لجريدة عمان:
2025-05-25@00:33:39 GMT

هزيمة الغرب من داخله

تاريخ النشر: 24th, May 2025 GMT

كتب د. بدر الشيدي قبل أسبوعين مقالا في جريدة عمان بعنوان «في هزيمة المنتصر» ناقش فيه التمزق والانحدار الأخلاقي الذي يتوارى خلف أقنعة القوة الغربية مؤكدا أن الغرب الذي يعتقد أنه منتصر هو في حقيقته مهزوم، وقد هزمته معاييره المزدوجة وانتهاكه للقوانين الإنسانية، وهو مهزوم كذلك بسبب صعود الأحزاب الشعبوية التي تقوض كل قيمه ومبادئه التي أكسبته شرعيته خلال القرن الماضي.

طرح الدكتور بدر مهم لأنه يقرأ ما يحدث في الغرب بدقة، وفيه تشخيص لا ينطلق من موقف ثقافي أو وجداني نتيجة موقف الغرب مما يحدث في غزة ولكنه تحليل يمكن أن نرصد صداه اليوم في الغرب نفسه، وهو صدى يتجاوز حتى حراك طلاب الجامعات، رغم أهميته، لنجده فيما يطرحه بعض المفكرين الغرب أمثال نعوم تشومسكي ومؤخرا المفكر الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الجديد «هزيمة الغرب».

لا يطرح إيمانويل تود رؤية نقدية للسياسات الغربية ونتائجها ولكن يروي تاريخا من الانهيار الداخلي الطويل الذي يتمثل في فقدان الغرب لرسالته الحضارية، وتحوّله من مشروع فلسفي وإنساني إلى مشروع مادي صرف، فقد البوصلة الأخلاقية التي جعلت من «الحداثة الغربية» مرجعية كونية في فترات طويلة سابقة. من وجهة نظر تود، لم تعد الهزيمة حدثا عسكريا أو أزمة سياسية، بل أصبحت عملية تراكمية من التفسخ القيمي والانحدار المعنوي، تخاض دون معارك، وتُحسم من الداخل.

لم يهزم الغرب لأن أحدا هزمه بل لأنه انهار من تلقاء نفسه. لم ينتصر عليه خصم بقدر ما هزم ذاته حين اعتبر أن انتصاره هو قدر نهائي مغلق. وهذه هي المفارقة الفلسفية الكبرى: أن تُهزم لا حين تخسر معركة، بل حين تفقد قدرتك على طرح معنى جديد للعالم.

يتتبع تود في كتابه خيوط هذا الانحدار انطلاقا من الولايات المتحدة، التي تحولت إلى قوة عسكرية واقتصادية عاجزة عن إدارة العالم، ثم إلى أوروبا التي تحولت من مشروع تكامل إنساني إلى مكان للقلق والانغلاق والتفكك الديموغرافي والثقافي. وفي الحالتين، لم تكن الهزيمة في العتاد أو في الفعل، بل في الفكرة، في تآكل النماذج التي جعلت من الغرب ذات يوم قوة ملهمة.

من هذا المنظور، فإن ما نراه اليوم في صراع «طوفان الأقصى» ـ الذي جعله الدكتور بدر الشيدي في مقاله معيارا ومحكا يقيس عليه حجم الانهيار الغربي ـ ليست مواجهة بين آلة استعمارية وشعب محاصر، بل لحظة اختبار قيمي تكشف لنا بجلاء ما هو الغرب الذي وصفه تود بشكل واضح في قوله: «لم يعد الغرب يفتن أحدا، لم يعد يُلهم. لقد صار يفرض إرادته من خلال القوة والسيطرة»، بعد أن فقد قدرته على الإقناع الأخلاقي والثقافي.

لقد سقط القناع الغربي في «طوفان الأقصى» ليس بفعل العدو ولكن من فرط الهشاشة الأخلاقية للذات الغربية نفسها. وهو ما يؤكده تود حين يرى أن الغرب بات يستهلك شرعيته الرمزية من رصيد أخلاقي لم يعد موجودا، وأنه يسير بخطى ثابتة نحو عزلة قيمية خانقة، بعدما انفصل عن العالم وبدأ ينظر إليه بوصفه تهديدا وجوديا.

لا يمكن، هنا، فصل الهزيمة الغربية عن جذرها الفلسفي؛ فالمشروع الغربي الذي تأسس منذ عصر الأنوار على مفاهيم التقدم، والعقل، والحرية، والكرامة الإنسانية، تآكل من الداخل حين تحوّل إلى منظومة نفعية، تسحق القيم باسم السوق، وتُدير العلاقات الإنسانية والسياسية بمنطق الهيمنة لا بمنطق الشراكة. ولم تهزم الرأسمالية الغربية خصومها الاقتصاديين فقط، بل هزمت الإنسان، أيضا، بوصفه غاية، وأخضعت كل شيء لمعيار الربح والسلطة. وهنا تكمن «هزيمة المنتصر»، التي تحدث عنها الدكتور بدر الشيدي.

لا يبدو تود في كتابه شامتا بهزيمة الغرب ولكن يطلق في كتابه إنذارا مسموعا للجميع لأن انهيار الغرب، من وجهة نظره، لا يعني مجرد نهاية مرحلة تاريخية بقدر ما هو بداية لفوضى معنوية كونية في ظل غياب المركز الذي كان يضبط إيقاع الخطاب الأخلاقي حسب ما يذهب في كتابه، حتى لو كان الخطاب الأخلاقي للمركز متحيزا. ولكن الخطر الأكبر يكمن في غياب البدائل، حيث أن المطروح لم يستطع بلورة خطاب عالمي مقنع حتى الآن.

حتى الحضارة العربية المبنية على الفلسفة الأخلاقية لا يبدو أن لديها البديل الذي يستطيع إقناع العالم، فهي علاوة على أنها منهكة في مواجهة آثار الهيمنة الغربية، فإنها، أيضا، مصابة بالتشظي الداخلي والبنيوي في عمقها في ظل غياب أي مشروع ثقافي أو أي اتفاق داخلي يمكن أن يُفهم منه تماسك الأمة وقوتها وقدرتها على المراجعة. وإذا كان الجابري كما طرح الدكتور بدر الشيدي قد تحدّث عن «أخلاق الهزيمة» التي تطبع العقل العربي، فإن الغرب ذاته، كما يُظهره تود في كتابه قد أُصيب بنسخة مقلوبة من هذه الأخلاق: أخلاق منتصر لا يجرؤ على الاعتراف بهزيمته؛ ولذلك هو ينغمس في الإنكار، ويزداد تطرفا وعنجهية مع كل أزمة رغم حقيقة هزيمته الداخلية!

والحقيقة التي يفقدها الجميع، بما في ذلك العرب أنفسهم، تتجلى في فقدان القدرة على الإصغاء للنقد، نقد الذات أو نقد الآخر. وتود، وهو القادم من داخل المؤسسة الغربية، ينذر بثمن الغطرسة الثقافية التي تمنع الحضارة الغربية من مراجعة نفسها. وهذا النوع من الهزائم لا يترك جراحا واضحة، لكنه يفكك الروح الجماعية، ويترك النخب السياسية والثقافية في حالة تيه في قوقعة القوة العسكرية أو خطاب التفوق الأخلاقي الزائف.

لا شيء أكثر خطورة على الغرب من نفسه. هذه الخلاصة التي يصل لها تود في كتابه، وهذه في الحقيقة خلاصة عصرنا الذي نعيشه، حين تنتصر الآلة وتنهزم القيم، وحين يصبح المنتصر أكثر هشاشة من المهزوم نفسه، لأن الهزيمة في هذا السياق ليست فشلا في الميدان بقدر ما هي خسارة في المعنى الذي ننطلق منه ونبني وفقه قيمنا.

هذه اللحظة، كما أراها، ليست لحظة سقوط الغرب فقط، ولكن لحظة سقوط الثقة في المستقبل الذي بشّر به الغرب ورسمه للعالم أجمع. لكن في هذه اللحظة ما يمكن أن يكون أملا/ فرصة من أجل أن يعيد العالم كتابة القيم الإنسانية الكبرى من جديد، ليس بهدف هزيمة الغرب ولكن لإنقاذ ما تبقى من إنسانية هذا العالم التائه.

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الدکتور بدر هزیمة الغرب

إقرأ أيضاً:

في الطريق إلى غزة يطهر الغرب نفسه

آخر تحديث: 24 ماي 2025 - 9:24 صبقلم:فاروق يوسف هل يعلن العالم عن شعوره بالذنب لأنه لم يكتف بإدارة ظهره لأهل غزة بل ساند الحرب عليهم وقدم لها كل وسائل الدعم المادي والترويج العالمي لحكايات تلك الحرب من وجهة نظر المعتدي لا من وجهة نظر الضحية؟محت دول مثل فرنسا والسويد زمنا يناهز السنة وعدة شهور كانت فيه أشبه بالحليف الذي هو على استعداد ليكون جزءا مباشرا من تلك الحرب، لتظهر استهجانها لاستمرار الحرب التي لم يعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب يطيق سماع أخبارها من غير أن يجرؤ على الاعتراف بأنها ما كان لها أن تكون بذلك الحجم المدمر والنزعة الوحشية لولا الدعم الاستثنائي الذي تلقاه سفاحها من الإدارة الأميركية. سيقال على سبيل المغالطة إن ترامب لم يكن رئيسا يوم السابع من أكتوبر 2023. سيُقال إن دول الاتحاد الأوروبي انجرت وراء الموقف الأميركي المتطرف وهي تحت تأثير صدمة ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم. سيُقال أيضا إن طوفان الأقصى الذي يثق الغرب كله بأنه كان صناعة إيرانية قد كان بمثابة امتحان عسير للدفاع عن وجود إسرائيل باعتبارها طفله المدلل.لن يعتذر الغرب عن مساهمته في إبادة شعب أعزل ولن تكون كل التصريحات المنددة باستمرار الحرب والتي صارت تأتي من الغرب كفيلة بإعادة أسباب الحياة في بلاد ذهبت إلى الجحيم كل تلك الأقوال لا تعبّر عن رؤية سياسية عميقة في تحليلها لما حدث من انفجار، كانت غزة مساحته المباشرة لكنه في حقيقة جذوره إنما يعبّر عن حجم الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون وهم يرون أن قضيتهم تُمحى بطريقة ممنهجة، فيتم نسف كل القرارات الأممية التي تتعلق بها من أجل أن يتم تحويلها إلى مسألة إنسانية، يمكن أن تحلها منظمات الإغاثة والمعونات التي تصل إلى الفلسطينيين عن طريق إسرائيل وما من طريق آخر لها. وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد عبّرت عن خصومتها مع الشعب الأميركي من خلال سحب مساهمتها في تمويل وكالة غوث اللاجئين “الأونروا” فإن دول الاتحاد الأوروبي كانت على إطلاع مباشر على عمق الهوة التي تفصل بين ما هو سياسي وما هو إنساني. كان حضورها الإنساني قويا غير أنها ظلت عاجزة دائما عن لعب دور أساس في المسألة السياسية على الرغم من أن اتفاق أوسلو، على سبيل المثال، كان في الجزء الأكبر اختراعا أوروبيا. لم تكن أوروبا باستثناء بريطانيا على خصومة مع الفلسطينيين، غير أن ما حدث في السابع من أكتوبر قلب كل المعادلات رأسا على عقب. هناك قوى يمينية صارت تتقدم في أوروبا لتهيمن على السلطة في عدد من دولها أو تكون قريبة منها في دول أخرى. تلك قوى لا تنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب مهدد بوجوده على أرضه بقدر ما تنظر إلى ما يجري باعتباره صراعا سياسيا يجب عليها أن تقف فيه إلى جانب الطرف الأقرب إليها فكان عليها أن تعمل على تصديق كل ما يقوله بنيامين نتنياهو باعتباره مرآة للواقع.

ما يفعله الغرب اليوم هو نوع من المصالحة التي يحتاجها من أجل أن يخرج من تلك الحرب القذرة نظيفا

ولذلك يمكن القول إن الطريق إلى غزة لم تكن معبدة بالنوايا الحسنة. لم يرغب أحد في أن يصدق أن حرب الإبادة التي شنها نتنياهو هي ليست حرب دفاع عن النفس تشنها إسرائيل ضد عدو كشف عن خططه لإزالتها من الوجود. لم يكن هناك تعويل على الموقف الأميركي ــ البريطاني المتضامن أصلا ومن غير شروط مع الرؤية الإسرائيلية ولكن الصادم فعلا أن تقع أوروبا طوعا في فخ العداء للشعب الفلسطيني الذي كان يعول عليها أخلاقيا وإنسانيا. كان حدثا فاجعا في دلالاته على المستوى الإنساني أن يقف الغرب كله من غير استثناء مع دولة نووية مدججة بالسلاح ومسكونة بهاجس التوسع والاستيطان ضد شعب أعزل لا يملك خيارا سوى البقاء على أرضه والذي صار بمثابة قرار تمتزج فيه المواجهة بشتى أنواع الموت. فإما أن يموت الفلسطيني قتلا تحت القصف أو يموت جوعا ومرضا وقد تمت محاصرته في بقعة ضيقة أغلقت كل أبوابها.   انتهك الغرب تاريخه الأخلاقي وقوانينه التي تحمي حقوق الإنسان ومبادئه في السلم العالمي. كل ذلك من أجل إرضاء إسرائيل في غطاء من الدعاية المضللة التي تدفع تهمة العداء للسامية بعيدا. ولكن كل شيء بدا فارغا من معناه. فحرب الإبادة لم تكن حرب دفاع عن النفس كما أن نتنياهو الذي ادعى أنه يحارب الإرهابيين قتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن من غير أن يضع موعدا لنهاية حفلة انتقامه.لن يعتذر الغرب عن مساهمته في إبادة شعب أعزل ولن تكون كل التصريحات المنددة باستمرار الحرب والتي صارت تأتي من الغرب كفيلة بإعادة أسباب الحياة في بلاد ذهبت إلى الجحيم. ما يفعله الغرب اليوم هو نوع من المصالحة التي يحتاجها من أجل أن يخرج من تلك الحرب القذرة نظيفا.

مقالات مشابهة

  • لاسات: “هزيمة الداربي مستحقة وعلينا العمل أكثر للتتويج بالكأس”
  • في الطريق إلى غزة يطهر الغرب نفسه
  • كيف يخطط الغرب؟!
  • المبعوث الأميركي لسوريا: رفع العقوبات يحقق هدفنا في هزيمة تنظيم الدولة
  • وزارة النفط: نسعى دائماً للعمل مع الشركات الأمريكية لتطوير الحقول النفطية والغازية ولكن تعاملها مع إقليم كردستان بمعزل عنا مخالف للدستور
  • فرنانديز: لا أنوي الرحيل عن مانشستر يونايتد ولكن النادي قد يضطر لبيعي
  • خبير تربوي يعلّق على تعديلات قانون التعليم: خطوة ضرورية ولكن تحتاج إلى ضبط وتوضيح
  • برونو فرنانديز: لا أنوي الرحيل عن مانشستر يونايتد ولكن النادي قد يضطر لبيعي
  • تكتل الأحزاب يشدد على هزيمة مليشيا الحوثي واستعادة الدولة