محمد جميح

الصورة هي محاولتنا تجميد الزمان…

الكلمة هي محاولتنا تحريك المكان…

وفي النقطة التي التقى فيها «الزمن المتجمد» والمكان المتحرك» ولد الفردوس.

٭ ٭ ٭

لماذا نصور؟

لماذا نكتب؟

لأننا نريد – باللون والحرف – أن نسترجع المكان الأول أو الفردوس المفقود الذي خرجنا منه بخطيئة، ثم بدأنا – مع الصورة والكلمة – رحلة العودة إليه، إلى حيث الشجرة التي أكل منها أبوانا القديمان.

٭ ٭ ٭

ما القصيدة واللوحة والسيمفونية إلا محاولاتنا المتعثرة في سبيل العودة إلى الجنة.

٭ ٭ ٭

منذ خروجنا من وطننا الأول (الفردوس) ونحن نحِنُّ إليه، نبحث عنه تارة في القصيدة، نراه تارة أخرى في الصورة، وثالثة في النغمة، ورابعة وخامسة وسادسة نتخيله في جزيرة معزولة أو صحراء منقطعة، أو بحر غامض.

وإذا كان خروجنا من «الفردوس» بسبب «خطيئة» فإن محاولاتنا في العودة إليه تأخذ شكل «التطهر» إننا نغسل أرواحنا في الألوان والحروف، من أجل أن نتهيأ للعودة إلى الفردوس «طاهرين» كما نحن عندما كنا نعيش فيه حياتنا الأولى.

٭ ٭ ٭

الإبداع، ما هو إلا ذلك الحنين الأزلي فينا للمكان الأول، للحبيب الأول، للقُبلة الأولى، للحرف الأول، والقصيدة التي ولدنا فيها أول مرة في قماط اللغة، التي اتخذنا مجازاتها وسيلتنا للعودة إلى فردوسنا السماوي، الذي فقدناه بسبب رغبتنا في الخلود، ثم خرجنا منه لننحت أسماءنا على القصائد واللوحات والتماثيل والسمفونيات الخالدة.

إنه المكان…

المكان الذي كتبنا عنه أجمل القصائد، ورسمنا في سبيل استحضاره أجمل اللوحات، واخترعنا له الأساطير، وسافرنا لأجله في كل الاتجاهات، وعندما لم نجده في اليوتوبيا التي بناها أفلاطون، والصحراء التي هام بها صعاليك شعراء العرب، ولا في الجزيرة التي شكَّلها ابنُ طفيل، أو الفردوس الذي أبدعه ميلتون، والأسطورة التي نسجها كافكا والجبال التي حج إليها كويلو، والغابة التي عاشها ماركيز، واللوحة التي رسمها بيكاسو…

عندما لم نجده في كل الأماكن التي زرناها لجأنا إلى الحروف والألوان والنوتات، لنعيد صياغة ملامح ذلك المكان مرة أخرى، في سبيل أن نحصل على صورة قريبة منه، نتهيأ بها لدخول فردوسنا الضائع، الذي تعيش أرواحنا على ذكراه، بعد أن تم حبسها في سجنها الجسدي الذي تسعى كل لحظة للتحرر منه، من أجل العودة مرة أخرى إلى مكانها السماوي الخالد.

وإذا كان لأفلاطون يوتوبياه وللشعراء الصعاليك صحراؤهم، ولابن طفيل جزيرته، ولملتون فردوسه، وكويلو له جباله وأنهاره، ولماركيز غاباته وأدغاله فإن لكلٍ من: بانوا وسيسيل بالوسينسكي فردوسهم الخاص الذي أخرجاه لنا: صورةً وكلمة.

٭ ٭ ٭

عكست تقنية الأسود والأبيض المستعملة في صور هذا الكتاب نوعاً من الغموض اللذيذ، وأضفت على المناظر بعداً زمنياً، جعل الصور تبدو أقرب إلى بقايا آثار عوالم غابرة، طمرتها الرمال، قبل أن يجلو عنها المصورُ المبدعُ «غبارَ النجوم» لتأتي الشاعرة، لتضفي بالكلمة على الصورة أبعاداً ميتافيزيقية أسطورية، تجعلنا نطلق خيالنا معها إلى عوالم سحرية موجودة في الميثولوجيا الدينية القديمة، بكل ما تحويه من سحر ودهشة وغموض.

وقد ساعد الضباب المنتشر في المشهد على حَجْب التفاصيل عن العين، كي يترك المجال للقلب ليملأ كل الفراغات، ويغوص في كل التفاصيل، وينطلق مع الخيال، راسماً الأشجار على هيئة ملائكة تمارس «طقوس الصَّمْت» أو جِن يهيمون مع الشعراء في الكهوف البعيدة.

٭ ٭ ٭

«سقطرى» في هذا الكتاب لم تعد مكاناً منسوباً لكوكبنا، بل أصبحت فردوساً آخر، ويوتوبيا جديدة، نهرب إلى حكايات أشجارها، وهي تتهامس في الأماسي الحالمة، تماماً، كما يفعل العشاق الذين يريدون أن يخبئوا أشواقهم في التجاعيد المرسومة بأناقة على جسد شجرة «دم الأخوين».

لقد استطاعت الصورة/الكلمة «أنسنة» الجزيرة بكل ما فيها من شجر وحجر ورمل وغيوم، ويبدو أن علاقة غامضة نشأت بين «اللون والحرف» من جهة والأشياء داخل الجزيرة من جهة أخرى، علاقة حميمية «حضنت الجبال» بعد أن حولتها إلى قلوب كبيرة مليئة بالعشق والحكايات وبدم الأخوين، الشجرة التي رفعت أذرعها لتحتضن السماء في عناق أبدي، لتصبح قصة هذا العناق أسطورة، تشبه أسطورة الدم الذي تدفق من دم «القتيل الأول» الذي نبتت منه هذه الشجرة المقدسة، حسب الأسطورة السوقطرية القديمة.

٭ ٭ ٭

وإذا كان المكان هو الفراغ الذي نملؤه بالصورة، وهو العرش الذي تربعت عليه الكلمة، فإن سقطرى هي «المخزن الأبدي» للألوان، وهي كذلك «الحاضنة الأولى» للأصوات، قبل أن تولد في الكلمات التي استطاعت مع الصور أن تضع «الجنة» أما أعيننا، لنمد أيدينا إلى تفاحتها مجدداً، ونمارس «خطيئتنا الأولى» مرة أخرى، لكنها هذه المرة «خطيئة الإبداع» الذي يطهر أرواحنا، ويؤهلنا للعودة للفردوس الحقيقي، محلقين في بانوراما من الألوان والأصوات والصور والكلمات التي تقودنا إلى أبواب السماء.

٭ ٭ ٭

وهل السماء إلا سقطرى، وهل الفردوس إلا تلك البراري التي هام فيها الأنبياء القدامى والجبال التي انعزلت فيها «آلهة الإغريق» والكهوف التي اختبأ فيها الجن، ليكتبوا الشعر ويرسموا اللوحات؟!

٭ ٭ ٭

إننا إنما نرسم ونكتب، لنستحضر فردوسنا المفقود، وما قصيدة الشاعر ولوحة الفنان وصورة الفوتوغرافي ونوتة الموسيقار إلا أدوات رحلتنا الطويلة إلى ذلك المكان. نفعل ذلك، لأن اللون هو الصورة التي التقطت آخر مرة لهذا الفردوس، فهي خريطة طريقنا إليه، ولأن الحرف هو الكلمة التي أرسلها الفردوس إلينا، لتكون دليلنا في هذا الطريق الذي يمر عبر وديان وجبال ورمال وبحار وجداول وأشجار سقطرى، والذي ينتهي بنا إلى اللانهاية، واللانهاية هي سقطرى، هي الفردوس الذي نرى – ونحن ندخل بابه – شجرة دم الأخوين على مدخله، ثم نرى أخوين آخرَين غامضين، يلتحفان الغيوم، ويبتسمان لنا، ونحن ندخل، أحدهما يمسك بالكاميرا، والأخرى تغمس قلمها في دم الشجرة المقدسة وتكتب.

تحية لبانوا وسيسيل، حارسي فردوسنا الذي وجدناه معهما: صورة وكلمة.

باريس – 26 يوليو 2023

 

القدس العربي

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: ثقافة سقطرى

إقرأ أيضاً:

نوتنجهام يضم «جناح» بولونيا

 
لندن (رويترز)

أخبار ذات صلة "الوطني الاتحادي" يلتقي عدداً من الوفود البرلمانية بمؤتمر رؤساء البرلمانات في جنيف إيزاك يزيد غموض مصيره بالتدريب مع سوسيداد!


قال نادي نوتنجهام فورست المنافس في الدوري الإنجليزي الممتاز لكرة القدم، إنه تعاقد مع الجناح السويسري دان ندوي من بولونيا الإيطالي بعقد لمدة خمس سنوات.
ولم يكشف أي من الناديين عن التفاصيل المالية للصفقة، لكن وسائل إعلام بريطانية ذكرت أن نوتنجهام دفع 34 مليون جنيه إسترليني (45 مليون دولار) مقابل الحصول على خدمات الدولي السويسري البالغ «24 عاماً»
وانضم ندوي إلى بولونيا في أغسطس 2023، قادماً من بازل السويسري، مقابل 10 ملايين يورو (11 مليون دولار).
وشارك اللاعب في 41 مباراة مع بولونيا في جميع المسابقات الموسم الماضي، مسجلاً تسعة أهداف، ومقدماً ست تمريرات حاسمة.
وسجل هدف الفوز ضد ميلان في نهائي كأس إيطاليا، ليساعد بولونيا على تأمين أول بطولة كبرى له منذ 51 عاماً.
وقال ندوي: «إنها فترة مثيرة للغاية في فورست، وأدركت منذ البداية رغبتي في أن أكون جزءاً من هذا المشروع. إنه فريق طموح للغاية يتمتع بتاريخ عريق، وأتطلع بشوق للبدء».
ويمكن أن يحل ندوي محل الجناح السابق لفريق نوتنجهام أنتوني إيلانجا، الذي انضم إلى نيوكاسل يونايتد في وقت سابق من هذا الشهر، ولعب أيضاً بشكل أساسي على الجانب الأيمن، مثل ندوي.
منذ ظهوره الدولي للمرة الأولى في عام 2022، شارك ندوي في 22 مباراة دولية مع سويسرا، وبدأ جميع المباريات الخمس في بطولة «يورو 2024» خلال مسيرتهم إلى دور الثمانية.
ويبدأ نوتنجهام الذي حصل على المركز السابع في الموسم الماضي، مشواره في الدوري الإنجليزي الممتاز على أرضه ضد برنتفورد في 17 أغسطس المحالي.

مقالات مشابهة

  • غليون لـعربي21: أوروبا تعترف بفلسطين خوفاً من وصمة الإبادة التي شاركت فيها
  • توقعات بهطول أمطار رعدية متفاوتة ومتفرقة
  • ما قصة الأرجنتيني الذي عوضته غوغل بسبب صورة؟ وكيف تفاعل مغردون؟
  • المدينة العجيبة.. غرائبية المكان وهموم مشتركة!
  • نوتنجهام يضم «جناح» بولونيا
  • دعاء يدخل الجنة .. ردده يرزقك الله الفردوس الأعلى
  • عاجل | القسام: قنصنا أمس جنديا صهيونيا على دبابة ميركافا وبعدها استهدفنا بقذائف محيط المكان شرق حي التفاح بمدينة غزة
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: والحرب الحقيقية تبدأ الآن
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • دعوة لمقاضاة شركة إماراتية دولياً بتهمة انتهاك سيادة سقطرى