لعل مصر لا تمتلك ثلث آثار العالم مثلما تعلمنا في كتب التاريخ ونحن صغار، لكنها دون جدال تمتلك السحر وعبق التاريخ في كل زاوية وكل جدار، فمصر هي تلك الخطوات والمسارات والأصوات التي كتبها التاريخ على مدار عقود طويلة..
مصر هي مسار العائلة المقدسة..هي صوت صهيل الخيول في معارك طيبة..ومذاق الزيتون في بساتين سيناء.
هذه هي مصر التي علمتني أن أرتاد شوارعها وأحبو بين صفحات تاريخها لتسكن جوانحي ووجداني..مصر التي تعلمنا منذ نعومة أظافرنا أن حبها هو العنوان، وعشقها هو الملاذ والمآوى..
قادتني قدماي إلى المتحف القومي للحضارة المصرية بدعوة كريمة من الدكتور أحمد غنيم الرئيس التنفيذي للمتحف..المكان الذي يختلف في شكله ومضمونه عن أي مكان آخر في مصر، فهو بحق وجهة حضارية عظيمة..
إصطحبتني فتاة أنيقة ومتحدثة لبقة إلى جولة بين أروقة المتحف، مع إصرار الدكتور غنيم بدخولي مراكز ومعامل الترميم داخل المتحف، إنصعت إليه ولم أكن متحمسة في البداية، إلا أن حالة الإنبهار والفخر التي تسللت إلى مسامي أثناء الجولة كانت كفيلة لمعرفة سبب إصراره..
فقد أيقنت أن هذا المركز هو أهم ما في المتحف، بعد أن إستمعت إلى شرح القائمين على المركز في مختلف القطاعات، من ترميم المخطوطات والجلود والخزف والأحجار والمومياوات،
في رحلة طويلة مُنظمة تبدأ من إستلام القطعة الأثرية بعد خروجها من باطن الأرض إلى إعادتها ببراعة وفهم إلى هيئتها الأولى بعد جهد جهيد لتُعرض في المتحف..
تحدثت طويلا مع المسئولين عن عملية الترميم وسألتهم عن تفاصيل عملهم والصعوبات التي تواجههم، ولماذا دون غيرها إلتحقوا بقسم الترميم، ففوجئت أن الإجابة ببساطة تتلخص في كلمة واحدة هي:
“الشغف”
تعجبت من الكلمة.. وعدت أسألهم من جديد: “هل كان مجموع الثانوية العامة هو السبب؟”
كانت إجابة الجميع واحدة برغم إختلاف الوجوه..إجابة مُفادها: “الآثار هي العشق الأول..سكنتنا التفاصيل وأصبح التحدي الحقيقي أمامنا هو جمع القطع المبعثرة المكسورة وترميمها لإعادتها إلى هيئتها الأولى هي مسئوليتنا تجاه وطننا”.
خرجت من هناك وكلي فخر وسعادة، ليصبح يقيني أن هناك مصريون يذوبون عشقا في تراب هذا البلد..وأن الحل الحقيقي لكل المشاكل التي تجابهنا في الوقت الحالي هو البحث عمن لديهم شغف تجاه هذا البلد لنوليهم المسئولية، ولسوف يتحملون المسئولية بدافع حب..
وما أكثر هؤلاء..
الشباب الذين نزلوا إلى الشوارع عقب الثورة لينظفون الأرصفة ويعيدون طلائها يمتلكون الشغف..
المصريون الذين خرجوا إلى الجبانات والشوارع في محاولة جادة لتوثيق المقابر القديمة والأماكن الأثرية التي تعرضت للإزالة يمتلكون الشغف..
الشاب الذي يمد يده في منطقة أثرية لمساعده سائح لا يعرفه بمعلومة أو شربة ماء..يمتلك الشغف..
خريجي الفنون الجميلة الذين يرسمون الجرافيتي على جدران العشوائيات المتهدمة والبيوت القديمة لإعطائها من روحهم أمل وحياة يمتلكون الشغف..
جمعيات المجتمع المدني والشباب الذين يجوبون النجوع والكفور لتوصيل المياه إلى بيوت غير القادرين وتسقيف منازلهم يمتلكون الشغف..
هؤلاء هم أبناء مصر القادرين على تحمل المسئولية من واقع حب..أما من يجلسون في موقع المسئولية ولا يمتلكون تجاه الوطن أي مشاعر تدفعهم لتنحية مصالحهم وإعلاء المصلحة العامة، فهؤلاء سيظلون أبدا منتفعين من مناصبهم دون أن يقدموا شئ وستبقى الدولة عالقة مثل الدين في رقابهم إلى يوم الدين..
لازال قلبي يئن وأنا في زياراتي المتكررة للمساجد والأبنية التي تم ترميمها دون وعي أو دراية، لتصبح مثل عروس متعجلة لتشطيب شقة الزوجية!..الحجر الذي فاق عمره عمر الزمان وتم طلائه باللون الأصفر تحت مسمى الترميم يحتاج إلى إعادة نظر لأنه قبيح..والقبح لم يليق أبدا أن يكون عنوان مصر الجميلة!.
نحن نمتلك المقومات التي تجعل مصر أهم دولة سياحية في المنطقة بل وفي العالم كله، ونمتلك السواعد التي تعي جيدا كيف تُدير وتطور وترمم لإعادة رونق الأشياء دون المساس بجوهرها وقيمتها..فلماذا لا يتم الإستعانة بهؤلاء؟
إننا في مرحلة تحدي حقيقي ولم يبقى أمامنا سوى الإتكال على من يعشقون هذه الأرض الطيبة علهم يزرعون وفاء وحب ليحصدون الأمل..
فهل من مُجيب؟!.
رشا سمير – بوابة الفجر
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
العراق: نظام صحي منقسم بين فقراء الأمل وأثرياء الخيارات
13 مايو، 2025
بغداد/المسلة: يشهد القطاع الصحي في العراق أزمة متفاقمة تجمع بين ارتفاع تكاليف العلاج وتدهور الخدمات الحكومية، ما يدفع آلاف المواطنين سنويًا للسفر إلى الخارج بحثًا عن رعاية طبية موثوقة.
وتكشف الأرقام عن تخصيص الحكومة العراقية مبالغ سنوية لعلاج حوالي 5000 مريض بالخارج، بتكلفة متوسطة تصل إلى 4000 دولار للفرد، في إشارة واضحة إلى عجز النظام الصحي المحلي عن التعامل مع الحالات المستعصية.
ويعاني المواطنون من نقص الأدوية والمعدات الطبية المتطورة، إلى جانب الفساد المستشري وسوء الإدارة، مما يفاقم الفجوة بين الخدمات العامة والخاصة.
ويزيد قرار مستشفى ابن النفيس في بغداد بفرض رسوم 5250 دينارًا على زيارة مرافقي المرضى من معاناة الأسر، خاصة ذوي الدخل المحدود، حيث أثار هذا القرار استياءً واسعًا عبر منصات التواصل، مع منشورات تندد بتحويل الرعاية الصحية إلى عبء مالي.
ويبرز هذا الواقع تناقضًا صارخًا مع تزايد أعداد الأطباء والمستشفيات الأهلية، التي غالبًا ما تكون باهظة التكلفة ولا تخضع للرقابة الكافية، مما يجعلها خارج متناول الكثيرين.
ويدفع نقص الخدمات الطبية المتخصصة في العراق المرضى إلى دول مثل الهند وإيران وتركيا، لكن هذا الخيار ليس خاليًا من المخاطر.
وتكشف مشاهدات عن حالات يرثى لها لعراقيين عالقين في الهند، يعانون من مضاعفات علاجية .
وتشير إحصائيات إلى أن 10% من العمليات الجراحية التي أجريت لعراقيين بالخارج (5424 عملية) انتهت بالفشل أو الوفاة، بإجمالي 181 حالة فاشلة و372 وفاة، مقارنة بنسبة فشل أقل من 2% للعمليات التي أجراها أطباء أجانب داخل العراق.
ويعكس هذا الوضع فشل السياسات الصحية طويلة الأمد، حيث يؤدي الفساد وغياب التخطيط إلى نظام صحي من مستويين: واحد للأثرياء القادرين على تحمل تكاليف العلاج الخاص أو السفر، وآخر للفقراء الذين يواجهون خدمات متدهورة.
ويطالب المراقبون بتدخل عاجل من وزارة الصحة لتفعيل قانون الضمان الصحي، الذي تأخر تنفيذه بسبب الأزمات السياسية، وضرورة إعادة تأهيل المستشفيات الحكومية لاستعادة ثقة المواطنين.
ويبقى السؤال المحوري: كيف يمكن لبلد يمتلك ثروات نفطية هائلة أن يترك مواطنيه يصارعون من أجل حق أساسي كالرعاية الصحية؟.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author زينSee author's posts