تتيح الأحداث الكبيرة والجسيمة منها؛ الكثير من فرص التأمل والتمعن، بل قد تجبرك على تقمص مجمل المسارات الوجدانية لأشخاصها في كلا الطرفين، وذلك حتى تستشعر خطورتها، ومآلاتها، ولتتيح لنفسك إجراء مقاربات مفاهيمية بين ما يدور في هذه الأحداث، وبين واقعك أنت كفرد في مجتمع ما، ومحاولة ربط الأمرين بالتاريخ، سواء عبر سردياته الكثيرة، أو عبر مفهوم الحتميات التي تتكئ عليها أحداثه، وفي كل هذه التوليفة عبر مساراتها الثلاثة: (التقمص، المقاربة، التاريخ) عليك أن تمسك العصا من الوسط، لتوجد لنفسك مسافة من الكل لكي تصل إلى نتيجة معينة تتيح لك التقييم، والتأمل، ومن ثم إصدار الحكم «القناعة» الذي تصل إليه، فمن خلال ذلك يمكن أن يتاح لك بأن تعقد مقاربات؛ تظل؛ هي أقرب إلى الحقيقة.
فالحدث الجلل في غزة اليوم؛ على سبيل المثال؛ لا يتجاوز أهميته عاقل، ولا تغمض عما يقع فيه عين إنسان يشعر بحقية نفسه أنه «إنسان» ومن يكون بخلاف ذلك، فهو؛ بلا شك؛ معتوه، والمعتوه يظل في حكم من رُفع عنه القلم، حتى يعود إلى رشده، هذا من جانب، أما الجانب الآخر؛ وهو الذاهب نحو مفهوم «الفزعة» فهذه؛ هي الأخرى؛ تحتاج إلى كثير من الاستحقاقات المعنوية والمادية، وفي مقدمة ذلك هي البيئة التي ينشأ فيها الأفراد، فليست أية بيئة قادرة على صناعة «بطل» ولكن أية بيئة يمكن أن يتناسل فيها «ذليل» لأن الذليل هو نفس الحالة؛ يحال إلى بيئة المعتوهين، وهي البيئات ذات الطبيعة المترفة، التي من جملة تموضعاتها؛ تذويب الهويات وتمييعها، وتتصادم مع القيم وتبيدها، ولا تتسع أمامها المعرفة إلا بقدر ملء البطن، وإرواء الفرج، والوصول إلى حالات من الإشباعات الشهوانية المختلفة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) -الآية (16): الإسراء. وهنا يبقى سريان الرغبة قائما أكثر من غيره؛ فالرغبة ذاهبة إلى الشراهة ومزيد من الترف.
ولذا لن يعي مسوغ الدفاع عن الحق في غزة وفلسطين عموما إلا من يعيش الظروف نفسها التي يعيشها أبناء غزة، والظروف نفسها التي يعيشها البسطاء في أي بقعة في العالم، وقصة غزة الماثلة اليوم أمام العالم كله؛ كما كانت عبر التاريخ؛ هي قصة الإنسان وكفاحه نحو الحياة، ونحو الحرية، ونحو الأمل، حيث البذل والعطاء، وحيث الصدق والوفاء، وحيث السمو عن حياة الدعة والرخاء، ومن يرى الأحداث الصادمة والنتائج القاسية؛ يقينا؛ لن تشغله اللحظة الزمنية في التقييم والتقدير، بقدر ما تحفز فيه ذلك النداء الداخلي الموسوم بهذه الصورة «المجابهة» للمخاطر، فصناعة التاريخ لن تكون بالصورة التي يتكئ عليها المترفون على الأرائك؛ حيث الدعة والراحة والهدوء، ومن كان هذه حالته، فهو لا يرتقي أكثر عن كونه مملوء البطن، والفرج لا أكثر، ولذلك هناك من يخطئ، وخاصة في حالة غزة اليوم، من يعتب على من اختار الجلوس على الكراسي الخلفية لمسرح الأحداث، ومراقبة المشهد، والانتظار لما سوف تؤول إليه النتائج من المعركة القائمة بين الخير والشر، وبعد مثل هؤلاء عن الالتحام المباشر في المشهد ذاته هو نجاح حقيقي للحق، ولو بعد حين، فنجاعة الحقوق لا تدنس بالخبائث، والروائح الكريهة، والتطعيمات المسمومة؛ إطلاقا؛ فالتاريخ يكتب صفحاته بأحرف من نور، ولا يمكن أن يكون النور في مثل هذه الخلطة المشوهة لشكل ناصع البياض، ولا يمكن للنور أن يكون متوغلا في مجموعة من التشوهات الخلقية، فهذا سوف يشوه هذا التوغل، ويضفي على الصورة نوعا من الخربشات التي لا تقدم معنى حقيقيا لحقيقة ما يجري، وما سوف تؤول إليه النتائج، ولو بعد حين، فالانتصار لا تحققه الأنفس المستسلمة لشهواتها، وتحيط بها الأجدُر العالية السميكة؛ حيث الخوف تتوزع شحناته على أوصال الجسد، وحيث تختزل القيمة الإنسانية للكرامة في محيطها الضيق، الذي يحقق كل متع الحياة، وهذا أمر؛ أيضا؛ ليس يسيرا التخلص منه، حيث يحتاج إلى مجاهدة نفس تسل ذاتها من كل التجاذبات الخاصة، وتقدم نفسها مشروعا عقائديا وإنسانيا واجتماعيا، وهذه تحتاج إلى تركيبة بنيوية تبدأ منذ نعومة أظفار التنشئة، ولا يمكن إنزالها بـ «براشوت» لحالة طارئة، فهذا ضرب من السخف الوضيع؛ لو حدث مثل ذلك.
النفوس المعززة بمفاهيم النضال، لا يمكن أن تستوطن مناخات الدعة والخمول، والصور الاحتفالية لا تصنع أنفسا جبارة في مواجهة أعدائها؛ فالمسألة تحتاج إلى كثير من التجريد من مظاهر الترف والرغبة، وهما العاملان الأساسيان في تغريب النفوس عن العيش في الواقع الحقيقي، وهذه مسألة خطيرة جدا، وخطورتها أنها تذهب؛ ليس فقط؛ بالمصالح الفردية للأمة، بل توقع الأوطان في مآزق التردي، ولا تقدم لها مشروعات تعزز واقعها، وأهميتها، وقدرتها على مجابهة الأزمات في مختلف الظروف، بل تقدم أوطانا خانعة، مستسلمة، متخاذلة «منبطحة» لا تملك رؤى مستقبلية، ولا تحقيق أهداف جوهرية، وعندما تصل حالة الأوطان إلى هذا المستوى من التردي، فإنها تصبح لقمة سائغة وسهلة الهضم للمتربص بها، وما أكثر المتربصين بالأوطان.
ليس شرطا أن تستشعر أن هناك خطرا قادما لكي تعقد مع نفسك صفقة من المقاربات الإنسانية: الصدق، العزم، الشجاعة، الأمانة، التجرد من أحمال المسؤولية الوطنية؛ فالتمسك بتحقيق ذلك، والعمل على تنميته وتنشئته في نفوس الناشئة من المسؤوليات الوطنية المهمة، والأكيدة، والتي يجب ألا يخلو منها أي منهج في كل المراحل الدراسية، كما تصبح منهج حياة لدى كافة أبناء الوطن، الوطن الذي يحرص على تحقيقه الجميع، كما يحرص على أركان دينه؛ فالمحافظة على الأوطان هو من الدين بالضرورة القصوى، وليس فرض كفاية، بل تظل هذه المعززات الإنسانية المهمة في مشروع الوطن، بمثابة مجسات مستمرة في مختلف مناخات الحياة اليومية، ومراقبتها، وتقييم أدائها، وتأثيراتها على سلوكيات أبناء المجتمع، والنظر بجدية المسؤولية عند تراجعها عن ذلك، وبحث الأسباب والمسببات، بحيث تظل فاعلة، ومؤثرة، وعلى قدر كبير من المتابعة، والاحترام، ولا يمنع من استحضار «شعور بالخوف» ولو بجزئية صغيرة؛ لأن ذلك هو الذي يدفع إلى التطلع للأفضل، كحال الطالب الذي يعد نفسه للدخول إلى قاعة الامتحان، فإذا لم يستشعر الخوف من الإخفاق لما دفعه ذلك إلى مضاعفة الجهد والاجتهاد، ومعنى هذا فالأوطان مشروعات من الامتحانات والاختبارات المستمرة، والأوطان تختلف عن أي مقاربات أخرى في مسألة النجاح أو الإخفاق لأنها لا تراهن إلا على النجاحات، وبامتياز؛ لأن مشاريعها مقدسة، وتنبثق قداستها من أنها لا تقبل السقوط، أو الانتهاء من خريطتها الجغرافية، ولذلك فهي التي تملي أوامرها، وواجباتها، واستحقاقاتها على جميع المواطنين، وليس العكس، وفيها يصدق قول أحمد شوقي: «وللأوطان في دم كل حر؛ يد سلفت ودين مستحق». يقول الكاتب العماني عادل المعولي في كتابه «لماذا تقدم العلم وتأخر الوعي»؛ ج3؛ ما نصه: «إذا أمن الإنسان من الخوف؛ تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة والازدهار» والمقاربة ذاتها في مقولة: «إذا أمن العقاب؛ أساء الأدب» فالعقاب؛ وفق هذه المقولة؛ هو «الخوف» كيفما يمكن تخيل هذا الخوف المتوقع من العقاب، وأهمية تحاشيه هو الإمساك عن الاستمرار في سوء السلوك، وفي المقابل أن الأمن هو الاطمئنان، وخطورته أنه يحفز النفس على الاستمرار في السلوك السيئ، حيث لا عقاب.
أختم هنا؛ بهذه المقاربات الرائعة التي قرأتها؛ ونصها - حسب ما وصلني: «كان الناس إذا أصبحوا في زمان الحجَّاج وتلاقَوا يتساءلون: مَنْ قُتِل البارحة؟ ومن صُلِبَ؟ ومن جُلِدَ؟ ومن قطع؟ وأمثالُ ذلك.
وكان الوليدُ بن عبدالملك صاحِبُ ضِيَاعٍ واتِّخاذِ مصَانِعَ، فكان الناس يتساءلونَ في زمانه عن البُنْيَان والمصانع والضِّياع وشَقِّ الأنهار وغرس الأشجار.
ولمّا وَلِيَ سُليمانُ بن عبدِالملك، وكان صاحبُ نِكاحٍ وطعام، فكان الناس يتحدثون في الأطعمةِ الرفيعةِ ويتوَسَّعون في الأنْكِحَةِ والسراري، ويغْمُرون مجالسَهم بذكر ذلك.
ولمَّا وَلِيَ عمرُ بنُ عبدِالعزيزِ كان النَّاس يتساءلون، كمْ تحفظُ من القرآن؟ وكمْ وُرْدُك في كل ليلة؟ وكم يحفظ فلان؟ ومتى يَخْتِم؟ وكم يصوم من الشهر؟ وأمثال ذلك» - انتهى النص.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هل يمكن لكل من إيران وإسرائيل وأميركا أن تدعي النصر؟
لم يسفر رد إيران على الهجمات على منشآتها النووية عن مقتل أي أميركي، ويرى المحللون الآن فرصة لوقف إطلاق النار، حيث تمتلك كل من طهران وتل أبيب وواشنطن رواية يمكنها أن تقدمها كدليل على أنها هي المنتصر، وفقا لتحليل بصحيفة نيويورك تايمز.
وجادل التحليل بأن إيران كانت تبحث عن مخرج حتى قبل أن تطلق أي صواريخ تجاه أعدائها، مشيرا إلى أن الغارات الأميركية على 3 منشآت نووية رئيسية داخل إيران مساء السبت الماضي شكلت ضربة خطيرة أخرى لإيران بعد أسبوع من الهجمات الإسرائيلية التي ألحقت أضرارا جسيمة بالقيادة العسكرية والبنية التحتية لهذا البلد.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2وول ستريت جورنال: إيران آخر من يكتشف أن روسيا تتخلى عن أصدقائها وقت الضيقlist 2 of 2هآرتس: أما آن لحرب غزة أن تتوقف؟end of listونقلت فرناز فاسيحي، مديرة شؤون الأمم المتحدة في صحيفة نيويورك تايمز، عن 4 مسؤولين إيرانيين مطلعين على مجريات التخطيط للحرب أن إيران كانت بحاجة إلى حفظ ماء وجهها عندما أصدر مرشدها الأعلى آية الله علي خامنئي "من داخل مخبأ محصن" أمرا بالرد على الهجوم الأميركي.
لكن هؤلاء المسؤولين أنفسهم الذين لم يكن مصرحا لهم بالتحدث علنا عن خطط الحرب في إيران، ذكروا أن خامنئي أرسل أيضا تعليمات بأن يتم احتواء الضربات لتجنب الدخول في حرب شاملة مع الولايات المتحدة.
ونسبت الكاتبة إلى تلك المصادر القول إن إيران أرادت توجيه ضربة لهدف أميركي لكنها كانت حريصة أيضا على تلافي المزيد من الهجمات الأميركية.
وطبقا لتحليل فاسيحي، فقد اختار الحرس الثوري الإيراني قاعدة العديد الجوية لسببين، موضحة -نقلا عن عضوين في الحرس الثوري– أن السبب الأول يكمن في الاعتقاد بأن العديد التي تعد أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة شاركت في تنسيق الغارات الأميركية التي شُنت بقاذفات قنابل من طراز "بي-2" على المنشآت النووية الإيرانية مطلع الأسبوع الحالي.
أما السبب الثاني، فهو أن المسؤولين الإيرانيين آثروا أن تكون الأضرار في حدها الأدنى نظرا لوجود القاعدة الأميركية في قطر، التي تصفها الكاتبة بأنها حليف مقرب من طهران.
فاسيحي: المسؤولون الإيرانيون آثروا أن تكون الأضرار في حدها الأدنى نظرا لوجود القاعدة الأميركية في قطر التي هي حليف مقرب من طهران
وأشارت فاسيحي -وهي أميركية من أصول إيرانية- إلى أن التلفزيون الرسمي الإيراني ظل يبث أناشيد وطنية على خلفية لقطات لصواريخ باليستية كانت تضيء سماء قطر، في وقت كان فيه المذيعون يتحدثون بشكل "متكلف" عن مجد إيران وانتصارها في الحرب مع قوى الاستكبار.
إعلانغير أن المشهد خلف الكواليس كان مختلفا، حسبما ذكر المسؤولون الإيرانيون الأربعة للصحيفة، إذ قالوا إن القادة الإيرانيين كانوا يأملون أن يقنع هجومهم المحدود على القاعدة الجوية وتحذيرهم المسبق الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالتراجع لكي يتسنى لهم أن يحذو حذوه.
كما أعرب أولئك القادة عن أملهم في أن تضغط واشنطن على إسرائيل لإنهاء غاراتها الجوية على إيران، والتي بدأت قبل الهجوم الأميركي على المواقع النووية بوقت طويل، وكانت مستمرة حتى ليلة الاثنين، وفقا لسكان طهران.
وزعم أحد المسؤولين الإيرانيين الذين استقت الكاتبة المعلومات منهم، أن الخطة التي وضعتها طهران قبل أن تطلق النار على قاعدة العديد، لم تكن تهدف إلى قتل أي أميركي خشية أن يدفع ذلك الولايات المتحدة إلى الانتقام ويزيد أوار الهجمات.
وفي تقدير فاسيحي أن الخطة قد نجحت على ما يبدو؛ حيث صرح الرئيس ترامب بأن 13 من أصل 14 صاروخا إيرانيا أُطلق على قاعدة العديد لم يسفر عن قتل أو جرح أي أميركي، وأن الأضرار كانت ضئيلة.
وفي تصريح لافت -كما يصفه المقال التحليلي- شكر ترامب إيران على "إعطائنا إخطارا مبكرا، الأمر الذي لم يُتح فرصة لفقدان أي أرواح أو إصابة أي شخص". وبعد فترة وجيزة، أعلن الرئيس الأميركي أن وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل بات وشيكا.
وبحسب مقال نيويورك تايمز، التقط المحللون هذه التصريحات ليقولوا إنها أتاحت فرصة جيدة لوقف إطلاق النار. فقد قال مدير مكتب إيران في مجموعة الأزمات الدولية علي واعظ إن لكل طرف الآن روايته الخاصة التي يدعي فيها تحقيق الانتصار في حين يتجنب الانزلاق في صراع أكبر مع ما يترتب عليه من عواقب وخيمة على المنطقة وخارجها.
وأضاف أن بإمكان الولايات المتحدة أن تقول إنها أضعفت برنامج إيران النووي، وأن تؤكد إسرائيل أنها أنهكت إيران، في حين تستطيع إيران بدورها أن تقول إنها صمدت وتصدت لقوى عسكرية أقوى بكثير.
وقال رئيس حزب التنمية الوطنية في طهران صادق نوروزي إن الشيء الوحيد الذي لا تريده إيران في الوقت الحالي هو حرب متعددة الجبهات على نطاق أوسع لا تؤخذ عواقبها بعين الاعتبار.