فيصل لا زلت فينا مرجوا ففيك عقل ناضج ووقدة فكر ، ووعي سياسي وإلهام تاريخي وسلسلة من القادة القدوات تحفزك على التحرر من التبعية ودور المطية لأجندة محمد بن زايد، ومليشيا آل دقلو الارهابية . تحرر من الاصطفاف في الجانب الخطأ من التاريخ ، وعندها ستدرك ان انحيازك للشعب السوداني والجيش في معركة الشرف الوطني البداية الواثقة للتوافق مع كل القوى السياسية حول قضايا البناء الوطني والتحول الديمقراطي المستدام.

عثمان جلال

السبت : 2025/7/12

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • بابكر فيصل والديمقراطية المستحيلة
  • هل العراق من بين ارخص الدول العربية؟
  • خبير عسكري: الشعب المصري الوحيد الذي يعتبر إسرائيل عدوا للأمة العربية
  • رئيس مصلحة الجمارك: تعزيز التكامل الاقتصادي وتسهيل التجارة البينية.. بتوحيد الإجراءات الجمركية وتبادل الخبرات والمعلومات بين الدول العربية
  • العباني: مجلسا النواب والدولة متفقان على تشكيل حكومة والدبيبة والمنفي يرفضان
  • "هاعيش حياتي".. 16 عام على الألبوم الذي غيّر قواعد الموسيقى العربية وأطلق تامر حسني نحو العالمية
  • المرأة العربية تُطلق منصة رقمية لتبسيط الحقوق القانونية للنساء
  • مديرو جمارك الدول العربية يعقدون اجتماعاً استثنائياً بمقر الأمانة العامة في القاهرة
  • مندوب المملكة الدائم لدى الجامعة العربية يستقبل السفير الصومالي
  • بين الدول العربية.. خريطة تبين أعلى مستويات الحرية للفرد بمؤشر 2025