إسطنبول – واجهت تركيا تزايدا في الطلب على الطاقة منذ بداية الألفية الثانية كنتيجة طبيعية لتصاعد وتيرة التصنيع والاقتصاد النامي والارتفاع الملحوظ في عدد السكان. فبعد أن كان الطلب على الطاقة 51.4 مليون طن من مكافئ النفط في 2002، وصل إلى 117.5 مليونا في عام 2012 حتى بلغ 147 مليونا في عام 2021.

لعبت محدودية الطاقة المنتجة من الموارد المحلية دورا بالغا في تشكيل ضغط كبير على الميزان التجاري للدولة، حيث ارتفع الاعتماد على موارد الطاقة المستوردة مثل النفط والغار الطبيعي، ليبلغ متوسط الإنفاق السنوي على استيراد الطاقة 54.

6 مليار دولار في الفترة بين عامي 2007 و2017، وتبدأ بعدها حقبة جديدة في سياسة الطاقة التركية.

تخفيض الاعتماد الخارجي

وقال وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقدار، خلال مشاركته بمؤتمر حول الطاقة بجامعة "صبنجة" في مدينة إسطنبول التركية الأسبوع الماضي، إن تركيا تخطط للاكتفاء الذاتي في الطاقة خلال 30 عاما، لافتا إلى أن اعتماد بلاده على الخارج في مجال الطاقة انخفض إلى 67.8% عام 2022 مما يجعل واردات تركيا من الطاقة تقدر بـ 95 مليار دولار.

كما نوه إلى أن مشكلة تركيا الرئيسية في جميع قضايا الاقتصاد الكلي هي اعتمادها على الطاقة الأجنبية وواردات الطاقة بنسبة تتجاوز 70% في أغلب السنوات الماضية.

وبينما كانت نسبة اعتماد تركيا على الخارج في مجال الطاقة تبلغ 74% خلال 2021، فقد شهدت الأشهر الستة الأولى من العام الحالي 2023 انخفاضا بنسبة 26.2% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وبالتوازي مع ذلك، تشير التقديرات إلى أن واردات الطاقة ستنخفض بنسبة 26.4% مع نهاية العام لتصل إلى 71 مليار دولار، ومن المتوقع أن تسجل تلك الواردات 77.3 مليار دولار في 2024، و76.3 مليار دولار في 2025.

وأعلنت تركيا عن خطتها الوطنية التي أعدتها وزارة الطاقة والموارد الطبيعية، المرتبطة برؤية "قرن تركيا" التي أعلنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أواخر 2022، بهدف إنقاذ الدولة من الاعتماد على الخارج في الأعوام الـ30 القادمة وتحويلها إلى بلد خالٍ من الانبعاثات، ومستقل بشكل كامل في مجال الطاقة.

وفي هذا الصدد، تستعد تركيا الشهر المقبل، إلى الإعلان عن خطة العمل الوطنية لكفاءة الطاقة التي تغطي الأعوام 2024-2030، والتي ستعمل فيها تركيا على خفض انبعاثات الكربون بمقدار 100 مليون طن.

وتسعى تركيا إلى التحويل تدريجيا إلى مصادر الطاقة الخضراء والمتجددة، لا سيما أنها تحتل المرتبة 12 في العالم، والمرتبة الخامسة أوروبيا من حيث "القدرة المركبة" على إنتاج الطاقة المتجددة، تماشيا مع خطة الطاقة الوطنية التركية التي تهدف إلى تشغيل ما مجموعه 96.6 غيغاوات من الطاقة الكهربائية في البلاد في الفترة الممتدة بين 2020 و2035 عن طريق الهيدروجين الأخضر.

بيرقدار أكد سعي بلاده لتخفيض اعتمادها على الطاقة من الخارج (الأناضول) التنقيب واكتشافات نفطية

يشار إلى أنه في عام 2017، أعلن عن أن السياسة الوطنية للطاقة والتعدين التركية، تضمنت زيادة استخدام موارد الطاقة المحلية والوطنية، وسن تشريعات من شأنها زيادة معدل الاستفادة من الموارد المحلية والوطنية حتى تصفير نسبة الاعتماد الخارجي على الطاقة بحلول العام 2030، بحسب ما أكده رئيس مجلس الإدارة لمؤسسة النفط التركية مليح خان بلغين.

وتماشيا مع ذلك الهدف، قررت تركيا بناء أسطول ضخم من سفن المسح والتنقيب تقوده طواقم محلية خبيرة ومؤهلة للبحث عن موارد الطاقة الطبيعية تحت مياه البحر الذي يحيط بتركيا من 3 جهات.

ليضم الأسطول التركي للتنقيب العديد من السفن المخصصة والمجهزة للتنقيب بشكل احترافي ودقيق، ومن بينها سفينة "عبد الحميد خان" التي تعتبر أكبر سفينة تنقيب عن النفط والغاز في المتوسط، بجانب سفن التنقيب يافوز والفاتح والقانوني.

ومع استمرار عمليات التنقيب، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في ديسمبر/كانون الأول 2022، أن سفينة التنقيب "الفاتح"، اكتشفت أكبر حقل للغاز الطبيعي في تاريخ البلاد بالبحر الأسود، في بئر "تونا-1″، ضمن حقل غاز صقاريا قبالة مدينة زونغولداغ، لتصل احتياطيات تركيا من الغاز الطبيعي المكتشف في البحر الأسود إلى 710 مليارات متر مكعب.

ومن الجدير بالذكر أن 7% من حقول الطاقة التي عثر فيها في تركيا كانت احتياطاتها أكبر من 25 مليون برميل، وأن 93% منها كانت احتياطاتها أقل من 25 مليون برميل، في حين ذكرت مصادر رسمية أن حجم احتياطيات حقل "صقاريا" للغاز الطبيعي في البحر الأسود، قد يتجاوز مستقبلاً 320 مليار متر مكعب.

رئيس جمعية منصة النفط والغاز الطبيعي التركية، مصطفى قلاي، قال إن اكتشاف حقول للغاز الطبيعي في منطقة البحر الأسود بتركيا، يدل في الواقع على وجود موارد هيدروكربونية أخرى في المنطقة، مؤكدا الأهمية البالغة التي توليها الدولة لقطاع التنقيب والإنتاج المحلي بهدف خلق قيمة اقتصادية كبيرة في البلاد.

عامل تركي يفحص صمامات تروس الأنابيب المرتبطة بخزانات النفط على البحر المتوسط (رويترز) توطين الطاقة

الباحثة في الشأن التركي بشرى أوزدمير، نوهت في حديثها للجزيرة نت، إلى إصرار الحكومة التركية على تحقيق استقلالية الطاقة والتخلص من التبعية للدول المصدرة للنفط، لا سيما بعد الآثار التي لحقت بها نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية.

ولفتت إلى أن نتائج انخفاض الاعتماد الخارجي لتركيا على الطاقة، لن تقتصر على انخفاض الطلب على الطاقة مما سيحسن اقتصاد الدولة، بل ستكون لديها أيضًا ميزة تفاوضية قوية فيما يتعلق بتسعير عقودها المستمرة، إذ بدأت تركيا بالتحول من دولة تعتمد بشكل كبير على استيراد ما يقرب من 99% من استهلاكها من الغاز الطبيعي إلى دولة قادرة على تلبية احتياجاتها الطاقية الخاصة بفضل الاكتشافات البحرية الكبيرة التي تم القيام بها مؤخرًا.

وهذا سيخلق وضعاً مناسباً في مفاوضاتها مع دول مثل روسيا وإيران وأذربيجان، التي تشتري منها غاز خطوط الأنابيب بعقود طويلة الأجل، وكذلك الجزائر ونيجيريا ومصر، التي تستورد منها الغاز الطبيعي المسال.

كما ذكرت أوزدمير أن طموحات تركيا لا تقف عند تلبية احتياجاتها الذاتية من الطاقة، بل تسعى لأن تكون إحدى الدول المصدرة لها مما يكسبها نفوذا سياسيا وإستراتيجيا أكبر في المنطقة، لا سيما أنها قد تكون الخيار الأفضل لدول أوروبا الشرقية والبلقان التي تبحث عن بديل لروسيا بعد حرب أوكرانيا.

وشهدت تركيا أعمالا واستثمارات كبيرة قام بها القطاعان العام والخاص في مجال الطاقة في السنوات الأخيرة، لكن منذ عام 2022، بلغ استهلاكها من الغاز الطبيعي ما يقرب من 53.5 مليار متر مكعب سنويا، في حين أنها تنتج ما يقرب من 380 مليون متر مكعب سنويا، وتؤكد الحكومة التركية أن الإنتاج سيبدأ بالارتفاع بشكل تدريجي ومنسجم خلال السنوات القادمة.

وعلى صعيد الكهرباء، زادت قدرة الكهرباء المركبة في تركيا بأكثر من 17 ألف ميغاوات في السنوات الخمس الماضية، لتصل إلى 104 آلاف و695 ميغاوات، وبحسب الوعود الانتخابية لـحزب العدالة والتنمية تهدف القدرة المركبة إلى تجاوز 135 ألف ميغاوات في 2028.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی مجال الطاقة الغاز الطبیعی البحر الأسود ملیار دولار على الطاقة متر مکعب إلى أن

إقرأ أيضاً:

الطاقة في زمن الاضطراب.. قراءة سياسية - اقتصادية في خريطة الأسواق العالمية

علياء السعيدية

خلال متابعتي لبيانات أسواق الطاقة اليابانية، والتي أراها أداة ممتازة لفهم العلاقة العميقة بين الطاقة والاقتصاد والسياسة كونها تكشف بدقة كيف تتفاعل الأسعار مع كل حدث عالمي أو محلي يتضح سبب اختيار اليابان إنشاء سوق فوري للكهرباء في وقت مبكر. فهذا السوق لم يكن إطارًا للتداول فقط، بل جاء بوصفه حلًا عمليًا لتحديات متراكمة. فاليابان بوصفها دولة تعتمد بشكل واسع على استيراد النفط والغاز كانت في حاجة إلى نظام يخفّف من آثار تقلبات الأسعار العالمية، وفي الوقت نفسه يساعد الشركات على مواجهة التغيرات المناخية اليومية التي تؤثر مباشرة على تكلفة إنتاج الكهرباء. ومن خلال هذا السوق، تمكنت اليابان من تحويل مشكلاتها إلى نظام مرن وشفّاف يعكس واقع العرض والطلب، ويمنح الشركات قدرة أكبر على التكيف والاستجابة.

ومع تبيّن دوافع إنشاء هذا السوق الفوري، وكيف أصبح أداة للتعامل مع التحديات اليومية والاقتصادية، يبرز سؤال مهم: كيف يتصرف هذا النظام عند وقوع أزمة حقيقية؟ وجاء عام 2022 ليقدّم الإجابة الأصعب. ففي هذا العام واجهت أسواق الطاقة اليابانية اضطرابًا غير مسبوق، ارتفع على إثره سعر الكهرباء بشكل حاد، ليصل إلى ذروته التاريخية متجاوزًا 80 ينًا للكيلو واط وفقًا لبيانات السوق.

سلسلة من الأحداث المتتابعة — بدءًا من صدمة أسعار الغاز العالمية، مرورًا بتوقف عدد من المفاعلات النووية، ووصولًا إلى موجات الطقس القاسية — دفعت الحكومة اليابانية والجهات التنظيمية إلى إعادة النظر في قوانين إدارة سوق الطاقة، وهو سوق حر يتمتع بدرجة عالية من الشفافية والانضباط.

إن وضوح التقلبات في تلك الفترة يمنحنا رؤية واقعية لما يحدث خلف الكواليس، وكيف تتفاعل الأنظمة المرِنة حتى في دولة منظمة كاليابان مع الصدمات المفاجئة، وتحاول امتصاصها وإعادة التوازن للسوق.

وعند الحديث عن الصدمات، فلا شك أنك سمعت العبارة المتكررة «الحرب الروسية رفعت أسعار النفط»، غير أن وقع هذه العبارة لم يكن واحدًا في كل مكان فدول تضررت بشدة، ودول أخرى استفادت. وقد أدركتُ آنذاك جانبًا من هذا الضرر، إذ كانت سنوات 2021–2022 من الأعوام الثقيلة التي شهد فيها العالم تضخمًا كبيرًا قد لا يعود إلى مستوياته السابقة بسهولة.

لكن الأسواق اليابانية دفعتني لاحقًا إلى النظر في المسألة من زاوية مختلفة، لا كفرد ينتمي إلى دولة مصدّرة للطاقة، بل كمقيمة في دولة مستوردة بالكامل. ففي اليابان، فقد السوق توازنه في تلك الفترة، إذ شهد قطاع الطاقة موجة غير مسبوقة من الضغوط أدّت إلى خروج عدد كبير من مزوّدي الكهرباء من السوق.

ووفقًا لبيانات الصناعة: «حتى مارس 2023، تم إجبار 195 شركة من مزوّدي الكهرباء على إعلان إفلاسها أو إغلاق أبوابها أو الخروج من السوق نهائيًا».

ماذا حدث فعلا !

رفعت روسيا أسعار الطاقة عبر سياسة واحدة فقط: خفض إمدادات النفط والغاز عن أوكرانيا، ثم عن أوروبا، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما حدث في سبعينيات القرن الماضي عندما أوقفت الدول العربية إمدادات النفط. ويبدو أن روسيا رأت في هذا الأسلوب تكتيكًا مناسبًا لإعادة إحيائه من جديد. ومع تطوّر الأحداث، تحوّل ما كان يُنظر إليه سابقًا باعتباره “تفصيلًا عابرًا” في سلاسل الإمداد إلى نقطة ارتكاز عالمية، وجعل من أوكرانيا دولة محورية بصورة مفاجئة. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل كنّا نمنح موقعها هذه الأهمية قبل اندلاع الأزمة؟ لست متأكدة، لكن العالم وجد نفسه مضطرًا اليوم لفهم دورها وتأثيرها الحقيقيين.

أما اليابان، التي تستورد جزءًا من احتياجاتها من النفط والغاز من روسيا، فقد واجهت بعد اندلاع الأزمة سلسلة من الصعوبات المتراكمة. فقد تعقّدت عمليات الشحن، وارتفعت تكاليف النقل والتأمين، وأضيفت علاوة مخاطر على كل شحنة. والأسوأ أن أوروبا — بعد انقطاع الغاز الروسي عنها — استحوذت على معظم المعروض العالمي من الغاز الطبيعي المسال، ما دفع اليابان إلى شراء احتياجاتها من السوق الدولية بأسعار أعلى بكثير.

وفوق هذه الأزمات المتلاحقة، جاء المناخ ليُضاعف حجم المشكلة؛ إذ شهدت اليابان في ذلك العام موجات حر وبرد قاسية رفعت الطلب على الكهرباء بشكل مفاجئ، بينما كانت عدة محطات نووية متوقفة نتيجة مشكلات السلامة المتراكمة في السنوات السابقة. ولا يمكن تجاهل أن العالم كله كان آنذاك لا يزال يتلمّس طريقه للخروج من تبعات جائحة كورونا.

وبين هذه الضغوط المتشابكة، قدّمت اليابان مثالًا مهمًا في إدارة الأزمات، رغم وجود نقطة ضعف واضحة تمثلت في انخفاض هامش الاحتياطي من الطاقة لديها. وقد دفع ذلك الحكومة إلى إعادة النظر في سياسات واستراتيجيات إدارة الطاقة في البلاد.

وفي خضمّ هذا الاضطراب العالمي، برز النفط والغاز الأمريكيان فجأة كحل جاهز وفعّال، ليس لأنهما الأرخص دائمًا، بل لأنهما الأكثر توفرًا والأبعد عن الصراعات الجيوسياسية المباشرة. فقد وجدت أوروبا نفسها، بعد انقطاع الغاز الروسي، تعتمد بشكل كبير على واردات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة، التي تحوّلت خلال أشهر من “مصدّر مهم” إلى المنقذ الأكبر للطاقة الأوروبية.

وبينما كانت أوروبا تشتري كل ما تستطيع من الشحنات، ظهر تأثير ذلك على آسيا بأكملها، إذ ارتفع الطلب العالمي وازدادت المنافسة لدرجة جعلت الغاز الأمريكي خيارًا جذابًا لليابان أيضًا، رغم تكاليف الشحن العالية. ومع ذلك، وفّر الغاز الأمريكي لليابان مصدرًا مستقرًا نسبيًا، بعيدًا عن المخاطر المرتبطة بروسيا أو الشرق الأوسط.

لقد بدا النفط والغاز الأمريكيان، في تلك اللحظة، وكأنهما يشكّلان شبكة أمان مؤقتة للاقتصاد الصناعي العالمي؛ حلاً سريعًا لظرف ضاغط، لكنه في الوقت نفسه فتح الباب أمام سؤال أعمق: هل يمكن التعويل على هذا النموذج على المدى الطويل، أم أنه كان مجرد استجابة اضطرارية لأزمة غير مسبوقة؟

دور استقرار مضيق هرمز

وفي الصورة المقابلة، كان الشرق الأوسط — على الرغم من ابتعاده الجغرافي عن أوروبا — يقف في قلب الأزمة بطريقة لا يمكن تجاهلها. فقد بقيت الدول الخليجية خلال تلك الفترة أكثر مصادر الطاقة استقرارًا في العالم؛ لا تعطلها حرب، ولا تربطها صراعات مباشرة مع أوروبا أو آسيا، الأمر الذي جعلها لاعبًا حاسمًا في توازن السوق العالمي. ومع ارتفاع أسعار النفط، استفادت دول المنطقة من زيادة العائدات، وفي الوقت نفسه اكتسبت وزنًا سياسيًا أكبر؛ لأن جميع الدول الصناعية — من اليابان إلى ألمانيا — كانت تعتمد على بقاء إمدادات الخليج مستقرة ومستمرة.

وبالنسبة لليابان تحديدًا، فإن اعتمادها المرتفع على نفط الشرق الأوسط جعل استقرار هذه المنطقة مسألة أمن قومي؛ فمضيق هرمز الذي يمر منه أكثر من 75% من واردات اليابان من النفط، ظلّ خلال الأزمة نقطة حساسة؛ وأي توتر فيه ينعكس فورًا على الأسعار داخل طوكيو. ولهذا تابعت اليابان مجريات الأحداث في الشرق الأوسط بدقة، ليس من منطلق سياسي فقط، بل لأنها تعلم أن جزءًا كبيرًا من طاقتها اليومية — من المصانع إلى المنازل — يمر عبر الخليج.

وفي هذا السياق، فإن أي اضطراب في الشرق الأوسط يجعل النفط الأمريكي أكثر جاذبية في السوق الدولية، ويرفع إيرادات الولايات المتحدة، إذ ينتج الشرق الأوسط أكثر من ثلث إنتاج النفط العالمي، ويمر عبره أكثر من 25% من شحنات النفط والغاز في العالم. ولذلك يُعد استقرار بعض الدول في المنطقة — مثل سلطنة عُمان — عنصرًا محوريًا في استقرار الإمدادات العالمية. ومن هنا يمكن فهم سبب الحماس الأمريكي في معالجة بعض أزمات المنطقة، مقابل الفتور والاكتفاء بالتنديد في أزمات أخرى.

ويبرز هنا عنصر آخر لا يلتفت إليه الكثيرون: وهو الأمن البحري. فقوة الأساطيل البحرية أصبحت عاملًا أساسيًا لضمان سلامة تدفقات الطاقة. وعند حدوث أزمات، توفر الولايات المتحدة — بحكم وجودها البحري وعلاقاتها مع دول المنطقة — مستوى من “الأمن المكلف” لناقلات النفط والغاز. فعلى سبيل المثال، يمر أكثر من 75% من واردات اليابان من النفط والغاز عبر مضيق هرمز، وفي صورة أوسع تعتمد معظم دول آسيا على هذا الممر البحري الحيوي. وتؤمّن الولايات المتحدة جزءًا من مسارات النقل البحري في الشرق الأوسط، لكن هذا التأمين ليس مطلقًا، بل هو تأمين جزئي مراقَب باستمرار مع بقاء المخاطر قائمة.

ويأتي في صدارة هذا الدور الأسطول الخامس الأمريكي، المتمركز في البحرين، والمسؤول عن المنطقة التي تشمل الخليج، ومضيق هرمز، وبحر عُمان، والخليج العربي. وهو وجود يعكس استمرار أهمية الشرق الأوسط في معادلة الطاقة العالمية، مهما تعددت البدائل المؤقتة.

ماذا لو توقفت الحرب

لن تعود أسعار الطاقة إلى الهدوء؛ لأن أوروبا لن تعتمد مجددًا على الغاز الروسي، وستواصل شراء الغاز الطبيعي المسال بكثافة من الولايات المتحدة وقطر، وهو ما سيُبقي الأسعار مرتفعة نسبيًا على المستوى العالمي. وستستفيد اليابان جزئيًا من تحسن ظروف الشحن، لكنها ستظل تدفع أسعارًا أعلى بفعل المنافسة الأوروبية المستمرة على الغاز المسال. أما عُمان فقد تستفيد من بقاء أسعار النفط عند مستويات جيدة نتيجة استمرار التوترات السياسية في عدد من المناطق المنتجة. وفي كل الأحوال، فإن هذا السيناريو لا يعيد العالم إلى ما قبل 2022، بل يُبقي المخاطر الجيوسياسية حيّة، ويجعل الطاقة أكثر تكلفة وفي بيئة يغلب عليها عدم اليقين لسنوات طويلة.

أما إذا توقفت الحرب بسلام، وتوصلت روسيا وأوكرانيا إلى تسوية سياسية، فستنخفض فورًا “علاوة المخاطر” التي رفعت أسعار الطاقة منذ عام 2022. وسيتراجع مستوى الأسعار إلى حدود أقرب للطبيعية، ما يجعل أوروبا تقلل وتيرة شرائها الهائلة للغاز، ويخفف الضغط على الأسواق، ويمهّد لعودة التوازن تدريجيًا. وفي هذا السياق، ستكون اليابان من أبرز المستفيدين عبر انخفاض تكاليف الكهرباء وهدوء السوق. وقد تتأثر عُمان بانخفاض أسعار النفط، لكنها ستستفيد في المقابل من استقرار الشحن والتجارة العالمية. وفي هذا السيناريو، يعود الاقتصاد العالمي إلى وتيرة أكثر طبيعية، وتتراجع موجات التضخم، وتصبح سلاسل الإمداد أقل هشاشة مقارنة بسنوات الأزمة.

وقد يُطرح هنا سؤال جوهري: لماذا لا تُحدث جميع الحروب الأثر نفسه في سوق الطاقة العالمي؟ وسوريا واحدة من أوضح الأمثلة. فعلى الرغم من عودتها إلى المشهد السياسي العربي، لم ينعكس ذلك على أسواق الطاقة؛ لأنها لم تعد لاعبًا فعليًا في إنتاج أو تصدير النفط والغاز. فقد تعرّضت البنية التحتية للطاقة لدمار واسع خلال سنوات الحرب، وبقي الإنتاج المتبقي محدودًا ومجزأ، بينما تمنع العقوبات الدولية — وخصوصًا الأمريكية — أي انتعاش حقيقي في هذا القطاع، إذ تقيد تصدير النفط وتحدّ من تدفق الاستثمارات، وهو ما يفسر سعي دمشق إلى إعادة علاقاتها الخارجية من موقع الضرورة لا الرغبة.

يضاف إلى ذلك أن سوريا ليست ممرًا رئيسيًا لخطوط الطاقة العالمية، ولذلك فإن استقرارها السياسي يظل مهمًا للمنطقة، لكنه غير قادر على تغيير توازنات سوق الطاقة الدولي التي تتحكم بها دول أكبر إنتاجًا وتأثيرًا في المعروض العالمي. 

تعافي العراق.. خريطة

جديدة للطاقة العالمية

 إذا تعافى العراق اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، فإن انعكاسات هذا التعافي لن تبقى داخل حدوده، بل سيشعر بها العالم بأسره. فالعراق ليس بلدًا هامشيًا في معادلة الطاقة العالمية، بل يُعد أحد أهم المنتجين، ويملك قدرة كامنة يمكن أن تعيد رسم موازين السوق الدولية. وفي حال تحقق سيناريو التعافي، سيرتفع إنتاج النفط والغاز بشكل كبير، إذ يمتلك العراق خامس أكبر احتياطي نفطي في العالم، بينما لا تزال كميات ضخمة منه غير مستغلة بسبب الحروب والفساد وضعف البنية الأساسية. وإذا تمكن العراق من رفع إنتاجه إلى أكثر من سبعة ملايين برميل يوميًا — وهو قادر على ذلك — فإن دخوله بهذه القوة سيضيف مصدرًا ثابتًا وكبيرًا للسوق، مما يُشكّل ضغطًا مباشرًا على الأسعار العالمية ويدفعها نحو الانخفاض بفعل دخول لاعب ثقيل بقدرات إنتاجية واسعة.

والحقيقة أن الولايات المتحدة ستفقد جزءًا من نفوذها في حال صعود العراق مجددًا، لأن أوروبا — التي أصبحت تعتمد على النفط والغاز الأمريكيين بعد الحرب الأوكرانية — ستجد بديلًا أكثر استقرارًا وأقل تكلفة في الإمدادات العراقية والخليجية. فمعظم النفط الأمريكي هو نفط صخري مرتفع التكلفة، ويحتاج إلى أسعار عالمية عالية ليستمر في المنافسة، بينما يستطيع العراق ضخ كميات كبيرة بتكلفة أقل وبوتيرة إنتاج أكثر استقرارًا. ومع تراجع اعتماد أوروبا على الطاقة الأمريكية، ستخسر واشنطن ورقة ضغط مؤثرة استخدمتها خلال السنوات الماضية في إدارة علاقاتها السياسية والاقتصادية مع القارة الأوروبية.

وعلى مستوى الخليج، يمكن النظر إلى تعافي العراق باعتباره عامل استقرار أكثر منه مصدر قلق. فعودة العراق إلى وضع مستقر تخلق محيطًا إقليميًا أقل توترًا، وتخفف الضغوط الأمنية والاقتصادية على دول الخليج. كما أن استقرار العراق يفتح الباب أمام تعاون اقتصادي أوسع، سواء عبر مشاريع الربط الكهربائي، أو تطوير شبكات الغاز، أو تعزيز التجارة البينية. ومع أن ارتفاع إنتاج العراق يعني دخول لاعب كبير آخر إلى السوق، إلا أن دول الخليج تمتلك خبرة طويلة في إدارة التوازنات داخل «أوبك»، ما يجعل توسع الطاقة الإنتاجية للعراق فرصة لتعزيز الموقف الجماعي بدل تقويضه. وباختصار، فإن نهضة العراق يمكن أن تمهّد لشرق أوسط أكثر استقرارًا، وهذا مكسب مباشر لدول الخليج قبل غيرها.

ومع تتبّع هذه السلسلة المتشابكة من الأزمات — من صدمة الغاز الروسي إلى تنافس أوروبا وآسيا على إمدادات الغاز المسال، ثم دور الشرق الأوسط والولايات المتحدة، وصولًا إلى سيناريوهات ما بعد الحرب — يتضح أن أسواق الطاقة ليست مجرد أسعار ترتفع وتنخفض، بل منظومة حساسة تتأثر بكل قرار سياسي وبكل درجة حرارة وبكل اضطراب بحري أو بري. إنّ التجربة اليابانية في عام 2022 لم تكشف هشاشة السوق فقط، بل كشفت أيضًا قوة الأنظمة المرنة وقدرتها على امتصاص الصدمات، إذا توفرت الشفافية والحوكمة والقدرة على التحوّل السريع. وهذا ما يجعل دراسة الطاقة اليوم مفتاحًا حقيقيًا لفهم شكل العالم في العقود القادمة.

وفي النهاية، تظهر لنا هذه الأحداث أن استقرار الطاقة في أي دولة لم يعد قضية فنية أو اقتصادية فحسب، بل أصبح قضية وجودية تمسّ الأمن الوطني، والسياسة الخارجية، واستقرار حياة الفرد اليومية. كما أن المشهد العالمي لن يعود بسهولة إلى ما قبل 2022، سواء انتهت الحرب بتسوية أو سيطرة أو استمرار. لكن ما يمكن الجزم به أن الدول التي تُعيد بناء سياساتها الطاقية بذكاء — مثل اليابان اليوم، أو العراق في حال تعافيه، أو دول الخليج عبر تعزيز دورها — ستكون الأكثر قدرة على التكيّف، والأقدر على تحويل الأزمات إلى فرص. وهنا بالضبط تكمن أهمية قراءة أسواق الطاقة: فهي ليست تنبؤًا بالأسعار، بل قراءة لمستقبل العالم نفسه.

علياء بنت سعيد السعيدية متخصصة في علوم هندسة الطاقة والمعلوماتية

مقالات مشابهة

  • مؤسسة النفط تستعرض الشراكات التي تقيمها مع الشركات الأوروبية وسبل تطويرها
  • هجوم مُركّز من التيّار على وزير الطاقة
  • رويترز: الولايات المتحدة تستعد لاعتراض السفن التي تنقل النفط الفنزويلي
  • قناة السويس تحقق 1.97 مليار دولار إيرادات منذ يوليو مقابل 1.68 مليار العام الماضي
  • خالد حنفي: 500 مليار دولار حجم مشروعات إعادة الإعمار التي تستهدفها مبادرة عربية - يونانية جديدة
  • على صلة بحزب الله وايران.. اليكم آخر المعلومات عن ناقلة النفط التي احتجزتها أميركا في الكاريبي
  • أدنوك للإمداد والخدمات تتسلم رابع ناقلة للغاز الطبيعي المسال
  • الأردن بيئة آمنة للاستثمار
  • إنشاء مركز للغاز الطبيعي.. استثمارات بقيمة 3.5 مليار دولار لدعم قطاع الطاقة النظيفة بالمغرب
  • الطاقة في زمن الاضطراب.. قراءة سياسية - اقتصادية في خريطة الأسواق العالمية