تُرى هل تؤدي هيمنة الـفِـكر السائد في التعامل مع «منطقة الهادي الهندي» إلى تضليل الاستراتيجيين الغربيين؟

في عام 2018، تبنت الولايات المتحدة هذا الوصف الذي نشأ في دوائر السياسة الخارجية الأسترالية، عندما تغير رسميا مسمى «قيادة منطقة الهادي الأمريكية في هاواي» ليصبح «قيادة منطقة الهادي الهندي». ورُفِـعَـت مكانة الحوار الأمني الرباعي، الذي يضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، على النحو الواجب، وانضمت إليه أوروبا أيضا، مع سيل صغير من الوثائق السياسية التي تحمل المسمى ذاته.

في دفع خط منطقة الهادي الهندي، يؤكد الاستراتيجيون الغربيون عادة على أهمية جلب الهند إلى الحظيرة، لكن الهدف الحقيقي ــ وإن كان نادرا ما يُذكر صراحة ــ هو احتواء الصين في المنطقة.

لا شك أن السرد حول استراتيجية الهادي الهندي يستند إلى حيثيات موضوعية، فهو يرتكز على أساس تاريخي قوي، ولا تخلو السياسات التي ألهمها من أهمية في مواجهة عدد كبير من التحديات العالمية التي تلوح في الأفق. المشكلة هي أنه يهدد أيضا بصرف انتباهنا عن سرد بديل لا يقل أهمية: الخطاب الأوراسي.

ولكن أي الأمرين أكثر صلة بالتحديات التي يواجهها الغرب؟ في حين يستند إطار الهادي الهندي إلى أساس بحري واضح ــ والذي يؤطر المحيطين الهندي والهادئ باعتبارهما المسرح الجيوسياسي الأكثر أهمية على الإطلاق ــ فإن الإطار الأوراسي يكاد يكون أرضيا بالكامل. ويعكس كل منهما نهجا مختلفا في التعامل مع الإمبراطورية، التي تأسست في القرون الأخيرة إما من خلال القوة البحرية، أو من خلال الحروب البرية التقليدية. ولأسباب تاريخية واضحة، يأتي السرد المتعلق بمنطقة الهادي الهندي طبيعيا بدرجة أكبر في قسم كبير من العالم الأنجلوسكسوني، في حين يبدو المنظور الأوراسي منطقيا بديهيا من منظور صناع السياسات في بكين وموسكو.

وعلى هذا فإن الـفِـكر الاستراتيجي الغربي يحتاج بشكل عاجل إلى التكيف. لم تكتف الصين وروسيا بالإعلان عن شراكة «بلا حدود»؛ بل تصادف أيضا أن القوتين تهيمنان على كتلة اليابسة الأوراسية الشاسعة، وعلى الرغم من بعض الخلافات الكبرى التي لا تزال قائمة بين القوتين ــ ناهيك عن التنافس التاريخي الشرس في بعض الأحيان ــ فالآن يوحدهما إصرارهما المشترك على تعديل النظام الإقليمي والنظام العالمي الأكبر.

من جانبه، يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إحياء الإمبراطورية الروسية ــ بدءا بأوكرانيا، حيث دخلت حربه الآن عامها الثالث. على نحو مماثل، يأمل الرئيس الصيني شي جين بينج ــ مستحضرا ذكريات «قرن الإذلال» الذي عاشته الصين ــ في إنشاء إمبراطورية من شأنها أن تلقي بظلالها الثقيلة على شرق وجنوب ووسط آسيا.

يعتمد كل من المشروعين على قدرة روسيا والصين على صيانة توافق استراتيجي أساسي بينهما، وأوكرانيا اليوم قد تصبح شرق آسيا غدا، يترابط المسرحان بدرجة عميقة ــ وخاصة من جانب روسيا، التي تشترك في الحدود مع اليابان. الواقع أن نتيجة أي صراع سوف تقرر هيئة صراعات أخرى قادمة. وإذا نجح بوتين في إخضاع أوكرانيا، فمن المؤكد أن شي سيجد في نفسه الجرأة للتحرك بشأن تايوان. هذا هو الاتجاه الذي يقودنا إليه الـفِـكر الأوراسي، حتى لو لم يصف بوتين أو شي الموقف صراحة بهذه المصطلحات.

صحيح أن الصين لا يبدو أنها كانت متحمسة بشكل خاص لحرب بوتين، ولكن بمجرد إقدامه على هذه الخطوة، رأى قادة الصين أن النصر الروسي يصب في مصلحتهم. إن سقوط أوكرانيا من شأنه أن يضعف محيط أوراسيا الغربي، ويحطم الثقة في القوة الأمريكية، ويوجد فرصا جديدة للصين لتوسيع نفوذها في أجزاء أخرى من أوراسيا والمناطق المجاورة لها.

ربما اكتسب بوتين قدرا أعظم من الجرأة بعد تخلي أميركا المخزي عن أفغانستان في الصيف الماضي، وربما تصور (ومعه شي) مشهد إخلاء المروحيات الأمريكية للسفارة في كييف، تماما كما حدث في كابول عام 2021 وفي سايجون عام 1975. ولكن من الأهمية بمكان أن نتذكر أن منطق الانحياز الصيني الروسي يعمل أيضا في الاتجاه المعاكس، فإذا فشل بوتين بشكل واضح في أوكرانيا، فسوف تتقلص الخيارات المتاحة أمام شي بشكل كبير.

الواقع أن الاستراتيجيين الغربيين يهملون هذه العلاقة الاستراتيجية الرئيسية ضد مصلحتهم. ينظر فِـكر الهادي الهندي إلى الصين باعتبارها القوة الأعظم، وإلى روسيا باعتبارها قضية أوروبية ثانوية أكثر هامشية، ولكن إذا كانت القوتان الأوراسيتان تحركهما الرغبة التاريخية ذاتها، فلا ينبغي لنا أن نتجاهل هذه الحقيقة.

لن يكون هذا المنظور الأوراسي واضحا في واشنطن أو كانبيرا بقدر وضوحه في طوكيو، أما عن دلهي، فيبدو أن صناع القرار السياسي في الهند يتوهمون أن الحفاظ على علاقات ودية مع الكرملين قد يمنع روسيا من الاقتراب أكثر مما ينبغي من الصين، ومع ذلك، ينبغي أن يكون من الواضح أين قد تقف روسيا في أي مواجهة جديدة بمنطقة الهيمالايا.

كلما ازداد جبروت القوتين الأوراسيتين، كلما تعاظمت المزايا التي يمكن أن تستمدها كل منهما من الأخرى، وسوف تزداد كل منهما جرأة بفعل انتصاراتهما المتصورة، وسوف تكون البلدان الواقعة على أطراف المنطقة أول من يواجه العواقب. الحق أن الغرب يحتاج بصورة عاجلة إلى البدء في استخدام عدسة أوراسية. إن الإفراط في الاعتماد على منظور الهادي الهندي سيكون خطأ كبيرا.

كارل بيلت وزير خارجية السويد من عام 2006 إلى عام 2014 ورئيس الوزراء من عام 1991 إلى عام 1994، دبلوماسي دولي مشهور، شغل منصب المبعوث الخاص للاتحاد الأوروبي إلى يوغوسلافيا السابقة، والممثل السامي للبوسنة والهرسك، ومبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى البلقان، والرئيس المشارك لمؤتمر دايتون للسلام.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ليس روسيا أو الصين.. وثيقة الأمن القومي الأمريكي تفجر مفاجأة عن أولويات ترامب

قال الدكتور عبد المنعم سعيد، الكاتب والمفكر السياسي، إن وثيقة الأمن القومي الأمريكي تمثّل استمرارًا لنمط سنوي اعتادت الولايات المتحدة عليه من خلاله إصدار تقرير يشرح إمكاناتها وقدرتها على التأثير الخارجي، وكيف ترى موقعها في النظام الدولي. 
وأوضح "سعيد" خلال حواره مع الإعلامي نشأت الديهي ببرنامج "المشهد" المذاع على فضائية "Ten"، مساء الأربعاء، أن التقرير الحالي يحمل بوضوح بصمة إدارة الرئيس دونالد ترامب، مشيرًا إلى أن المعتاد من هذا التقرير منذ 2017 حتى 2021، وهي المرحلة الأولى من عهد ترامب، حيث ظلت الشخصيات نفسها تتولى قيادة مجلس الأمن القومي.
وأضاف أن المجلس الآن يبدو صامتًا، لكن التقرير يكشف الكثير؛ فافتتاحيته تؤكد أن "ترامب جاء لينقذ أمريكا"، في تناقض مع روح التقارير السابقة التي كانت أكثر تحفظًا ومؤسسية.
ووصف سعيد "لغة التقرير ونَفَسه السياسي" بأنهما يحملان قدرًا كبيرًا من التحيّز لترامب، إلى جانب نبرة مدح واضحة، وهو ما يكشف عن تغيّر جوهري في ترتيب الأولويات الاستراتيجية الأمريكية. 
وأضاف أن أكثر ما يلفت الانتباه هو وضع "أمريكا الجنوبية" كأولوية أولى في الإستراتيجية، وهو توجه "قد يدهش الكثيرين"، لكنه يعكس رؤية ترامب الذي اعتبر أن التهديد الأكبر للولايات المتحدة جاء من "الهجرة غير الشرعية" عبر الحدود الجنوبية، وتدفّق المخدرات الذي تعاني منه عدة ولايات في الشمال الشرقي.
وأوضح أن هذا التوجه يعيد الولايات المتحدة إلى منطق السياسة الأمريكية في القرن التاسع عشر، عندما وضع الرئيس الخامس عقيدة المجال الغربي التي تمنع أي قوة من الاقتراب من محيط النفوذ الأمريكي في نصف الكرة الغربي.
واختتم المفكر السياسي بأن التقرير يكشف عن تحول كبير في الرؤية الأمريكية للعالم، يعكس إرث ترامب ومحاولته إعادة صياغة دور الولايات المتحدة وفق منظور قومي ضيق وأولويات مختلفة جذريًا عن إدارات سابقة.

اقرأ المزيد..

خالد أبو بكر: لجنة تطبيق المادة 68 تعمل لضمان حرية المعلومات وصحة الأخبار خالد أبو بكر: تسجيل الكشري بقائمة التراث الثقافي يعكس مكانة الإرث المصري وتجدده الناخبون في البحيرة يتحدون الأمطار والبرد من أجل عيون المشاركة بالبرلمان.. فيديو مدبولي: الاحتياطي يصل 50 مليار و216 مليون دولار مدبولي: صندوق النقد يكمل مراجعته خلال يومين والأمور تسير بإيجابية “مدبولي” يزف بشرى سارة للمواطنين ويكشف مفاجأة عن التضخم وأسعار السلع الأساسية.. فيديو إسرائيل تستعد لسيناريو الرعب.. فيديو هل الدعاء بـ"ربنا يكفينا شرك" يعتبر ذنبًا.. أمين الفتوى يجيب تسنيم مطر تكشف سر مخيف عن صفاء الطوخي في مسلسل «ورد وشوكولاتة».. فيديو باسم يوسف: مصر 2025 لم تعد مصر 2014.. كل شيء تغير

مقالات مشابهة

  • بوتين: التجارة بين روسيا وإيران تسجل نموا مستمرا
  • بوتين: التجارة بين روسيا وإيران تسجل نموا
  • بوتين: العلاقات بين روسيا وإيران تتطور بشكل إيجابي
  • ارتفاع وتيرة العمليات النوعية التي تنفذها أوكرانيا ضد روسيا
  • بوتين يحدد هدفا جديدا: خفض معدل الفقر في روسيا إلى أقل من 5% بحلول 2036
  • ليس روسيا أو الصين.. وثيقة الأمن القومي الأمريكي تفجر مفاجأة عن أولويات ترامب
  • بوتين: علاقات روسيا وإندونيسيا تتطور بشكل جيد
  • بوتين: روسيا مستعدة للمساهمة في برنامج إندونيسيا النووي
  • شويغو: روسيا تنتظر رد أمريكا على مقترحات بوتين بشأن معاهدة الأسلحة الهجومية الاستراتيجية
  • بوتين: روسيا ستكمل العملية العسكرية الخاصة حتى تحقيق أهدافها