ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
يُقال في المثل الدارج: "كل شيء إذا قلبته قلَّ، إلّا الكلام إن قلبته زاد"، ونجد دومًا مصداق ذلك في تقليب الكلام بتقلب آراء وأفكار وخطط الأساسيين من كبار القادة والساسة الغربيين والثانويين من الآسيويين وبحسب أهمية الموقف، وقد لاحظناه مؤخرًا بشكلٍ ملفت للنظر بدايةً بالرئيس الأمريكي والرحالة وزير خارجية حكومته ومع رئيس الوزراء البريطاني المثير للجدل والمستشار الألماني وإن تأخر ظهوره على مسرح الأحداث بعكس الفرنسي الذي ظهر لامعًا في البداية وبدأ بالخفوت التدريجي إلى درجة الأفول بينما لعب الياباني والهندي دور ضيف الحلقات، ليبدأ الإيطالي بالظهور بعد صمتٍ طويل يليه الأرجنتيني وربما يوجد المزيد من لاعبي الأدوار مختبئين وراء الكواليس وينتظرون دورهم في ترتيب السيناريو.
المستقرئ لمثل هذه الآراء في احتدامها وتنافسها في التصعيد والتكثيف، لن يجد غضاضة في تمييز الكاذب منها والصادق ولا صعوبة في استخلاص الحقيقة، وليس بالضرورة أن يكون ذي حنكةٍ وخبرةٍ سياسية حتى يلاحظ تضاربها. ولكن قد يسأل لماذا تتقلب هذه الآراء وتزداد حدتها عندما تحرك أمريكا بركة الماء الراكد في تصريحات رئيسها ليتبعه البقية وعندما يسكت أسبوعًا يسكتون حتى تصفو عكارة الماء ثم تُعاد الكرة من جديد، وهل كل رؤساء هذه الدول تحركهم قوة خفية تجبرهم على تغيير آرائهم والتي غالبًا ما تتسق مع مد وجزر الرأي الأمريكي؟ يبدو ذلك كذلك بعد أن باعوا مبادئهم الأخلاقية منذ زمن بعيد.
بات واضحًا الآن أن الصهيونية هي القوة الخفية التي تحكم الولايات المتحدة الأمريكية وتتحكم بتوزيع حصص المال والأعمال وتعد بالسُلطة والنفوذ والمشاريع، وطبعًا لا أتحدث عن المشاريع الوطنية؛ فهي أمر لا بُد منه ضمن "نداء الواجب" وتُمليه الشروط الوظيفية، ولكن أتحدث عن المشاريع الشخصية للرؤوس الكبيرة من حملة ألوية القيادة بعد انتهاء فترة خدمتهم الرسمية أو عند التقاعد، مثل مشاريع شركات النفط وشركات صناعة الأدوية وأسهم شركات المال والاتصالات وصناعة التقنيات والمختبرات البيولوجية وغيرها، وليس ديك تشيني ودونالد رامسفيلد عن ذلك ببعيد، وجورج بوش الأب والابن، وتوني بلير، وهنتر ابن جو بايدن، وغيرهم الكثير والكثير من الأمثلة ولن ننتهي اليوم إن تحدثنا عنها.
لنلج الآن إلى صلب المراحل الثلاثة التي تقلب فيها الكلام وتدحرجت بينها الآراء للدول الغربية الداعمة للنازية الجديدة في الدولة الصهيونية وهي: "البداية المتوسطة والخدّاعة"؛ حيث بدأوا كلهم بالتنديد نتيجة الصفعة المفاجئة التي تلقوها يوم 7 أكتوبر على مشاريعهم، ثم التهديد بالانتقام من المقاومة باعتبارها "الإرهاب" الذي يُقوِّض خططهم ويتعارض مع مصالحهم الشخصية قبل الوطنية، ويضر بمنافعهم التي وُعِدوا بها في المستقبل الزاهر القريب، وتتخذ قنوات أخبارهم العريقة أهبة الاستعداد لبدء بث أكاذيبهم عاجلًا لتبرير تحريك البوارج والطائرات والمعدات والقوات والأسلحة والأموال للقضاء على غزة المحاصرة بالتعاون مع الجيش الصهيوني الخبير في قتل الأطفال والمدنيين الأبرياء والعزل الساعين لكسب قوتهم والحيوانات وكل دابة بها روح، وتجريف المدن والشوارع والأشجار والمزارع وسرقة الممتلكات من البيوت كما سرق بنو إسرائيل ذهب المصريين قبل هروبهم من فرعون وجنوده، ويبدو أن العِرق دسّاس.
توجهت الحرب الإعلامية السريعة مع الجزء الثاني من مرحلة البداية إلى تقييد المحتويات ومحاربة الحقائق على مواقع التواصل الإجتماعي بإيعاز من الصهيونية الحاكمة، ثم مواجهة حملة التعاطف مع فلسطين بكل الأساليب، بيد أنها لم تُجد نفعًا حسب المتوقع؛ إذ كانت الموجة الشعبية أكثر وأكبر من مجابهتها والتصدي لها، وحققت عشوائيتها انتصارًا ساحقًا في الجولة الأولى ضد منهجية القنوات الكاذبة، وبناءً عليه فلا بُد من الانتقال إلى المرحلة المتوسطة، والتي تعمد إلى استخدام الوسطية وغالبًا ما تكون أكثر ميلًا للعب على الوتر العاطفي، وقد لمسنا تبيان ذلك في تعاطفهم الشديد وحزنهم العميق على عدة قتلى من الجانب الصهيوني، يُقابله تعاطف ضعيف وحزن سطحي على عشرات الآلاف من الشهداء الفلسطينيين، ولا مناص من إظهار الوسطية الإعلامية مع الجزء الثاني من المرحلة المتوسطة بعد أن بدت أكاذيبهم للأولين والآخرين في الأسبوع الأول لطوفان الأقصى، وجعل إعلامهم أكثر واقعية ونزاهة لإنقاذ شيء من خبزه المحروق واستعادة ماء وجهه المهروق بعد ما عرَّت مواقع التواصل مطابخهم الإخبارية وجعلت منهم أضحوكة للعالمين.
ومع جدليات المرحلتين السابقتين، دخل نفس القادة من الذين غضبوا وكذبوا ثم نددوا وهددوا في طور الإنسانية بغتةً دون مقدمات أو تمهيد بالحديث عن المساعدات الواجب إيصالها مع أنهم لم يحركوا ساكنًا في هذا الشأن سوى الكلام عن القتلى الذي تجاوز أخلاقيات السكوت عنه مع إحجام الكيان الصهيوني عن الإشارة إلى هذا الملف، حتى فضحهم محاميو جنوب أفريقيا من حيث لا يحتسبون، لنصل في التقليبات أخيرًا إلى المرحلة الثالثة وهي الخدعة، حين طرأ موضوع الإعتراف بفلسطين كنوع من الوعود التي يعلم الجميع أنها كاذبة، كما اعتدنا، وبالطبع لن تترد أمريكا في استخدام النقض لألف سنة أو ما بقي الكيان الصهيوني المحتل مُتماسكًا.
لقد لاحظنا بسهولة ويسر وبكل جلاءٍ وصفاء الأخلاق الغربية المُتكيِّفة مع تقلُّب المصالح المُغلَّفة بالوطنية في هذه المرحلة الحاسمة من عمر القضية الفلسطينية، وتأكد لكل شعوب العالم أن تفادي إيقاع الأذى بالآخرين هو آخر ما يفكر به قادتهم وساستهم، وعندما يتركز مفهوم الأخلاق في عدم إيذاء الآخر نجد أن الشغل الشاغل لإسرائيل هو إيذاء الآخرين بكل الطرق والسبل، وهو ما يفسر لنا الحضيض الأخلاقي الذي وصلت له الصهيونية وقادتها وجيوشها.
وهنا يطرأ سؤالان بقوة؛ هما: لماذا كل سكان وجنود الكيان المحتل وقادتهم منغمسون في عشق إيذاء غيرهم؟ وهل يتمتعون بسلام داخلي حقيقي وتصالح ذاتي مع أنفسهم بعد حجم الجرائم التي اقترفوها؟ والجواب هو أن الحقد والكره وإيذاء الآخرين قد بلغ فيهم مبلغ التوارث الجيني ولن يتغير مع هذا الجيل {وإنك إن تَذرهُم يُضلوا عِبادك ولا يلِدوا إلا فاجِرًا كَفارا} (نوح: 27).
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
«يسار» يائير غولان وقيح الصهيونية المعاصرة
التعريف الموسوعي لحزب «الديمقراطيون» الإسرائيلي، الذي يتزعمه اليوم يائير غولان، الجنرال في الاحتياط ونائب قائد جيش الاحتلال والمنافس القوي الأسبق (المفضّل عند بنيامين نتنياهو!) لرئاسة الأركان أمام غادي آيزنكوت؛ يشير إلى أنه تأسس من اندماج «حزب العمل» وحزب «ميرتس»، في تموز (يوليو) 2024. والحزب يصنّف عادة في خانة «معارضة» فضفاضة العقيدة، غائمة الملامح، تُسند إليها صفة حاضنة «يسار» إسرائيلي مفلس في صناديق الاقتراع، إذا لم يكن قد اندثر فعلياً أو يكاد.
وقبل أيام أطلق غولان سلسلة تصريحات، حول جيش إسرائيلي يقتل الرضّع على سبيل الهواية ويهجّر السكان، وحكومة تحوّل الكيان الصهيوني إلى «دولة منبوذة في العالم، على غرار جنوب أفريقيا التاريخية»، وتزدحم بأناس «لا علاقة لهم باليهودية إلا القليل»، وهم «انتقاميون بلا أخلاق وبلا قدرة على إدارة دولة في زمن الطوارئ»، وفي هذا «خطر على وجودنا». وكان منتظراً أنّ ثقب دمامل مثل هذه وسواها، على الملأ هكذا، سيتكفل برشق الكثير من القيح على وجوه غالبية ساحقة من ساسة الاحتلال، ليس داخل ائتلاف بنيامين نتنياهو الحاكم فقط، بل على امتداد معظم أحزاب «المعارضة» وقواها المختلفة.
صحيح أنّ غولان صاحب سابقتين من عيار ثقيل في مضمار نقد جيش الاحتلال، إذْ عقد في سنة 2019 مقارنة بين صعود النازية في ألمانيا، وحال دولة الاحتلال مع المتطرفين في حكومة نتنياهو: «أذكّر الجميع بأنّ النازيين وصلوا إلى السلطة بطريقة ديمقراطية». قبل هذه السابقة، كان قد أثار غضباً عارماً حين قارن بين بعض المواقف الإسرائيلية الراهنة و«الاتجاهات المقززة» في ألمانيا خلال ثلاثينيات القرن المنصرم: «إذا هناك أمر مثير للفزع في استذكار الهولوكوست، فهو ملاحظة السيرورات الفظيعة التي تنامت في أوروبا، خصوصاً ألمانيا، قبل 70 أو 80 أو 90 سنة، وإدراك أنّ بقاياها قائمة هنا في إسرائيل، بين صفوفنا في هذه السنة 2016».
صحيح أيضاً، بل أوّلاً وقبلئذ، أنّ غولان كان أحد كبار المشاركين في تلك السياسات، العنصرية والاستيطانية والفاشية والمدانية للنازية، خلال سنوات طويلة من مساره المهني في جيش الاحتلال؛ حيث خاض شتى المعارك، في اجتياح لبنان سنة 1982، والانتفاضة الأولى، وجنوب لبنان خلال سنوات 1985 ـ 2000، والانتفاضة الثانية، وعملية «الدرع الواقي» 2002، والعدوان على لبنان 2006، والحروب المتعاقبة على قطاع غزّة حتى سنة 2014. وبين 2008 و2011 كان قائد «الجبهة الداخلية» وتولى قيادة عملية «الرصاص المصبوب»، ثمّ ترأس «قيادة الشمال»، وتولى موقع نائب رئيس الأركان أواخر 2014…
وقد يُمنح غولان فضيلة الشكّ في أنه يخشى، بالفعل، انقلاب الكيان من «دولة راشدة» تجسد حلماً صهيونياً/ يهودياً/ ديمقراطياً، كما يزعم؛ إلى قاتلة رضّع (وأغفل، عن سابق قصد غالباً، أنّ جيشها يقتل أيضاً الجنين في بطن الحامل) وتجوّع الأطفال والنساء والشيوخ على مرأى ومسمع العالم وبأيدي الجنود أحفاد الهولوكوست، وسوف ينبذها العالم تباعاً (وكان في وسعه، لو أراد، اقتباس الممثلة الفرنسية جولييت بينوش خلال افتتاح مهرجان كان السينمائي لهذا العام). الأمر الذي لا يمنحه فضيلة الصدق والنزاهة والاستقامة، ليس لأنه الجنرال الاحتياط في هذا الجيش الهمجي مجرم الحرب، فحسب؛ بل، أساساً ومبدئياً، لأنه أحد «الأبطال» الذين انتفض ساسة الاحتلال للدفاع عنهم في وجه اتهامات غولان.
لا عجب، والحال الراهنة هذه في المشهد السياسي الإسرائيلي، أن تُلصق بالجنرال غولان صفة «الإرهابي» التي كانت حكراً على الفلسطيني، وأنه «يخرّب الجهود لتحقيق أهداف الحرب، ويخرّب سلامة مقاتلي جيش الدفاع، ويخرّب الديمقراطية الإسرائيلية»، حسب شلومو قرعي وزير الاتصالات في حكومة نتنياهو. من جانبه لم يتردد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في التصريح بأنّ غولان «استعار صفحة من الناطق باسم حماس»، وهوايته كانت دائماً «نشر فريات الدم المعادية للسامية ضدّ دولة إسرائيل». وزير المال بتسلئيل سموتيرتش اتهم غولان بمنح أعداء الاتحاد «سيفاً لقتلنا»، داعياً «كلّ صهيوني شريف وأخلاقي إلى إدانة الجنرال الاحتياط، لأنه «ثمة خطوط حمراء ممنوع تجاوزها». وأمّا أقطاب المعارضة، أمثال يائير لبيد وبني غانتس، فقد خاضوا الغمار وأبلوا في قدح غولان البلاء الأقصى.
غير أنّ زاوية نظر أخرى إلى تصريحات غولان يمكن أن تفضي، على نحو مشروع يندرج ضمن منطق صحيح، إلى حال التأزّم الشاملة التي يعيشها ما تبقى اليوم من «يسار» إسرائيلي؛ إزاء ما تصاعد ويتصاعد من يمين ليكودي، متحالف مع يمين متطرف قوموي أو ديني أو عنصري أو فاشي، يختصره ائتلاف نتنياهو الحاكم، وصاحب أغلبية الحدّ الأدنى في الكنيست. وإذا لم يكن غولان قد قصد لفت الانتباه العامّ عن طريق ثقب الدمامل طافحة القيح، وهذه نيّة ليس من الجائز استبعادها تماماً، فإنّ التصريحات بلغت فعلياً مستوى متقدماً من لفت الانتباه إلى «يسار» إسرائيلي بائس، بأذيال صهيونية مترنحة أو كسيحة؛ أمام زحف يواصله نتنياهو طوال 17 سنة ونيف، أطول حتى من دافيد بن غوريون.
لافتة، في هذا الصدد، سلسلة سجالات انخرط فيها عدد من ديناصورات ذلك «اليسار» الإسرائيلي، من قادة سابقين أو حاليين في «العمل» و«ميرتس» بصفة خاصة؛ ليس اشتباك غابة التفاسير حول ألعاب نتنياهو في استدراج الناخب الإسرائيلي، تسع مرّات وكان الحبل على الجرار كما يُقال؛ وليس، كذلك، نجاحه في استمالة الحشود، وتعطيل عواقب السجلّ المشين أمام القضاء خصوصاً، وبراعته في حيازة لقب «الساحر» تارة و«ملك إسرائيل» تارة أخرى… بل، في المقام الأوّل، على صعيد تمكّنه من تفكيك جبهات خصومه تباعاً، أياً كانت هوية المهندسين فيها، وسواء تألفت من الجنرالات الاحتياط، في «أزرق ــ أبيض» مثلاً أو غولان نفسه، أم ضمّت كبار متقاعدي أحزاب تصدّرت طويلاً هرم السياسة والحكم في دولة الاحتلال.
وكان مزيج عجيب من رثاء الحاضر ونوستالجيا الماضي قد طبع تصريحات يوسي بيلين، أحد كبار مخضرمي «العمل» وصاحب مشروع التسوية الشهير الذي كان إحدى النُسخ الأولى المبكرة عن «صفقة القرن» الشهيرة، على جولة انتخابات الكنيست الثالثة تحت قبضة نتنياهو: «النتيجة المتواضعة التي حققتها القائمة المشتركة للعمل وغيشر وميرتس محزنة»، ولكنّ «الفكرة حيّة ترزق عندنا وفي العالم أيضاً». ذلك لأنها، عنده، «الأفكار التي وضعها العمل وميرتس وقبلها الجمهور الغفير كأمور مسلّم بها»، في المجال الاقتصادي الاجتماعي؛ وكذلك ــ يا للعجب! ــ لأنّ «حلّ الدولتين أصبح حجر الزاوية» في الخطط الأمريكية.
وتكفي إطلالة عابرة على حاضر السياسات الإسرائيلية كما يواصل ائتلاف نتنياهو صياغتها، ويتابع تنفيذها في خضمّ حروب إبادة جماعية وتهجير وتجويع باتت تحرج أقرب حلفاء دولة الاحتلال واصدقائها؛ كي يتكشف مقدار القيح الذي دفع غولان إلى النطق بما هو مسكوت عنه أقرب إلى محرّم تسيّجه عشرات الخطوط الحمر. وليس بعيداً ذلك الزمن الذي شهد انشقاق إيهود باراك عن حزب «العمل»، وتشكيل حزب «عتسمؤوت»، بذريعة أنّ الحزب الأمّ «انزلق إلى أقصى اليسار»، وأخذ يعتنق «آراء ما بعد حداثية وما بعد صهيونية»!
فهل ثمة إفراط في مقاربة ترى أنّ القيح الناجم عن دمامل غولان أقرب إلى مزيج من مراجعات «ما بعد صهيونية»، وشطط إرهابي مستعار من «حماس»، في آن معاً، وعلى ألسنة ساسة إسرائيل على الضفاف كافة؛ يمينية كانت أم يسارية أم في منزلة تائهة بين بين؟
نقلا عن صحيفة القدس العربي