في مهرجان سوتشي.. جاد: دعم أقسام اللغة الروسية في مصر
تاريخ النشر: 7th, March 2024 GMT
في إطار فعاليات المهرجان العالمي للشباب في سوتشي الذي تنظمه روسيا بمشاركة 20 ألفا من الشباب يمثلون 187 دولة، شارك شريف جاد نائب رئيس الوفد المصري والأمين العام لجمعية الصداقة المصرية الروسية في ندوة بعنوان "الدول العربية وروسيا: الإمكانيات الحديثة للتبادل الاقتصادي والثقافي في إطار عالم متعدد الأقطاب والدمج التكاملي" بمشاركة وزير الرياضة والشباب في تونس، ووزير الشباب الليبي، ووزير الشباب السوري، ود عروة طارق من جامعة الإمارات، أدار الندوة الفلسطيني د سمير الخطيب.
جاءت الندوة أمام حشد كبير من شباب العالم، وكان أغلب الحضور من شباب البلدان العربية، حيث تم مناقشة العلاقات العربية الروسية في المجالين الاقتصادي والثقافي، وتأثيره على التنمية في تلك البلدان.
وفي كلمته أشار جاد الى أن روسيا تُعد حليفًا استراتيجيًا للشعوب العربية، وبشكل خاص أشاد بالعلاقات المصرية الروسية، وذكر أن هناك مثالين للتأكيد على مصداقية الأصدقاء الروس عندما حدث العدوان الثلاثي ضد مصر من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956، فشل العدوان لسببين: السبب الأول هو نضال الشعب المصري وكفاحه ضد الاحتلال، والسبب الثاني كان الإنذار السوفيتي الشهير الذي وقف إلى جانب الشعب المصري.
والمثال الآخر هو عندما قرر حلف الناتو تدمير سوريا تماما، واستعد الطيارون في الطائرات للإقلاع لتدمير سوريا كما حدث في ليبيا لولا التدخل الدبلوماسي الروسي الذي منع ذلك.
وفيما يخص التعاون الاقتصادي ذكر جاد أن مصر أقامت 97 مشروعا من أهم المشروعات مع الاتحاد السوفيتي، وإذا كان على رأسها السد العالي، لكن هناك عشرات المشروعات المؤثرة في الاقتصاد والثقافة المصرية.
واليوم في ظل إرادة سياسية بين الزعيمين عبد الفتاح السيسي وفلاديمير بوتين تتطور العلاقات بين البلدين في إطارها الطبيعي، ونتجه لتحقيق إنجازًا كبيرا اخر وهو مشروع الضبعة، وننتظر أيضا مشروع انشاء المنطقة الصناعية الروسية في منطقة القناة.
والعلاقات الثقافية المصرية الروسية تتطور بشكل جيد، ولها رصيدا تاريخيا كبيرـ فقد تم انشاء أكاديمية الفنون في مصر بالتعاون مع الجانب الروسي، ولا زلنا نتعاون معهم. وأعرب جاد عن دهشته من موقف أمريكا والغرب من مقاطعة الثقافة الروسية متسائلا "كيف يمكن أن تقاطع ثقافة شعب، فما بالك أن يكون هذا الشعب لديه رصيدًا مدهشًا في تاريخ الثقافة العالمية.
وأِشار جاد في كلمته إلى أن هذا التعاون الكبير في حاجة إلى المزيد من الدعم من الطرفين، فعلى سبيل المثال يوجد في مصر 10 أقسام لتدريس اللغة الروسية بالجامعات المصرية، وهو رقم كبير بالمقارنة بمنطقة الشرق الأوسط وافريقيا، ويحتاج الى دعم وتواصل كامل مع الجانب الروسي، من حيث تقديم الأساتذة والمناهج الدراسية.
وهناك 16 ألف طالب مصري يدرسون في روسيا، والأمر يحتاج الى فتح بنوك مشتركة، وخاصة بعد انضمام مصر الى البريكس.
وعلى الجانب الثقافي هناك أهمية لتنشيط حركة الترجمة وتحويلها من جهود فردية لمجموعة متميزة من المترجمين الى جهود مؤسسية على مستوى وزارتا الثقافة في البلدين لمزيد من التعرف على أحدث الكتب الأدبية والعلمية في البلدين.
وأشار جاد إلى ى أهمية أن يكون هناك غير العروض الفنية التجارية التي تمثل روسيا في الخارج الى وجود عروض فنية في إطار التبادل الثقافي بين روسيا ودول العالم، حيث تمتلك روسيا إمكانيات هائلة في هذا المجال في الفنون الشعبية والموسيقى والبالية الى اخره.
وطلب جاد بضرورة توسيع قاعدة التعاون مع المجتمع المدني في إطار ما يسمى بالدبلوماسية الشعبية لمد جسور التواصل بين الشعبيين.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: أقسام اللغة الروسية مصر مهرجان سوتشي الروسیة فی فی إطار
إقرأ أيضاً:
البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
د. ناهد محمد الحسن
تشير تجارب التاريخ الثقافي إلى أن الفضاء الفني غالبًا ما يستعيد القدرة على قول ما تعجز السياسة عن الإفصاح عنه. تتقدّم الفنون لتصدح باللغة التي لا تستطيع السلطة سماعها او تحمّلها. فاللغة المصفّاة بنت السلطة، أما اللغة المنفلتة فهي بنت الحرية، ولا يجتمع الاثنان في حنجرة واحدة. من هنا، يصبح تتبّع البذاءة في الفنون أشبه بتتبّع التصدعات الدقيقة التي تظهر في جدار السلطة. فكلما اتسعت التصدعات، ارتفع صدى الضحكات، سقطت الهيبة، تراجع الخوف وتطوّرت المقاومة.
فعندما تهيمن السلطة على القنوات الرسمية للخطاب، يصبح الفن بما يتضمنه من سخرية، انحراف لغوي، فجور رمزي، وتوظيف مقصود للابتذال وسيطًا معرفيًا يسمح بإعادة إنتاج الحقيقة خارج الأطر التي تفرضها البنى السلطوية. ولهذا، فإن دراسة البذاءة في الفن ليست بحثًا في الذوق، بل في إمكانات المقاومة داخل الخطاب الجمالي. فكل انحراف لغوي عن المعايير المفروضة هو — في لحظات التحولات السياسية — فعل مقاومة يكشف حدود السلطة ويعيد توزيع القوة الرمزية داخل المجتمع.
من المسرح الإغريقي إلى التنظير الحداثي: جذور البذاءة بوصفها نقدًا للسلطة
يبيّن تحليل مسرح أريستوفان _ الذي نشأ في القرن الخامس الميلادي_أن استخدام الألفاظ الجنسية الفجة لم يكن ناتجًا عن رغبة في الإضحاك وحده، بل عن سعي لفضح النفاق الأخلاقي والسياسي عبر تفكيك “هالة الخطاب الرسمي”. فالمحظور اللغوي، حين يُستدعى إلى المسرح، يعمل كـ أداة لكسر احتكار الطبقات الحاكمة لمعنى الأخلاق. بعد ذلك بقرون، وضع ميخائيل باختين إطارًا تنظيريًا لهذا الدور في مقولته حول الكرنفالية، حيث يتعرض النظام الرمزي السائد لانقلاب مؤقت يسمح للخطاب الشعبي بالهيمنة على الفضاء العام. موضحا للجمهور معنى اللحظة التي بمقدورهم فيها ان يسقطوا الملك، بحدّ الضحكة وليس بحد السيف.
ففي الكرنفال:
– يضحك الشعب على السلطان،
– تتلاشى الفواصل بين “المهذب” و”الوقح”،
– وتتحول البذاءة إلى آلية لنزع هالة السلطة.
في هذه اللحظة، يصبح الضحك أكثر ثورية من أي وثيقة سياسية، لأنه يطيح بالخوف — والسخرية تنزع الشرعية من السلطة أكثر مما تفعل المعارضة الرسمية. ويُظهر هذا التحليل أن البذاءة في سياق الكرنفال ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية لتفكيك الهرمية السياسية والاجتماعية عبر تعليق الحدود بين “الرفيع” و”الوضيع”. تدعم الدراسات اللاحقة في السخرية السياسية العربية هذا الطرح، مؤكدة أن الهزل — وخصوصًا حين يتضمن انحرافًا لغويًا — يخلق “عالمًا موازيًا” يتخفف من الرقابة ويتيح إمكانات جديدة للتعبير عن الرفض (Badarneh, 2011؛ Elsayed, 2021).
الأدب والفجور اللغوي: إعادة تشكيل الذائقة وتقويض البنية الأخلاقية الرسمية
يمثل الأدب أحد أهم الحقول التي استخدمت البذاءة لتحدي السلطة الرمزية. رواية د. هـ. لورانس Lady Chatterley’s Lover (1928) لم تُحاكم لأنها جنسية فقط، بل لأنها فضحت نفاق الأخلاق الطبقية في إنجلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. فالعلاقة بين امرأة من النخبة وخادم من الطبقة العاملة كانت جريمة رمزية تهدم المعمار الاجتماعي. القضاء اعتبر الرواية “بذيئة”، لكن التاريخ اعتبرها — لاحقًا — نقطة تحول في تحرير الجسد من رقابة الدولة. البذاءة هنا كانت تكشف ما تحجبه اللياقة: العطب الحقيقي في المجتمع. وفي السياق ذاته، تُظهر دراسة أعمال هيلدا هيلست أن المزج بين السامي والوضيع ليس مجرد خيار جمالي، بل تقنية لزعزعة النسق الأخلاقي وإعادة توزيع السلطة داخل اللغة. وقد فسّرت قراءات باختين ومافيسولي هذا التداخل بوصفه آلية تكشف البنية القمعية التي تتخفى خلف اللغة المنقّاة.
في كتابه الوصايا المغدورة، يذهب ميلان كونديرا أبعد من الدفاع عن البذاءة — فهو يراها جزءًا من “حكمة الرواية”، التي تكشف السخافات الكبرى للسلطة من خلال ما يبدو تافهًا أو مبتذلًا. يلمس كونديرا جوهرًا مهمًا حين يؤكد أن البذاءة ليست خروجًا عن اللغة، بل عودة اللغة إلى حقيقتها الأولى: أن تقول ما يخشاه الجميع.
يتضح من ذلك أن البذاءة في الأدب تؤدي وظيفة مزدوجة: نقد البنية الأخلاقية الرسمية، وفتح المجال لوعي مغاير يتجاوز الحدود التي ترسمها المؤسسات الثقافية والسياسية.
الموسيقى والراب: البذاءة كأرشيف للغضب الاجتماعي ( (NTM نموذجًا
أشار محمد عباس — مشكورًا — إلى أهمية فرقة الراب الفرنسية Suprême NTM كنموذج لتسيس البذاءة. فالاسم ذاته (Nique Ta Mère) يشكل تصريحًا احتجاجيًا يتجاوز الخطاب الأدبي أو الصحفي، ليعبر عن الغضب البنيوي المتولد من تهميش الضواحي الفرنسية. تُظهر الأدبيات المعنية بثقافة الهيب–هوب أن البذاءة هنا ليست إساءة شخصية، بل لغة احتجاجية تشكّل هوية مشتركة ضد عنف الشرطة، العنصرية المؤسسية، الفقر، واستبعاد الفئات المهمشة من المشاركة السياسية.
في أغنية (شرطة Police)، حوّلت هذه الفرقة الشتيمة إلى وثيقة احتجاج سمعي. وعندما حوكمت المجموعة بسبب كلماتها، تحوّلت المحاكمة إلى اعتراف رسمي بأن اللغة يمكن أن تهدد النظام أكثر مما يهدده العنف المادي. لماذا تهمنا تجربة NTM؟
لأنها تجسّد ما يقوله باختين ومارك ليفين و(سارة عوض)، أن الفن يولد سلطة رمزية موازية، وأن اللغة البذيئة قد تكون الشكل الأوضح لانتزاع الاعتراف بوجود الهامش. وهذا يتقاطع مع دراسات الفن الاحتجاجي في المنطقة العربية (LeVine, 2015؛ Awad et al., 2017)، التي تُظهر أن ثقافة الهامش تنزع إلى استخدام أشكال لغوية “غير مصقولة” بوصفها وسيلة لمخاطبة السلطة مباشرة دون وساطة.
البذاءة في الفنون البصرية والشارعية: تفكيك الهيمنة الرمزية
تكشف البحوث الحديثة في الفن السياسي في شمال إفريقيا وغرب آسيا (2023–2024) أن الفضاءات الفنية غير الرسمية — الشوارع، الجدران، الفضاء الرقمي — أصبحت منصات مركزية لإعادة إنتاج خطاب مقاوم. في فلسطين مثلًا، يوضح Alım (2020) أن الجداريات تشكل بنية رمزية مضادة تحافظ على الذاكرة وتؤسس لخطاب سياسي موازٍ. وفي مصر، رهنت Elsayed (2021) على أن السخرية الرقمية تمثل “كرنفالًا جديدًا” يتيح لغات هجينة تمزج بين الفحش والتهكم والصورة الرقمية لإنتاج مقاومة يومية. وتشير الكتب الحديثة عن الفن المقاوم (Art Against Authoritarianism in SWANA, 2024؛ الى أن الأنظمة السلطوية تميل إلى معاقبة النكتة أكثر من معاقبة المقال السياسي، لأنها: تنتشر خارج هياكل السيطرة، تُسقط الخوف، وتحوّل الجمهور إلى منتج للمعنى. وبذلك يتحول الفعل الفني البذيء إلى تحدٍّ مباشر للهالة السلطوية.
السياق السوداني: السخرية الشعبية كآلية لإسقاط الهالة السياسية
تُعد تجربة صحيفة حلمنتيش (أواخر ثمانينيات القرن العشرين) واحدة من أبرز الأمثلة السودانية على استخدام السخرية اللاذعة — وأحيانًا البذيئة — بوصفها آلية تفكيك رمزي للسلطة في سياق ديمقراطي هش. وينسب اليها نقل الصحافة السودانية المنضبطة الى البذاءة، في مفارقة مثيرة للتنظيم االإسلاموي الذي كان يتضرع للشعب السوداني بالطهرانية، مزاحما لأحزاب طائفيّة راسخة في القداسة، مشهرا الفن والكاريكاتير كأدوات لنزع القداسة عن منافسيه. وصول حلمنتيش إلى المجال العام لم يكن مجرد دخول صحيفة ساخرة، بل كان تفكيكًا مباغتًا لمنظومة الوقار السياسي التي حكمت المجال العام لعقود. وهو ما ينسجم مع ما تقترحه الأدبيات المتعلقة بالكرنفال الباختيني: أن السخرية — بما فيها من تهكّم وانحراف لغوي — تعمل على تعليق التسلسل الهرمي مؤقتًا، بما يسمح بإعادة توزيع السلطة الرمزية بين “المرموق” و”العادي”. اعتمدت حلمنتيش على هجاء سياسي مباشر، وعلى تفكيك الصورة المثالية للقيادات التقليدية عبر لغة شعبية غير منقّاة.
هذا النوع من الخطاب وفقا للباحثين، لا يقصد الإساءة الشخصية، بل يعمل — وفق تحليل زعزعة الرسميّة المفرطة للخطاب السياسي، كشف التوتر بين “القيمة الأخلاقية” المعلنة والسلوك السياسي العملي، وإعادة سلطة التقييم إلى الجمهور بدلاً من النخب. وفي إحدى اللحظات البالغة الدلالة — التي كثيرًا ما تُذكر في الذاكرة السياسية السودانية — هي قبول الإمام الصادق المهدي كتابة مقدّمة لكتاب احتوى الرسوم الساخرة التي استهدفته. تجسيد لفكرة أساسية في الثقافة الديمقراطية: أن السخرية جزء من المجال العام، وأن الهالة الرمزية للزعيم ليست ملكًا خاصًا، بل خاضعة للفحص الشعبي. هذا السلوك من جانب القيادات يشكّل مواجهة مختلفة تمامًا عن ردود الفعل السلطوية التي غالبًا ما تلاحق السخرية بالعقاب. وفي المفهوم الباختيني، هذه اللحظة تمثل قبول الحاكم بأن يدخل — طوعيًا — في فضاء الكرنفال، أي فضاء التساوي المؤقت بين السلطة والجمهور.
المفارقة التاريخية: عودة السلاح إلى أصحابه
تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر أن الخطاب الساخر البذيء عاد مجددًا، لكن هذه المرة موجَّهًا إلى الحركة الإسلامية نفسها — التي كانت قد استخدمت حلمنتيش في الثمانينيات لتفكيك خصومها. وهذا يعزز فرضية مركزية في هذا البحث:
البذاءة ليست ملكًا لجماعة سياسية، بل ظاهرة لغوية–اجتماعية تتغير وظيفتها بحسب موقعها داخل الحقل السلطوي. فحين تنتقل الجماعة من الهامش إلى السلطة، تتحول البذاءة التي كانت فاعلة في مقاومتها إلى أداة موجَّهة ضدها، لأن الشروط التاريخية التي شَرعنت استخدامها آنذاك تنقلب عليها. وهكذا تُظهر حلمنتيش ما يسميه باختين بـ”قانون انقلاب الخطاب“: فباختين يرى أن الكلمات لا تنتمي لمن نطقها أول مرة، بل هي كيانات حيّة تتغير دلالتها حسب من يقولها، ولمن يقولها، وفي أي ظرف، وبأي نبرة. هذه الحركة المستمرة تجعل الخطاب غير ثابت وقابلًا دائمًا للانقلاب على سياقه الأصلي. الكلمة التي وُلدت خاضعة قد تتحول إلى كلمة متمرّدة، والكلمة التي صُنعت لتمجيد السلطة قد تنقلب فجأة إلى أداة للسخرية منها.
المفارقة التاريخية: السلاح يعود إلى أصحابه
بعد عقود، وفي ثورة ديسمبر، وُجِّه الخطاب البذيء إلى الإسلاميين أنفسهم — الذين سبق أن استخدموا حلمنتيش ضد خصومهم. هذا يؤكّد قانونًا لغويًا–سياسيًا مهمًا: البذاءة لا تظل سلاحًا بيد طرف واحد. حين تتغير موازين السلطة، يتغير اتجاه الشتيمة. فالبذاءة و إن وضعت في بنى تحت قشرة الدماغ في التشريح، ودفعت الى هامش المدينة، ووصمت بالانحطاط والقذارة فستبقى الخصم الناصع في مواجهة السلطة.
تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر، كما وثّقها الخطاب الشعبي، أن البذاءة لم تكن مجرد رد فعل انفعالي، بل استراتيجية رمزية لإزالة الخوف والتحرر. وقد سبق وقدمت في حلقة لي في يوتيوب أيام الثورة تحليلا عن احتفاء الجماهير بعبارة غير لائقة القتها سيّدة ثائرة على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة، لم تصدم المذيع وحده والمشاهدين، ولكنها الرصاصة التي خرّبت اللعبة. (يمكنك مشاهدة الحلقة هنا: https://youtu.be/y0CC8jksQxQ?si=P06xNUSxdab_7moz)
فتحت الثورة الباب الخلفي كما قال غوفمان واسقطت الستارة عن مسرحية الأدب المدّعاة. احتشد الاف المتابعين لصفحة ماما و لأنّها دون أن تحصل على شهادة في العلوم السياسية اين يمكن ان تنصع بذاءتها، فلم تصفق للسلطة، ولكنها دون ان تقرأ ماركس انحازت لمظالم طبقتها. وهكذا دمجت ثورة ديسمبر مظالم الشعب وحولت اللغة الصادمة إلى أداة لإعادة تعريف المسموح والممنوع في الخطاب العام، عبر تفكيك الهالة التي بنتها الأنظمة المتعاقبة حول رموزها. هذا يتسق مع ما تقترحه النظريات الحديثة في تحليل الحركات الاجتماعية حول دور اللغة المنحرفة في بناء التضامن وكسر الاحتكار الأخلاقي للخطاب الرسمي.
ختاما:
تكشف المراجعات التاريخية والنظرية والعملية أن البذاءة — حين تُستخدم في سياق جمالي مقصود — تعمل كآلية مقاومة تُعيد توزيع السلطة داخل الفضاء العام. فهي: تكسر احتكار السلطة للخطاب، تفتح المجال لأصوات الهامش، تعيد صياغة الحدود الأخلاقية بطريقة تُنتج معرفة بديلة، وتضمن خلق فضاء نقدي خارج سيطرة الدولة. وهكذا، تتحول البذاءة في الفن من “انحراف لغوي” إلى استراتيجية معرفية وجمالية وسياسية تستعيد بها الجماهير حقها في الكلام. أن البذاءة ليست انحرافًا عن الأخلاق، بل انحرافًا عن السلطة. وأن الفن — حين يقترب من حافة الممنوع — يحرر اللغة من السقف الذي تفرضه الدولة، المجتمع، والدين. الفن ليس مجرد مرآة، بل مطرقة لغوية تعيد تشكيل ما نجرؤ على قوله… وما نخشى قوله.
نواصل..
الوسومد. ناهد محمد الحسن