منذ انطلاقة نهضة عُمان الحديثة في الثالث والعشرين من يوليو 1970، سارت السياسة العمانية في تعاطيها مع القضايا العربية والدولية، وفق المصالح العليا والأساسية للوطن العماني، والتمسك بمبدأ الانتماء المصيري لأمتها العربية، وقضاياها المبدئية الثابتة، وفي إطار ما تم الاتفاق عليه في العمل العربي المشترك، والإجماع عليه في ضوء السياسات القائمة، سواء ما تم في قرارات القمم العربية والخليجية، أو في ما وضعته الجامعة العربية، من قرارات وتوصيات تعزز المواثيق والاتفاقيات التي تدعم الحقوق العربية العادلة، وأهمها قضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية، بما تمثله من حقوق ثابتة، ليس على المستوى العربي فقط، لكن هذه الحقوق معترف بها في المنظمات الدولية وغالبية دول العالم منذ عام 1948.

وبعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر العام المنصرم، والحرب على غزة من قبل إسرائيل واستهداف الأبرياء من المدنيين كانتقام لما جرى في هذه العملية التي باغتت إسرائيل واستطاعت أن تتجاوز استخباراتها وأجهزتها العسكرية، وما جاء من بعض الدوائر الغربية المؤيدة لإسرائيل والإبادة الجماعية لسكان غزة، واعتبار أن ما قامت به إسرائيل، هو دفاع عن النفس! واعتبرت سلطنة عمان على لسان معالي السيد وزير الخارجية، أن ما تفعله إسرائيل، جرائم حرب ضد مدنيين عزّل في بيوتهم، وفق القوانين والمواثيق الدولية، كما أن السلطنة رفضت دعوات إسرائيل، وبعض الدول الغربية، بأن حركة حماس حركة إرهابية، وأعرب أن سلطنة عمان تختلف مع هذا التوصيف للمقاومة، وأنها حركة مقاومة لاستعادة الحقوق العادلة، وأن الحل هو حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة كما أقرتها القوانين الدولية التي أقرتها منذ ما يقرب من نصف قرن.

فهذه المواقف الثابتة في سياسة بلادنا، هي سياسة لا تقبل القسمة على اثنين ولا تلعب سياستها بوجهين، ولا تقيس الأمور بعيدا عن الحقائق الناصعة التي يتم فيها الفرز الصحيح بين الحق والباطل، في قضايا واضحة وثابتة قانونا، وهي ما جعلته المنظمة الدولية من الثوابت في القوانين التي تم وضعها بعد إنشاء هذه المنظمة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يجب التمسك به ليكون الحق والعدل والإنصاف، طريقا للاستقرار والسلام في كل القضايا العالقة والخافتة، بدلا من استعمال الحروب والصراعات والتوترات، التي تزيد من الأزمات ولا توقفها، وفي افتتاح انعقاد الدورة الثامنة لمجلس عُمان في نوفمبر العام المنصرم، أكد جلالة السلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ـ على المبادئ الثابتة في الحق الفلسطيني العادل، وفي قضية الحرب على غزة، واستهداف المدنيين والحصار الذي استمر أكثر من عقد ونصف العقد، وقال جلالته ـ أيده الله: «إننا إذ نُتابعُ بِكُل أسى ما يتعرض له الأشقاء في فلسطين المحتلة، من عدوان إسرائيلي غاشم، وحصار جائر؛ لَنُؤكّدُ على مبادئنا الثابتة لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، ومؤكدين على ضرورة تَحَمُّل المجتمعِ الدولي مسؤولياته والتزاماته تجاهَ القضية الفلسطينية، والمسارعة في إيجاد حلول جذرية لتحقيق آمال الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وبذلك يَعُمُّ السلامُ في منطقتنا ويَنعم العالم أجمع بالأمن والأمان. ونود هنا أن نؤكد على ثوابتنا السياسية المبنية على مبادئ حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، وعلى إرساء نظام عادل لتبادل المنافعِ والمصالح، وعلى إقامة أسس الاستقرار والسلام والإسهام فيها بإيجابية».

كما أن بلادنا أشرت في كتابات ومناسبات قبل ذلك، اتخذت سياسة محددة وثابتة ومستمرة في القضايا المصيرية، وأنها تقوم بالدعم الكامل للنضال الفلسطيني في مختلف الأصعدة والمستويات، وعلى تأييد كل ما من شأنه أن يقرب من التوصل إلى حل شامل ودائم وعادل في إطار الشرعية الدولية ليعاد الحق السليب إلى أصحابه الشرعيين، ونتذكر عند قيام حرب أكتوبر 1973م وقفت سلطنة عمان وقفة شجاعة، داعمة للحق العربي السليب، وساندت جمهورية مصر العربية وسوريا ضمن المواقف العربية المؤيدة للحق العربي، لإنهاء احتلال إسرائيل للأراضي العربية المحتلة وضد العدوان، فقال السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه: «إننا جزء من الأمة العربية تربطنا وحدة الهدف والمصير قبل أن يجمعنا ميثاق الجامعة العربية، وموقفنا من القضايا العربية واضح وصريح لا لبس فيه ولا غموض، وقد أعربنا عن تضامننا مع أخوتنا العرب بكل ما نستطيع وأبدى الشعب العماني روحا أصيلة في الوقوف ضد العدوان الصهيوني، وتأييد الحق العربي في استعادة جميع الأراضي العربية التي اغتصبها العدو بالقوة والغدر والإرهاب. وسنبقى دائما مؤيدين للحق العربي ندعمه بالدم والمال ونسانده بكل طاقاتنا حتى يعود الحق إلى نصابه وترتفع أعلام النصر على الرؤوس بعون الله». ولا شك أن هذه السياسة العمانية المعلنة، لا تتخذ سياسات متقلبة أو متسرعة في التطورات السياسية التي تحدث في العالم، قبل أن تتم لها الدراسة العميقة، لكل الأمور والمستجدات التي تستدعي رأيا معينا وإيجابيا كما تراه، وهذه من ركائز هذه السياسة التي تنتهجها سلطنة عمان، وحافظت عليها بصفة دائمة، وعرفت بها في كل المحافل الدولية، ومنها توسيع قاعدة الأصدقاء في العالم.

فالسياسة العمانية الخارجية الثابتة اتجهت الاتجاه المتوازن، وتعاطت مع كل التحولات والصراعات الدولية، بمنطق الإسهام في الحلول السلمية في الخلافات والتوترات التي تحدث بين الدول بين الوقت والآخر، ومنها نشوب العديد من حروب والتوترات في المنطقة العربية والدولية، لأسباب سياسية واقتصادية وحل الخلافات الحدودية، وغيرها من الخلافات والصراعات، ومن هذه المنطلقات السياسية المبدئية التي سارت عليها سلطنة عمان، أنها نأت بنفسها عن سياسة المحاور والخلافات الإقليمية والدولية بما يجنبها اتخاذ مواقف ليست منطقية أو داخلة في ثوابتها الأساسية، ولاقت هذه السياسة التقدير والاحترام في المؤتمرات واللقاءات التي تجري عادة، وعندما كنا نشارك كعمانيين في هذه الملتقيات الإقليمية، في مناسبات خارج سلطنة عمان، كنا نسمع التقدير الكبير لهذه السياسة، من بعض الباحثين والأكاديميين المتابعين والمهتمين بسياسة المنطقة والآراء السياسية الرسمية، التي تنطلق منها تجاه الأحداث التي في المنطقة وخارجها، وما لسياسة بلادنا في كل القضايا، وكانت الحكمة والعقلانية التي تميزت بها، وكذلك جهودها الدبلوماسية، لحل الخلافات البينية بين الكثير من الدول، والإسهام في وقف التوترات والنزاعات التي تحدث، ولا تزال هذه السياسة ثابتة، سار عليها السلطان الراحل قابوس بن سعيد ـ تغمده الله بالرحمة والمغفرة ـ منذ توليه مقاليد الحكم عام 1970، وأكد على هذه السياسة جلالة السلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه. وقد استطاعت هذه السياسة، أن تحظى بتقدير واحترام العالم، لما قامت به من جهود سياسية ودبلوماسية، على مختلف المستويات، لتقريب وجهات النظر، وإطفاء الحرائق السياسية في بعض القارات، وحققت الدبلوماسية العمانية، نجاحات كبيرة..منها حل الخلاف حول المفاعل النووي بين الولايات المتحدة وإيران ـ وإن لم يكتب لهذا الاتفاق النجاح بعد وصول الحزب الجمهوري لحكم الولايات المتحدة ـ لكن الاتفاق جمّد أزمة سياسية كادت أن تتحول إلى ما هو أخطر في هذه المنطقة، فالسياسة العمانية قامت على أسس ومبادئ ثابتة، وانطلقت من مرتكزات لا تحيد عنها، فالحفاظ على هويتها العربية الإسلامية دفعها إلى اتباع هذه السياسة. ولا شك أن السياسة العمانية، في كل القضايا العربية والدولية، سارت بمنهج من الواقعية والمصداقية، تجاه كل القضايا العالقة في مسيرة الأمة العربية، والموقف من قضايا الأمة وظروفها، محل اهتمام السلطنة ومتابعتها، بما يعبر بحق عن المشاركة الفعالة، لكل المستجدات والتطورات، وقد عبرّ جلالته عن هذا الموقف الثابت في السياسة العمانية في أكثر من مناسبة، واليوم تحتفل بلادنا بمرور أربعة أعوام على تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ وفقه الله -، والذي يسير بنهضة عُمان المتجددة، بنفس النهج القويم والحكمة الثاقبة، في إدارة السياسة العمانية على كل الأصعدة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وهذا المحور الأخير حظي باهتمام بالغ من قيادتنا الحكيمة من أجل الحياة الكريمة لهذا الشعب، من خلال قوانين ونظم (الحماية الاجتماعية)، وغيرها من المهام التي ستكون في صالح الشعب العماني ورفاهيته بإذن الله.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السیاسة العمانیة هذه السیاسة سلطنة عمان کل القضایا

إقرأ أيضاً:

دبلوماسيان روسيان: السياسة الغربية في العلاقات الدولية مهترئة والواقع سيفرض قوانينه الموضوعية

موسكو-سانا

أكد الخبير في مركز الدراسات الشرق أوسطية والأفريقية في معهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية، السفير فينيامين بوبوف أن سياسات الغرب الجماعي بقيادة الولايات المتحدة في العلاقات الدولية مهترئة، وأن الواقع سيفرض قوانينه الموضوعية.

وأوضح بوبوف في تصريح لمراسل سانا في موسكو اليوم أن الإجراءات الاقتصادية الغربية القسرية المفروضة على الشعب السوري ليست بمنأى عن السياسة الغربية التي مارستها الدول الاستعمارية في الماضي، لافتاً إلى أن استعادة سورية مكانتها في فضائها العربي والإقليمي تدل على أن الأوضاع فيها تتحسن، ولن ينجح أولئك الذين يتعاملون معها بالأساليب والأدوات الاستعمارية السابقة في تحقيق غاياتهم.

ولفت بوبوف إلى أن الأغلبية العظمى في العالم قلقون لما يجري في المنطقة، حيث يقوم الأمريكيون بنهب الثروات السورية وتصعيد الأوضاع في المنطقة العربية، مشيراً كذلك إلى أن السياسة الغربية ضد روسيا خرقاء ولا شيء جديداً فيها، كما أن المحاولات الأمريكية لإخضاعها ستفشل.

وفي تصريح مماثل، أكد رئيس قسم دراسات بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة الأبحاث العلمية- المدرسة العليا للاقتصاد في روسيا، السفير أندريه بوكلانوف أن السياسة الأمريكية بشكل عام تعاكس القوانين العالمية الموضوعية، وأنها تجاه سورية تتصف بطابع تشديد الحصار الاقتصادي على الشعب السوري، وتسييس تقديم المساعدات الإنسانية لمناطق دون أخرى، ومحاولة شجب التعامل مع الحكومة الرسمية في دمشق انطلاقاً من مواقف ونوايا خبيثة.

وبشأن التهديدات الغربية لروسيا، قال بوكلانوف: إن الوضع على أرض المعركة يتطور بشكل سريع، وتنهار دفاعات القوات الأوكرانية، وتتقدم الوحدات الروسية على جميع الجبهات، مشيراً إلى مخاوف الرعاة الغربيين من انهيار الدولة الأوكرانية بأكملها والذي لا علاقة مباشرةً له مع نجاحات القوات الروسية على الأرض، موضحاً أن نظام كييف بات غير مقبول من قبل أغلب السكان.

مقالات مشابهة

  • دبلوماسيان روسيان: السياسة الغربية في العلاقات الدولية مهترئة والواقع سيفرض قوانينه الموضوعية
  • الصرخة سلاح الأقوياء في وجه الطغاة
  • التحديات المصرية.. والأمن القومى العربى
  • رئيس حزب الريادة: الوقوف خلف القيادة السياسية أمر حتمي في ظل الأوضاع الراهنة
  • كيف عادت فلسطين أم القضايا؟
  • تظاهرات حاشدة قي 56 مدينة مغربية نصرة لفلسطين ومطالبة بـ"إسقاط التطبيع"
  • التقليد الأعمى وغباء المحاكاة
  • حين تعوض السياسة فشل الحرب
  • الازدواجية اللغوية الرسمية والشعبية خطر على وحدة الثقافة والهوية
  • باحث: توافق كبير بين الصين والدول العربية في عدد من القضايا ومنها القضية الفلسطينية