جثث بالشوارع وصراعات متجددة.. ندوب غائرة تخلفها الحرب في الجنينة السودانية
تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT
تبدو الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور في السودان، وكأنها مدينتان في مدينة واحدة، حيث تنتشر في أجزاء منها مقابر جماعية ومركبات مدرعة مهجورة وأطفال بلا مأوى، بينما تتواجد في مناطق أخرى مطاعم وأسواق، وسيارات حديثة الصنع يطلق عليها اسم "كينجانجيا"، أي "المسروقة" باللهجة المحلية، بسبب عدم وجود لوحات أرقام عليها.
ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بزعامة، محمد حمدان دقلو في منتصف أبريل من العام المنصرم، شهدت مدينة الجنينة "مجزرتين كبيرتين"، وفقا لتقرير لصحيفة "غارديان" البريطانية.
وقال التقرير، إن "الجثث المتحللة في الشوارع، بقيت لمدة وصلت إلى 10 أيام في كلتا المجزرتين، حيث كانت الكلاب والدجاج تأكل لحومها".
ولا تزال بقايا جثث الموتى موجودة حتى الآن، يدوسها الناس أثناء قيامهم بأعمالهم اليومية، وفق الصحيفة.
وقد أصبحت بعض المناطق في وسط المدينة شبه مهجورة بعد أن كان النازحون بسبب الصراع في أماكن أخرى من دارفور، يتجمعون في المباني الحكومية فيها، فيما تحمل المباني آثار الحرائق وثقوب الرصاص على جدرانها، نتيجة القتال.
السودان يشهد منذ أبريل الماضي نزاعا على السلطة أسفرت عن سقوط 12 الف قتيل
تأكيد أميركي.. الجيش السوداني و"الدعم السريع" ارتكبوا جرائم حرب
أكدت سفيرة الولايات المتحدة المتجولة للعدالة الجنائية العالمية بيث فان شاك أنه استنادا إلى مراجعة دقيقة للحقائق وتحليل قانوني، خلص وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مؤخرا إلى أن أفراداً من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع ارتكبوا جرائم حرب.
ولمدة شهرين من منتصف أبريل، ثم مرة أخرى لمدة أسبوع في أوائل نوفمبر، عانت الجنينة من القتال الذي تطور بسرعة على الخطوط القبلية، مما أدى إلى تأليب قبائل المساليت (غير العربية) وغيرهم من السكان غير العرب، لدعم الجيش ضد قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها، حسب "غارديان".
ولقي أكثر من 10 آلاف شخص حتفهم في المدينة – معظمهم من قبائل المساليت – بينما فر آلاف آخرون غرباً عبر الحدود إلى تشاد.
وفرضت الميليشيات العربية المتحالفة مع قوات الدعم السريع، حصارا على المدينة في مايو.
"انتهاكات مروعة"
وفي 15 يونيو، أدى تعذيب وقتل زعيم قبائل المساليت في ولاية غرب دارفور، خميس أبكر، على أيدي حلفاء قوات الدعم السريع، حسبما زُعم، إلى نزوح آلاف الأشخاص إلى تشاد.
وبحلول 22 يونيو، أفادت نقابة المحامين في دارفور بسقوط الجنينة، وذلك قبل أن تقع اشتباكات أخرى في أوائل نوفمبر، والتي انتهت بفرار آخر الجنود المتبقين من الجيش السوداني، مما مثل انتصارا لقوات الدعم السريع في المدينة.
وفي الأشهر التالية، بدأت تفاصيل الانتهاكات المروعة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع وحلفاؤها في المدينة بالظهور.
ففي 13 يوليو، اكتشف تحقيق للأمم المتحدة مقبرة جماعية لعشرات المدنيين من المساليت بالقرب من الجنينة، حيث يُزعم أنهم قُتلوا جميعًا على أيدي قوات الدعم السريع في الفترة ما بين 13 و21 يونيو .
واختار بعض المساليت التوجه نحو ما اعتبروه الأمان النسبي لحامية الجيش بالقرب من بلدة أرداماتا بدلاً من تشاد، ووصفوا تعرضهم لإطلاق النار بينما كانوا على الطريق المؤدي إلى تلك البلدة في 13 يونيو .
وقالت فاطمة، التي لم ترغب في الكشف عن لقب عائلتها: "ظهر العرب من العدم وبدأوا في إطلاق النار علينا.. كان الناس يقفزون في النهر مع أطفالهم لتفادي الرصاص"، لافتة إلى أن ابنها فقد ذراعه أثناء إطلاق النار.
المدنيون الفارون من الصراع في السودان ينتظرون إجراءات تسجيل اللجوء في المفوضية السامية للأمم المتحدة، في الرنك، جنوب السودان في 18 ديسمبر 2023
ذكرى استقلال السودان.. بلينكن يطالب بوقف "الحرب الوحشية" وإعادة الحكم للمدنيين
بالتزامن مع الاحتفال بالذكرى الثامنة والستين لاستقلال السودان، ومع بداية عام جديد، أكد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الاثنين، الولايات المتحدة "تلقي بالا للمعاناة المستمرة للشعب السوداني بسبب الصراع الذي لا داعي له بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية".
وفي نفس السياق، قال أبكر هارون، عضو مجموعة مكلفة بدفن جثث الضحايا، إن المهمة استغرقت أياما، مضيفا: "في إحدى المرات، أتذكر أنني كنت أعمل من الساعة 8 صباحًا حتى 6 مساءً مع زملائي لدفن الناس في مقبرة بحي الشاطئ".
أما سامية عثمان (اسم مستعار)، فقالت إنها أحصت 117 جثة أمام بيتها، مردفة: "كنا نقفز فوق الجثث للوصول إلى منازلنا".
كما قُتل مدنيون عرب في أعمال العنف، حيث قضى العديد منهم في قصف دبابات الجيش التي لا تزال مهجورة في الأحياء العربية.
وقال عامل في الهلال الأحمر السوداني – وهو ليس من العرب – إن عدد الضحايا غير معروف، لأن "المجتمعات العربية لديها نظامها الخاص لجمع الموتى".
كما قُتل المئات من المساليت في أرداماتا، في 5 نوفمبر، عقب انسحاب الجيش الكامل من منطقة الجنينة.
وذكر شهود أن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها تجولت من منزل إلى منزل بحثاً عن أي أشخاص من قبائل المساليت.
وقال جمال بدوي، أحد زعماء المساليت من أرداماتا، إن "236 شخصاً قتلوا في منطقته وحدها".
وقال رجل آخر ساعد في الدفن، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إن "الجثث كانت مكدسة فوق بعضها البعض".
ويحكم ولاية غرب دارفور في الوقت الحالي إدارة "قريبة من قوات الدعم السريع"، وفق الصحيفة، حيث يحاول المحافظ الجديد، التيجاني كرشوم، "استرضاء السكان".
وقد دعا أولئك الذين فروا عبر حدود تشاد إلى العودة، ووفر لهم الكهرباء والمياه الجارية بشكل ثابت، وهو ما لا يتوفر في المناطق التي يسيطر عليها الجيش في كثير من الأحيان،
كما فرض المحافط حظر تجول صارما ليلاً من الساعة 7 مساءً حتى 7 صباحًا، حيث عادت الحياة الطبيعية غير المستقرة إلى المدينة على الرغم من الفظائع الأخيرة. فقد استؤنفت حفلات الزفاف في عطلات نهاية الأسبوع، في حين يتم بناء المنازل في الأحياء العربية.
ومع ذلك، فإن وجود الأطفال المشردين يعد بمثابة تذكير بالماضي القريب، إذقال موظف سابق في وحدة حماية الطفل التابعة لبعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور، إن معظمهم إما أصبحوا أيتاما بعد أن فقدوا آباءهم العام الماضي، أو أطفال عائلات فرت عبر تشاد لكنهم عادوا دون آبائهم بسبب "الوضع المروع" في مخيمات اللاجئين.
وقال مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الجمعة الماضي، إن طرفي الحرب الأهلية في السودان "ارتكبا انتهاكات قد ترقى إلى جرائم حرب، بما في ذلك الهجمات العشوائية على مواقع مدنية، مثل المستشفيات والأسواق ومخيمات النازحين".
وفي ديسمبر الماضي، خلصت الولايات المتحدة، إن الأطراف المتحاربة في السودان "ارتكبت جرائم حرب"، معتبرة أن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها "متورطة في التطهير العرقي" في غرب دارفور.
وحينها، أكدت سفيرة الولايات المتحدة المتجولة للعدالة الجنائية العالمية، بيث فان شاك، أنه استنادا إلى مراجعة دقيقة للحقائق وتحليل قانوني، خلص وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مؤخرا إلى أن أفراداً من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع ارتكبوا جرائم حرب.
كما أكد بلينكن أن أعضاء قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معهم ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية وتطهيراً عرقياً في دارفور.
وحاليا، يأتي التهديد الأكبر في الجنينة من الجو، ففي الوقت الذي يكافح فيه لوقف تقدم قوات الدعم السريع، شن الجيش حملات قصف على الأراضي التي تسيطر عليها تلك الميليشيات، مما أدى إلى نزوح جماعي جديد للسكان المدنيين.
وقالت ليني كريستيان، من برنامج الأغذية العالمي: "الوضع في السودان اليوم أقل ما يوصف به أنه كارثي".
وتابعت: "لقد تأثر ملايين الأشخاص بالنزاع ويكافحون من أجل إطعام أسرهم. إننا نتلقى بالفعل تقارير عن أشخاص يموتون جوعا، لكن تحديات الوصول تجعل من الصعب للغاية الدخول إلى المناطق التي يحتاج فيها الناس إلى مساعدتنا العاجلة".
الحرة / ترجمات - دبي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع والمیلیشیات الولایات المتحدة ارتکبوا جرائم المتحالفة مع فی السودان غرب دارفور جرائم حرب
إقرأ أيضاً:
بعد إعلان حكومة "تأسيس"...ما أسباب حالة الانقسام في السودان؟
ألقى إعلان حكومة تحالف السودان الجديد "تأسيس" يوم السبت في مدينة "نيالا" باقليم دارفور، الضوء على حول حالة الانقسام الكبير الذي يعيشه السودان منذ اندلاع الحرب في منتصف ابريل 2023، فما أسباب ذلك الانقسام وما المآلات المحتملة من وجود حكومتين في البلاد في ظل وجود حكومة أخرى في بورتسودان بقيادة الجيش؟.
وعزا مراقبون حالة الانقسام الحالية إلى خمس ممارسات أفرزتها الحرب المستمرة بين الجيش والدعم السريع.
وقال المراقبون إن انتشار خطاب الكراهية، وهجمات طيران الجيش التي أدّت إلى مقتل آلاف المدنيين في دارفور، والمزاعم باستخدام أسلحة محرّمة دوليًا هناك، إضافة إلى قانون "الوجوه الغريبة" الذي استهدف إثنيات دارفورية في مناطق سيطرة الجيش، وحرمان الكثيرين من حق استخراج الأوراق الثبوتية، وخطوتي إقامة الامتحانات القومية وتغيير العملة في مناطق الشمال والوسط والشرق قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار يضمن استفادة سكان غرب السودان من الخطوتين – جميعها عوامل أجّجت "غبنًا شعبيًا" كبيرًا في أجزاء واسعة من إقليمي دارفور وكردفان.
ويأتي هذا في ظل محاولة كل طرف الدفاع عن موقفه؛ ففي حين قال علاء الدين نقد، المتحدث باسم تحالف "السودان الجديد – تأسيس"، إن التحالف يسعى لضمان حقوق "جميع السودانيين"، ملقيًا باللوم على تنظيم الإخوان في محاولة فصل إقليمي دارفور وكردفان، اتهمت وزارة الخارجية في بورتسودان، في بيان يوم الأحد، الأطراف المكوّنة لحكومة "تأسيس" بالانخراط في "مؤامرة للاستيلاء على السلطة".
شرخ إثني
ووفقًا لخالد كودي، الأستاذ في الجامعات الأميركية، فإن ما يتعرض له المدنيون في دارفور وكردفان من حرمان من الحصول على الأوراق الثبوتية، وملاحقتهم بقانون "الوجوه الغريبة"، يُعد انتهاكًا "ينسف مبدأ المواطنة المتساوية ويُعمّق الشرخ الإثني–الجهوي، وبالتالي يُغذّي شعورًا واسعًا بالغبن".
لكن كودي يشير في حديثه إلى موقع "سكاي نيوز عربية" إلى أن هذه الأفعال ليست السبب الجذري الوحيد، بل هي "تفجيرات جديدة لمرض قديم، هو بنية الدولة المركزية الإثنوقراطية التي راكمت تمييزًا تاريخيًا"، بحسب تعبيره.
ويحذر كودي من أن تؤدي هذه الأفعال التمييزية إلى "تآكل شرعية الوحدة القسرية، ودفع قطاعات متزايدة نحو مطالب الحكم الذاتي أو تقرير المصير".
ويرى أن الحل يكمن في التوافق على رؤية جديدة تستعيد الثقة، عبر تبني نظام ديمقراطي علماني لامركزي، يقوم على العدالة والمساواة الاجتماعية، وتفكيك الطابع العسكري–الأمني للدولة، وإعادة هيكلة الجيش والأجهزة على أسس مهنية مدنية.
مسار معقد
يلقي مهدي داود الخليفة، وزير الدولة الأسبق بوزارة الخارجية السودانية، باللوم على الحرب الحالية التي أدت إلى انهيار مؤسسات الدولة، وتفاقم الأزمة الإنسانية، وتعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية.
ويشير الوزير السابق إلى أن إعلان حكومة "تأسيس" سيؤدي إلى دخول البلاد في مسار معقّد، ينتهي إما بتسوية تاريخية شاملة، أو بتفكك الدولة السودانية. ويشدد على أن المخرج الوحيد يتمثل في وقفٍ عاجلٍ لإطلاق النار لأغراض إنسانية، "يفتح الطريق أمام حوار وطني شامل لإقامة دولة مدنية تقوم على احترام المواطنة والعدالة، والوصول إلى جيش مهني قومي، بعيدًا عن عسكرة السياسة ومنطق الميليشيات".
ويضيف: "فيما يتعلّق بالسياق السياسي والإقليمي، فإن إعلان حكومة (تأسيس) يعكس حالة الانسداد السياسي التي تعيشها البلاد، وفشل المبادرات الإقليمية والدولية في إيقاف الحرب، ووضع خارطة طريق سياسية".
ويتوقع الخليفة أن يتعامل المجتمع الدولي مع حكومتي بورتسودان ونيالا كأمر واقع، دون منح أي منهما اعترافًا رسميًا، مع الاكتفاء بالتركيز على الملف الإنساني.
ويشرح رؤيته للموقف الداخلي واكتساب الشعبية بالقول: "رغم فشل الدولة المركزية لعقود، ما زالت الوحدة تمثل قيمة رمزية كبرى في الوعي الجمعي السوداني، مما يجعل أي خطوة نحو حكم موازٍ مثار رفض شعبي. لكن، مع ذلك، فإن استمرار الحرب، وانهيار الخدمات، وفقدان الأمل في حكومة بورتسودان، قد يدفع بعض القوى المحلية لدعم حكومة (تأسيس) كخيار واقعي، لا مبدئي".
شبح الجنوب
تتزايد المخاوف من أن تؤدي الأوضاع الحالية إلى انقسام جديد يعيد إلى الأذهان عملية انفصال الجنوب في عام 2011، والتي جاءت بعد حرب أهلية تُعد الأطول في إفريقيا، إذ استمرت لأكثر من نصف قرن، وفقد السودان بسببها نحو ثلث مساحته.
وتتعزز تلك المخاوف في ظل الأوضاع الميدانية الراهنة؛ ففي حين يسيطر الجيش على العاصمة الخرطوم ومناطق شرق وشمال ووسط البلاد، تسيطر قوات الدعم السريع على كامل إقليم دارفور (باستثناء مدينة الفاشر)، وأجزاء كبيرة من إقليم كردفان، وهما يشكلان أكثر من 45% من مساحة السودان الحالية، البالغة نحو 1.8 مليون كيلومتر مربع، إذ تبلغ مساحتهما مجتمعتين نحو 870 ألف كيلومتر مربع.
وفي هذا السياق، يرى الصحفي فايز السليك أن تشكيل حكومة ثانية هو تأكيد على ماراثون "البحث عن الشرعية"، مبدياً، في حديثه لموقع "سكاي نيوز عربية"، تخوفه من أن يكون ذلك "بداية لمشروع انقسام إضافي".