الذكرى المئوية لثورة 1924 (5).. دور المرأة في ثورة 1924
تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT
الذكرى المئوية لثورة 1924 (5).. دور المرأة في ثورة 1924
تاج السر عثمان بابو
1لا شك أن النساء لعبن دورا مركزيا في السودان القديم لا يقل عن دور الرجال في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، فهن الآلهات والمحاربات (الكنداكة) والملكات، والملوك لا يردون لهن شفاعة، ودور الملكة الأم كان واضحا في السودان القديم، واستمر دورها في الفترات التاريخية المختلفة قوة وضعفا.
منذ بداية الحركة الوطنية الحديثة المناهضة للحكم الثنائي الانجليزي- المصري، شاركت المرأة في ثورة 1924، يمكن القول أن جذور الحركة النسائية الحديثة ترجع الي ثورة 1924، كما يتضح من الأمثلة التالية:
– شاركت في مظاهرات ثورة 1924م وشجعت بالزغاريد وحماية المتظاهرين.
– تأمين وثائق ثوار 1924، وكانت العازة محمد عبد الله زوجة علي عبد اللطيف أول إمرأة سودانية تشارك في المظاهرات والنشاط السياسي في تاريخ الحركة السياسية الحديث.
– الدور الذي لعبه صالون السيدة “فوز” في تأمين نشاط الثوار من خلال صالونها الأدبي والثقافي، ويشير الشاعر خليل فرح لهذا الدور حينما يعتز بصحابه في “دارفوز” الذين يكتمون الأسرار بقوله:
نحن صحبة وإخوان نجاب
لى دعانا المولى استجاب
إن مرقنا السر في الحجاب
وإن قعدنا إخوانك عجاب
(للمزيد من التفاصيل عن السيدة “فوز”، راجع: حسن نجيلة: ملامح من المجتمع السودان، الجزء الأول، دار جامعة الخرطوم 1971، راجع ايضا د. حسن الجزولي: نور الشقائق: هجعة في صفاتها ودارها وزمانها، دار المصورات 2022).
– الدور الذي لعبته عضوة اللواء الأبيض الحاجة نفيسة سرور، في خياطة علم اللواء الابيض الذي اتخذته جمعية اللواء الأبيض شعارا لها بتكليف من الجمعية، رغم مخاطر العمل السرى، وتعرضها للاعتقال، لكن السلطات رفضت اعتقال النساء يومئذ.
(للمزيد من التفاصيل: راجع افادة الحاجة نفيسة سرور أمام اللجنة التي شكلها اللواء جعفر نميري عام 1974 بمناسبة مرور 50 عاما على ثورة 1924 التي تولى رئاستها د. يوسف فضل ود. محمد إبراهيم ابو سليم، ونأمل أن تُنشر تلك الإفادات بمتاسبة الذكرى المئوية لثورة 1924).
اضافة لمشاركة نساء اخريات مثل: خديجة عبد الفضيل الماظ،. الخ.
2كان ثوار 1924 مناصرين لتعليم المرأة، فعلى صفحات جريدة الحضارة برزت ايضا الدعوة إلى تعليم المرأة، وكان من ابرز الداعين لذلك الأمين علي مدني والشاعر الغنائي خليل فرح (وهو من ثوار 1924 كما اشرنا سابقا)، على سبيل المثال: نشر خليل فرح في عدد جريد الحضارة الصادر بتاريخ 27/ يناير/ 1921 قصيدة بعنوان “في تعليم المرأة” جاء فيها:
ارشدونا يا ولاة الأمر في أمرنا ذل جهول خامل
واستعينوا العلم إن ارشدتم غافلا بالعلم يرضي العاقل
وانصفونا من حياة نصفها حائر والنصف جسم جاهل
الى أن يقول:
علموها إنها مدرسة لحياة وما اليها طائل
ودعوها روضة في بيتها يحسن العلم عليها الوابل.
وللخليل قصيدة اخرى في تعليم المرأة بعنوان (المدرسة) يقول فيها:
يلا نمشى المدرسة سادة غير اساور غير رسا
يلا سيبى الغطرسه قومى افرزى كتب المدرسة
الساعة ستة دقت يام رسا نايمة والمنبه حارسا
الى أن يقول:
دارسه ماك جاهله محنسه قادله لى كتابه مؤنسه
حاشا ما تربيتي مدنسه لسه لسه عزك ما اتنسى
اى أن الخليل يرى أن التعليم هو أساس التقدم والنهضة ولابد لنصف المجتمع أن يأخذ نصيبه منه. وكان الخليل يدعو لتحرر المرأة من الجمود والنظره الباليه للمرأة ولتحرر العلائق الاجتماعية في عفة وجمال وفي اطار تقاليد المجتمع.
3قبل اندلاع ثورة 1924، كان التعليم الحديث للمرأة هو المدخل لخروج المرأة إلي العمل، ونقصد عمل المرأة الحديث بأجر، لأن المرأة السودانية قبل ذلك كانت عاملة في الزراعة والرعي وصناعة الغزل والنسيج وصناعة الفخار والأدوات المنزلية وغير ذلك حسب التقسيم الاجتماعي للعمل بين الرجال والنساء في القطاع التقليدي.
كانت النافذة الأولى لخروج المرأة السودانية للعمل هي حقل التعليم والحقل الطبي فيما بعد، ولعب الشيخ بابكر بدري دورا كبيرا في ذلك عندما فتح أول مدرسة لتعليم البنات عام 1907 في رفاعة.
ونظرا للتوسع في تعليم البنات كانت الحاجة ماسة لمدرسات سودانيات لتعليم البنات. وفى إبريل 1921 تم تأسيس كلية المعلمات التي بدأت بست عشر طالبة في السنة الأولى، ودار صراع شديد حول هذه القضية في البداية فقد تردد الآباء في أول الأمر في إرسال بناتهم لكلية المعلمات، إذ كانت فكرة إلحاق الفتاة بخدمة الحكومة وكسب عيشها عن طريق العمل أمورا جديدة في نظرهم بل خشوا من أن يكون في إكمال لتعليمها ضياع فرص الزواج، كما كان سن الزواج المبكر يمثل صعوبة أخرى، وكان الآباء يفضلون زواج بناتهن من السماح لهن بمواصلة التعليم، وحتى في الحالات التي وافق الآباء على التعليم لعقد فترة تدريب المعلمات، فقد تم ذلك على مضض نظرا لترك بناتهم تحت إشراف جنس آخر ودين مختلف. (التقرير السنوي لمصلحة المعارف 1928).
تم التغلب جزئيا على تلك المشاكل بأن تقرر بأن يسمح للفتاة باصطحاب والدتها أو جدتها للإقامة معها أثناء فترة التدريب، وأن تدفع مكافأة تعادل مرتب شهر بعد الانتهاء من العمل لمدة عام بشرط أن تعمل المدرسة المتمرسة أربع سنوات متوالية بعد تخرجها في الكلية، وهنا أيضا ساعد المثل العملي الذي ضربه بابكر بدري لما وافق على إرسال ابنته واثنين من بنات أخته للالتحاق بكلية المعلمات على إغراء بعض الآباء لكي يحذوا حذوه.
ارتفع عدد طالبات كلية المعلمات من 20 طالبة عام 1922 إلى 28 طالبة عام 1925، وبلغ عدد الطالبات 61 في عام 1930 (المصدر السابق، ص 170).
هذا إضافة لعمل المرأة في الحقل الطبي حيث بلغ عدد المؤهلات عام 1946 (477) وعدد الممرضات (137) ممرضة (سجلات السودان، ص 80).
هكذ بدأ يتطور تعليم المرأة ويتسع دورها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي ترجع جذوره إلى ثورة 1924.
نواصل
الوسومالعازة محمد عبد الله المرأة السودانية بابكر بدري تاج السر عثمان بابو ثورة 1924 خليل فرح صالون فوز كلية المعلماتالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: المرأة السودانية بابكر بدري ثورة 1924 خليل فرح تعلیم المرأة المرأة فی ثورة 1924
إقرأ أيضاً:
ثورة ديسمبر بوصفها مشروعًا لبناء وطن جديد بين الجهاد المدني وإعادة تأسيس الدولة
ثورة ديسمبر بوصفها مشروعًا لبناء وطن جديد بين الجهاد المدني وإعادة تأسيس الدولة
عروة الصادق
حين نقرأ ثورة ديسمبر 2018–2019 بوصفها مجرد انتفاضة أطاحت برأس نظام، نظلمها ونظلم أنفسنا، فالحادثة كانت أعمق من سقوط حاكم، وأوسع من تغيير حكومة. ما جرى كان، في جوهره، انفجارًا أخلاقيًا وسياسيًا في وجه بنية دولة مختلّة، ومحاولة جيل كامل أن يكتب عقدًا جديدًا بين السودان ونفسه. ولأننا نرى الأشياء بعين البصيرة لا بعين اللحظة، فإن الثورة تُقرأ كمسار لا كـ«حدث»، مسار بدأ باحتجاجات الخبز، وتجلّى في اعتصام القيادة العامة، ثم تعثّر في ممر الانتقال، ثم انقلب إلى حرب، وما زال يحمل في داخله إمكان مشروع خلاص وطني متى أحسنّا قراءته وأحسنّا تحويله إلى برنامج بناء.
هذه المقالة تحاول أن تقارب الثورة بمنهج رؤيوي، تحلل بنيتها، وتستخرج من سيرورتها دروسًا في فقه الجهاد المدني، وتقرأ انقلاب 2021 وحرب 2023 بوصفهما ذروة ثورة مضادة لم تُحسَم فصولها بعد، ثم تطرح ملامح طريقٍ لعودة الثورة، لا كشعار يتردد، وإنما كبرنامج إنقاذ وطن.
أولاً: ما عظمة ثورة ديسمبر؟ تعريف يتجاوز الإنشاءعظمة الثورة تُقاس بثلاث قدرات تاريخية توافرت لها في لحظة واحدة، لا بعدد الأيام في الشارع، ولا بكثرة الشعارات على الجدران، ولا حتى بمآلها السياسي الأول.
نقل السياسة من النخب إلى المجتمعلأول مرة منذ عقود أصبحت السياسة في السودان ممارسة يومية في الحيّ والشارع والجامعة وموقف المواصلات، بعد أن ظلت زمناً طويلاً حوارًا محصورًا بين حزب ونخبة ومجالس فوقية. تحوّلت لجان الأحياء إلى خلايا وعي وتنظيم، والمواكب إلى استفتاء متكرر على شرعية السلطة، والمتاريس إلى رموز لمجتمعٍ قرر أن يحمي نفسه بنفسه. بهذا المعنى خرج تعريف السياسة من دائرة النخبة إلى فضاء المجتمع، وصار الصراع مفتوحًا على تعريف الوطن ذاته: من يحكم؟ ولمن تُحكَم الدولة؟ وبأيّ حق؟ وكيف تُصان كرامة الناس في يومهم العادي قبل خطابات المنابر؟
بناء شرعية أخلاقية جامعةرفعت الثورة شعار «سِلمية» بوصفه سلاحًا شرعيًا، لا زينة لغوية. السلمية هنا تُفهم كاستراتيجية قوة، فهي تعزل الثورة عن تهمة الإرهاب والتمرد المسلح، وتضع السلطة في مواجهة ضميرها وضمير العالم حين تُقابل الأيادي العارية بالرصاص، وتستدعي التعاطف الداخلي والخارجي، وتُلقي على الخصم عبء كل طلقة يطلقها، عبءً سياسيًا وأخلاقيًا وقانونيًا. هكذا تحولت السلمية إلى صيغة من «الجهاد المدني»، مقاومة عنيدة متدرجة ترفع كلفة القمع، وتغلق الأبواب أمام الانزلاق السريع إلى حرب أهلية شاملة، وتُبقي المجتمع متماسكًا بقدر ما تسمح به لحظات الصدام القصوى.
توحيد الوجدان بسردية وطنية بسيطة وعميقةبدأت الشرارة من أزمة معاشية، الخبز والوقود والندرة والبطالة، ثم ارتفع الشعار سريعًا إلى مستوى آخر: «سلمية سليمة»؛ «تسقط بس»، «حرية سلام وعدالة»، «مدنية مدنية»، «عندك خت ما عندك شيل»؛ «يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور». في هذه العبارات القصيرة تكثيف لتحولٍ عميق: انتقال من السخط على الأسعار إلى رفضٍ جذري لبنية حكم، ومن ضيق المعيشة إلى سؤال الشرعية، ومن تعدد الهويات إلى لحظة وجدان مشترك يرى «الشعب السوداني» ذاتًا واحدة تطالب بحقها. هذا التوحيد الوجداني لا يمحو التنوع، وإنما يعلو عليه مؤقتًا ليخلق لغة مشتركة، تسمح لمواطني الشمال والغرب والشرق والجنوب السابق أن يلتقوا في ميدان واحد تحت راية واحدة، ويستعيدوا فكرة الوطن كمساحة عقد لا كمساحة غلبة.
ثانيًا: البنية التي ثارت عليها الثورة، أزمة دولة لا أزمة حكومةلا يُفهم اتساع الثورة ما لم يُفهم اتساع الأزمة. فالنظام الذي قام في 1989 لم يكن مجرد سلطة سياسية تُقاس بأخطائها اليومية، وإنما مشروع دولة حزبية أمنية أعادت تشكيل المجتمع والاقتصاد والمؤسسات على صورتها، حتى صار الخلل بنيويًا متغلغلًا في مفاصل الدولة والمجتمع معًا.
اقتصاد متهالك ومجتمع على حافة الانفجارسنوات من الحروب والعقوبات والفساد والزبائنية حولت الاقتصاد إلى جسد منهك: تضخم متصاعد، ندرة في الخبز والوقود والدواء، بطالة عالية بين الشباب، وريـع متولد من الحرب والتهريب والجبايات غير الرسمية. هذا الخليط جعل «العيش اليومي» فعلاً سياسيًا، وحوّل طوابير الخبز والوقود إلى مساحات احتقان ووعي. وعندما انفجر الغضب خرج من دفتر الأسعار إلى سؤال المسؤولية عن انهيارٍ بنيوي طال الدولة ومؤسساتها وأخلاق الحكم فيها.
دولة أمنية حزبية راكمت المظالم في المركز والأطرافأحاط النظام نفسه بأجهزة أمنية متشعبة، وشبكة ولاءات سياسية واقتصادية، واستخدم الحرب في الأطراف، دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، أداة لضبط المجال السياسي لا أداة لحماية الوطن. وبهذا تعمَّقت مسافة الشك بين الدولة والمجتمع: في الهامش رأى الناس مركزًا يستنزفهم، وفي المركز رأى الناس سلطة تحول العاصمة إلى جزيرة امتياز فوق بحر من الحرمان. وتراكم المظالم على هذا النحو صنع شعورًا عامًا بأن الدولة تعمل كآلة سيطرة لا كعقد حماية وخدمة.
تسييس كل مجالات الحياة بالقهرحين تُلاحَق الصحف، وتُكمَّم النقابات، وتُحاصر الجامعات، وتُخترق المنابر الدينية، وتُراقب الفنون، يصبح كل مجال من مجالات الحياة مسيّسًا بالقهر، وتغدو كل كلمة ضد الظلم خطوة على طريق الثورة. لذلك خرجت ديسمبر من معنى «الثورة السياسية» بالمعنى الضيق إلى معنى أوسع: ثورة على نمط حياة مفروض، وعلى دولة تريد امتلاك الجسد والرزق والفكر معًا.
ثالثًا: الثورة كتصميم قوة، من حدث احتجاجي إلى استراتيجية جهاد مدنيثورة ديسمبر يمكن قراءتها كتجربة مقاومة مدنية صاغت أدواتها بوعيٍ متدرّج، كأنها تتحرك وفق فقه المراحل والمآلات، فتنتقل من الاحتجاج إلى التنظيم، ومن التنظيم إلى خلق ميزان كلفة جديد للحكم.
التمدد الأفقي، من عطبرة إلى الوطنانطلقت الشرارة من عطبرة، غير أن بنية المجتمع السوداني، المدن المترابطة والحركة الطلابية والمهنيون وشبكات التواصل، جعلت الشرارة تتحول إلى شبكة تمتد من الأطراف إلى الخرطوم. تحالف المهنيين والناشطين وشباب الأحياء أسهم في تحويل الحدث المحلي إلى مشهد وطني، في صورة تنظيم شبكي لا يعتمد على «زعيم واحد» يمكن إسكات صوته لكسر الحركة، وإنما شبكة منسقين تحمي بعضها بعضًا.
أدوات تعبئة منخفضة الكلفة عالية الأثراخترعت الثورة أدواتها: مواكب منتظمة بأسماء وأيام معلنة، وشعارات قصيرة حافظة للمعنى قابلة للترديد في كل مكان، وفنون وأغانٍ وهتافات حولت الفعل السياسي إلى حدث وجداني، ورموز جديدة أبرزها صورة «الكنداكة»؛ المرأة التي تقف على سقف سيارة تهتف للحرية فتختصر دور النساء وكرامة الشعب وارتفاع الرأس بعد طول انحناء. هذا الابتكار في أدوات التعبئة جعل السياسة أقرب إلى الحياة وأشد التصاقًا بالناس، فأصبحت الثورة لغة يومية لا خطاب نخبويًا بعيدًا.
الاعتصام أمام القيادة، مساحة محررة ومختبر وطنعندما تحوّل محيط القيادة العامة إلى اعتصام مفتوح حدث تحول نوعي: الشارع لم يعد «ممر مظاهرات» وإنما صار مدينة سياسية مصغرة. لجان خدمة تنظم الطعام والنظافة والأمن الداخلي، منصات نقاش وحلقات حوار حول مستقبل الحكم، خطاب وطني جامع تُرفع فيه أعلام الأقاليم وتُستعاد أغاني الهامش ويُكتب على الجدران أن السودان للجميع. بهذا المعنى كان الاعتصام تمرينًا مبكرًا على الوطن: كيف يمكن أن نتعايش؟ كيف نحكم أنفسنا بلا عسف؟ من يراقب من؟ وكيف تتحول الجماعة من احتجاج إلى إدارةٍ للفضاء العام؟
العصيان والإضراب، تعطيل ذكي بلا رصاصةبعد مجزرة فض الاعتصام، وهي جرح غائر في الضمير السوداني، لم تنطفئ جذوة الثورة، وإنما تبدلت أدواتها. انتقل مركز الثقل من الميدان إلى العصيان والإضراب السياسي، وأظهرت الأيام التي شُلّ فيها المرفق العام أن الدولة لا تعمل بالأوامر وحدها، وإنما برضى آلاف العمال والموظفين والمواطنين. وارتفعت كلفة الحكم العسكري، فصار أمام معادلة شاقة: تنازل يخفف الاحتقان، أو مواجهة نزع الشرعية داخليًا وخارجيًا. هكذا برهن الجهاد المدني على قدرته على فرض الإرادة بلا رصاصة واحدة.
رابعًا: التحول في العقل السياسي السوداني، من رهبة السلطة إلى سيادة الشعبقد لا تُختَتم الثورات سريعًا بترتيبات سياسية نهائية، لكنها تخلّف وراءها عقلًا جديدًا. وثورة ديسمبر أنجزت في هذا المستوى إنجازين مفصليين.
نزع القداسة عن السلطةقبل ديسمبر سكن في الوعي العام، بفعل التاريخ والانقلابات المتكررة، أن الجيش والأمن «قدر» على السياسة، وأن المدنيين يُسمح لهم بالحكم حين يرضى العسكري ويُستغنى عنهم حين يشاء. جاءت الثورة لتكسر هذه الرهبة وتعيد تعريف العلاقة: لا قداسة لسلطة فوق إرادة الناس، ولا حصانة لمؤسسة حين تعتدي على العقد الوطني. هذا التحول في الوعي أصعب من إسقاط حاكم، لكنه يخلق أجيالًا لا تُخدع براية «المنقذ العسكري» ولا تمنح الاستبداد غطاءً باسم الأمن.
إعادة تعريف الوطنية كعدالةهتف الثوار: «حرية، سلام، وعدالة»، وترتيب هذه الكلمات يحمل معنى عميقًا: حرية من دون سلام تفتح الباب للفوضى، وسلام من دون عدالة يتحول إلى هدنة هشة فوق فوهة بركان، وعدالة من دون حرية قد تنحرف إلى انتقام مقنّع. هكذا صارت الوطنية التزامًا ببناء دولة لا تقصي أحدًا ولا تظلم إقليمًا ولا تحول موارد البلاد إلى غنيمة نخبة صغيرة. هذه الرؤية ألهمت نشوء لجان المقاومة بصيغتها المتقدمة: كيانات قاعدية تحرس المعنى أكثر مما تسعى لمقاعد السلطة.
خامسًا: مأزق الانتقال، من الشارع إلى الدولة: أين تعثّرت القافلة؟الانتقال من الثورة إلى الدولة يمثل عنق الزجاجة في كل تجربة تغيير، وفي السودان ظهر هذا المأزق بحدة.
معادلة الشراكة المدنية العسكرية، ترحيل الصراع لا حسمهالوثيقة الدستورية في 2019 كانت محاولة لتسوية انتقالية تقوم على شراكة بين المدنيين والعسكريين. غير أن العسكريين امتلكوا السلاح والموارد وشبكات الدولة العميقة، بينما القوى المدنية دخلت المرحلة مثقلة بانقسامات وبخبرة تفاوضية متباينة، ودون اتفاق كافٍ على برنامج موحد لإعادة بناء الدولة. وبذلك انتقل الصراع من الشارع إلى مؤسسات انتقالية هشة، من دون تفكيك جذري لاقتصاد العنف ولا لإمبراطوريات المال والسلاح التي ترعرعت في عهد النظام السابق.
انفصام بين الشارع والقيادةمع مرور الوقت شعر قطاع معتبر من قواعد الثورة باتساع المسافة: قرارات تُتخذ بقدر محدود من الشفافية، وتسويات فوقية لا تستوعب الشارع في تفاصيلها، وشعور متنامٍ بأن من جلسوا على كراسي السلطة الانتقالية، مدنيين وعسكريين، لا يجسدون بالكامل روح ديسمبر. هذا الانفصال سهّل على قوى الثورة المضادة استثمار التخويف من الفوضى، وتقديم انقلاب أكتوبر 2021 باعتباره «تصحيحًا للمسار» لدى بعض القطاعات، قبل أن تتكشف حقيقة الردة.
سادسًا: من الثورة إلى الحرب، حين انقلبت الدولة على المجتمعحرب 15 أبريل 2023 لا تقف خارج السياق، فهي ثمرة مرّة لفشل حسم سؤال السلاح والدولة.
تعدد مراكز القوة المسلحةفي ظل التردد في إصلاح القطاع الأمني، ظل جهاز الدولة حاملاً أكثر من مركز قوة: جيش نظامي متشعب، قوة موازية نمت في الهامش ثم تصدّرت المركز، ومليشيات محلية وإقليمية ترتبط بهذا الطرف أو ذاك. وعندما انفجرت التناقضات بين هذه المراكز وجد المجتمع نفسه ساحة حرب بين أطراف يفترض فيها حماية الوطن.
الحرب بوصفها ذروة الثورة المضادةما كان يخشاه العقل الاستراتيجي وقع: من ثورة تطالب بمدنية كاملة، إلى انقلاب يعيد العسكر إلى الواجهة، إلى حرب تمزق المدن والريف وتستخدم التجويع والنزوح والعنف الجنسي أدوات في الصراع. انتهى تفويض البعثة الأممية المعنية بالانتقال، وتحوّل السودان في عيون العالم من «انتقال سياسي» إلى «صراع مسلح مفتوح». بهذا المعنى انتقلت الثورة المضادة من كسر شوكة الشارع إلى محاولة كسر ظهر المجتمع والدولة معًا.
سابعًا: كيف تعود الثورة؟ من شعار إلى برنامج للخلاص الوطنيالسؤال الآن يتجاوز تقييم صواب الثورة، فقد أجابت دماء الشهداء عنه، ويتجه نحو كيفية استعادة روحها لتتحول إلى برنامج خلاص لا مجرد ذكرى.
الجواب يحتاج إلى استراتيجية مزدوجة المسار.
المسار الأول: إنقاذ المجتمع، وقف الحرب وحماية المدنيين
هذا واجب الوقت الأخلاقي والإنساني: وقف إطلاق نار قابل للمراقبة، لا بيانات شكلية، يتبعه فتح ممرات إنسانية وضمان أمن المدن والمعسكرات ووقف استهداف المدنيين في كل الجبهات. كما يحتاج إلى توحيد الصوت المدني في مطلب حماية الناس، بصرف النظر عن اختلاف البرامج السياسية، فالحد الأدنى هنا يمثل خط الدفاع الأول عن المجتمع. ويحتاج كذلك إلى ضغط إقليمي ودولي على رعاة الحرب، من يمول السلاح ويغض الطرف عن الانتهاكات ويستخدم السودان ساحة لتصفية الحسابات، حتى يدرك أن الكلفة السياسية والأخلاقية لن تكون سهلة. ويحتاج أخيرًا إلى توثيق الانتهاكات وحفظ الأدلة، حتى لا تضيع الحقوق، وحتى يعلم المتورطون أن العدالة قد تتأخر، لكنها تظل طريقًا مفتوحًا لا يمكن إغلاقه إلى الأبد.
المسار الثاني: إنقاذ الدولة، صياغة عقد سياسي جديد
من دون دولة راشدة، لن تجد أي هدنة أرضًا تقف عليها. لذلك تحتاج القوى المدنية الجادة، والنقابات المستقلة، ولجان المقاومة، والفاعلون الاجتماعيون، إلى الالتفاف حول برنامج حد أدنى يمكن تلخيصه في نقاط مترابطة: مدنية كاملة تنهي أي صيغة تجعل السلاح شريكًا حاكمًا، وقوات مسلحة قومية مهنية بعد تفكيك منظومة “الإخواسكرية” وهيكلة بنية القوات النظامية وإصلاحها تحت إمرة سلطة مدنية منتخبة. وإصلاح جذري لقطاع الأمن يقود إلى جيش واحد مهني يخضع للدستور والمساءلة، مع دمج أو حل كل التكوينات والقوات الموازية وفق معايير زمنية واضحة وبرامج نزع سلاح وإعادة دمج متفق عليها ومسنودة بخطط اقتصادية واجتماعية. وعدالة انتقالية سودانية الروح توازن بين كشف الحقيقة ومحاسبة كبار المسؤولين عن الجرائم وجبر الضرر وفتح باب المصالحة المجتمعية، بحيث لا تُبنى البلاد على النسيان ولا تُدار بثقافة الثأر. واقتصاد سلام يقطع مع اقتصاد الحرب، يخضع الموارد للشفافية ويعيد هيكلة المالية العامة ويوجه الاستثمار نحو الزراعة والرعي والصناعة المحلية والبنية التحتية في الأقاليم المهمشة، لأن أي تسوية تتجاهل شبكات التهريب والجبايات غير القانونية والشركات المرتبطة بالقوى المسلحة ستعيد إنتاج العنف بصيغ جديدة. ومواطنة تعاقدية ووحدة بالتنوع، عبر عقد جديد يمنح الأقاليم صوتها ومصلحتها، ويعترف بالتعدد الثقافي والديني واللغوي، ويجعل الانتماء للوطن أعلى من الانتماءات دون أن يلغيها.
هذا البرنامج ليس ترفًا فكريًا، وإنما ترجمة استراتيجية لشعار «حرية، سلام، وعدالة» في زمن الحرب.
ثامنًا: دروس المنهج، ما الذي تعلّمناه للمرة القادمة؟العقل الاستراتيجي يحوّل الألم إلى معرفة. وتجربة ديسمبر بما تلاها تقدم دروسًا كبرى.
قوة الشبكات وحدودهاأثبتت لجان المقاومة والشبكات الأفقية أنها أكثر صمودًا أمام القمع وأكثر قدرة على ربط السياسة بالحياة اليومية. غير أن الانتقال إلى بناء دولة يحتاج، إلى جانب قوة الشبكات، قدرًا من المركز: قيادات منتخبة، ناطقين رسميين، وآليات تفاوض شفافة، حتى لا تُختطف الثورة باسم تمثيلٍ لا يخضع للمساءلة.
سلمية لا تعني السذاجةالسلمية خيار استراتيجي يرفع كلفة القمع ويحافظ على النسيج الاجتماعي. ومع ذلك، فإن حسن الظن المفرط يفتح ثغرات قاتلة، والتساهل في ملفات تفكيك بنية التمكين وإصلاح القطاع الأمني وضبط السلاح خارج الدولة يسمح للردة بالعودة. كل ثغرة في هذه الملفات تتحول إلى فتحة في جدار الثورة يدخل منها الانقلاب والحرب.
لا انتقال بلا تفكيك اقتصاد العنفاقتصاد الحرب أخطر من الحرب ذاتها لأنه يبقى بعد صمت المدافع. شركات الظل والتجارة غير المشروعة وربط الامتيازات بالسلاح عناصر تُحوّل السلام إلى تهديد لمصالح مجموعات نافذة. إعادة بناء الاقتصاد على الشفافية وتوسيع قاعدة المستفيدين من التنمية واستعادة الموارد المنهوبة قضايا سياسية بقدر ما هي فنية، وهي شرط لبناء سلام قابل للبقاء.
ضرورة تجسير الفجوة بين القاعدة والقيادةلجان المقاومة والنقابات والكيانات المهنية والشبابية تمثل رصيدًا واسعًا من الوعي، وتركها خارج دوائر القرار يصنع فجوة خطيرة. المطلوب عملية سياسية جديدة تعترف بهذا الرصيد وتبتكر صيغ تمثيل للقاعدة، عبر مجالس محلية أو ترتيبات قاعدية منتخبة أو آليات رقابة شعبية، حتى يشعر الناس أن العقد الجديد صُنع بأيديهم، لا فُرض عليهم من فوق.
تاسعًا: الثورة كعهد لا كموسم، كلمة أخيرةمن السهل رثاء ثورة ديسمبر وسرد بطولاتها ولعن خيانات الطريق ثم العودة إلى اليأس. الأصعب، والأشرف، حملها عهدًا لا موسمًا.
عهدًا مع أنفسنا: ألا نقدّس سلطة بعد اليوم، وألا نُضيّع دماء الشهداء في مساومات رخيصة، وألا نسمح باختطاف الوطن مرة أخرى بين فكي حزب واحد أو بندقية واحدة. وعهدًا مع هذا الوطن أن نراه وحدة في تنوع، لا غنيمة جهوية أو أيديولوجية، وأن نجعل من جراحه درسًا للإقليم والعالم: شعب قادر على تقديم نموذج في الجهاد المدني، وقادر على إعادة تأسيس الدولة بعد الحرب متى امتلك أدوات البناء وإرادة التماسك.
وثورة ديسمبر، رغم ما يحيط بها اليوم من حرب وجوع وتشريد، ما زالت تحتفظ في أعماق الناس بمخزون من الأمل والمعنى. هذا المخزون هو الطاقة الثورية الحقيقية، لا تُقاس بالمواكب وحدها، وإنما بإصرار الناس على أن هذا الوطن يستحق أفضل مما هو فيه، وبقناعتهم أن طريق الحرية والسلام والعدالة، مهما طال، يمثل الطريق الوحيد الذي يوصل.
ومن هنا يصبح السؤال ليس: هل انتهت الثورة؟ وإنما: متى نبلغ نضجًا يجعلنا نحولها من لحظة احتجاج إلى مشروع بناء؟ وذلك هو التحدي الأكبر لجيلٍ عاش ثورة وانقلابًا وحربًا في عقد واحد، وهو مطالب مع ذلك أن يؤمن أن الفجر، مهما تأخر، ممكن، وأن السودان، مهما نزف، قادر على النهوض متى اجتمعت حول ميثاقه قلوب صادقة، وعقول مجتهدة، وأيادٍ تبني ولا تهدم.
الوسوماعتصام القيادة العامة اقتصاد العنف الإضراب الدولة السودان القيادة والقاعدة ثورة ديسمبر عروة الصادق عقد سياسي جديد