كتب أمين عام اللقاء الإسلامي - المسيحي حول سيدتنا مريم القاضي د. محمد النقري في "اللواء":
مريم أيتها القديسة، أيتها الوليّة الصالحة المتربعة على عرش أفضل نساء العالمين، لولا شعلة محبتك وفيض إيمانك ونبض قلبك المقدّس، لولا اصطفائك وطهارتك واصطفائك من قبل خالق الأكوان، لولا دوي أنين آلامك حين المخاض في ولادة ابنك الكلمة ونفخة الروح من العليّ القدير التي بثّها في بطنك.
أيتها القديسة والوليّة الصالحة لولا أمومتك التي تجمعنا وتضمّنا بحنانها، مسلمين ومسيحيين، لفقدنا كل أمل وكل رجاء في عالم يتهاوى من كل حدب وكل صوب، في عالم كثر فيه الظلم والفقر والنهب والسرقة، في زمن كثر فيه الغدر والخيانة والكذب والقهر، في زمن تضعضعت فيه قيم العائلة والطبيعة بعد أن أضافوا إليها وعليها مسمّيات دخيلة ومتهاوية أفقدتها معاني الأبوة والأمومة المجتمعة في أجمل صورها، في زمن اشتدّت فيه النكبات والحروب وحيكت المؤمرات وأبيدت شعوب بأطفالها ونسائها وشيوخها وأبريائها وأزيلت من الوجود من على أرضها وأرض أجدادها دون أن ترف للعالم جفن أو تذرف لهم دمع، في زمن قتل فيه الناس بعضَهُم بعضاً دون أن يعلم القاتِلُ لماذا قَتل ولا المقتولُ لماذا قُتَل، في هذا الزمن نكون قد أدركنا ما وصفه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام حينما أجاب أحد صحابته عما إذا فقد الناسُ عقولهَم حينئذ؟ فيجيب النبي محمد بأنه تنزع عقول أهل ذلك الزمان حتى يحسب أحدهم بأنه على شيء وليس هو على شيء.
في زمن هذا الإنقسام الأكبر : إنقسام المجتمعات على بعضها والشعوب على بعضهم والعائلات والأبناء على بعضهم البعض، بل والإنقسامات التي طالت الأحزاب والجمعيات واللقاءات ذات الأهداف الواحدة، في زمن تهاوت فيه الدولة ومؤسساتها وكأنها تساق سوقاً لتواكب خطط شيطانية لشرق أوسط جديد، تأتي هذه المناسبة الوطنية الإسلامية - المسيحية الجامعة لبشارة سيدتنا مريم لتمنحنا بصيصاً من أمل افتقدناه، وإيماناً بالله أضعناه، لتكون نسمة خير يفوح عطرها على المؤمنين بالله جميعا، بل لتكون بارقة أمل مدوية تحمل رايات الجمال والمحبة والرحمة والرجاء والإيمان والإحسان والعدل والإخاء. كل يوم لنا فيه - مسلمون ومسيحيون - بشارة من أمّنا البتول مريم، بل وفي كل يوم تطلع فيه الشمس أو يتساقط فيه المطر أو تتلبد في سمائه الزرقاء الغيوم، ينتشر فيه رجاء أمّنا البتول مريم أن يعمّ السلام على الأرض، وأن تدق أجراس الكناس ويعلو الآذان من على مآذن المساجد معلنين انتهاء محنة الإنسان لأخيه الإنسان وولادة إنسان الخير والمحبة والرحمة والرجاء.
في هذا اليوم وفي هذه المناسبة الجامعة، نأمل من اللبنانيين والمؤمنين والمجتمعين بفرحة هذا اللقاء الوطني الذي اعتدنا أن نحتفل به في كل سنة منذ 2007، والذي أعلنته الدولة عيداً وطنياً جامعاً في سنة 2010، أن يستلهموا من بشارة مريم وولادتها ومحنتها التي واكبتها في سنين حياتها، العِبَر ومفاهيم التضحية والصبر على الشدائد والإيثار والإخلاص. فإن كانت من مريم ابتدأت الرسالة التي حملها لنا السيد المسيح عيسى ابن مريم فلقد تبعتها رسالة سيدنا محمد عليهما أفضل الصلاة والسلام ليبدأ معهما التاريخ ويقصّ لنا عنواناً إعجازيا في قوة التصميم وقمة الإخلاص وتحمّل الإيذاء والسخرية من أجل إبلاغ رسالة الله، وعنوانا لمحبة البشر بعضهم لبعض.
إن كانت هذه فرحتنا مسلمين ومسيحيين بهذه المناسبة، فلتتشابك أيدينا، ولتتعانق أجسادنا، ولتتعاضد أكتافنا، ولتتلاقى صدورنا، ولتتقابل وجوهنا، ولتتناغم ألستنا، ولتبقى أنوفنا شامخة، ورؤوسنا مرتفعة، وقلوبنا متآلفة، وأقدامنا في أرض الأرز ضاربة، تجمعنا جميعاً محبتنا لسيدتنا مريم العذراء البتول وتكريمنا لابنها المسيح الحصون. في أعماق تربيتنا تجدون احتراما وإجلالاً لإنجيل يرنّم ولقرآن يجود، ترون في أعيننا صور آباء في كنيستهم قانتون عابدون ومشايخ في مساجدهم راكعون ساجدون، في مدننا وأريافنا، تسمعون أجراس الكنائس يتقارعون وأصوات المؤذنين يتناوبون، فمن مثلنا يضاهينا في عيشنا المشترك الواحد، بوركت أيها الوطن، بوركت أرضك وسمائك وشعبك. بوركت يا مريم يا سيدة نساء العالمين.
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: فی زمن
إقرأ أيضاً:
سلطنة عُمان.. الودق الذي يُطفئ الحروب
د. أحمد بن علي العمري
سلطنة عُمان… بلد الأمن والأمان والسلام والإسلام والاعتدال والحياد والأعراف والعادات والتقاليد وحسن التعامل والتسامح، حيث إن الأعراف والتقاليد لدى العُماني أقوى من أي قانون؛ الأمر الذي جعلها محل ثقة وتقدير واحترام العالم أجمع دون استثناء.
ومع ذلك؛ فالرأي مفتوح للجميع، وسقف الحرية مرتفع بحكم القانون العُماني. ولقد لفت انتباهي الانطباع الذي خرج به المشاركون في معرض مسقط الدولي للكتاب من زوار ومؤلفين وناشرين؛ حيث عبّروا عن الحرية التي وجدوها؛ فهناك الكثير من الكتب التي يُمنع نشرها في العديد من الدول وجدت حريتها في عُمان تنتظرها، وأكدوا أن في عُمان مجالًا رحبًا للرأي والرأي الآخر، وأفقًا للرأي الواسع، كما أشاروا إلى حفظ الحقوق واحترام وتقدير الآخرين.
لقد وجدوا التطبيق الفعلي لعدم مصادرة الفكر؛ بل حمايته وتهيئة الجو المناسب له، فقد قالها السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه -: "إننا لا نصادر الفكر.. أبدًا"، وأتت النهضة المتجددة لتؤكد على استمرارها ونموها وتوسعها؛ فأضحت عُمان بلا منازع محل تقدير ومركز تسامح وموقعًا لثقة الجميع.
المعروف أن الودق هو المطر الذي يُنهي الجفاف ويحيي الأرض، وفي السياق الأدبي أو الثقافي يُستخدم كرمز للخير والسلام، وعندما نقول إنه يطفئ الحروب، فهو تعبير مجازي عن دور عُمان التاريخيّ في إخماد النزاعات بالحكمة والدبلوماسية، كما فعلت عبر تاريخها في الوساطة بين الأطراف المتنازعة.
إن سلطنة عُمان معروفة بسياسة الاعتدال والحوار؛ سواء كان ذلك في محيطها الخليجي أو العربي أو على المستوى الدولي، مما جعلها صانعة للسلام بامتياز. وهكذا فإن الودق العُماني ليس مجرد مطر مادي، وإنما هو إشارة للغيث الأخلاقي في البوتقة السياسية الذي تقدمه عُمان لتهدئة الصراعات ومسبباتها ووأد الفتنة في مهدها.
لقد وقفت السلطنة كعادتها الدائمة والثابتة والراسخة على الحياد؛ فلم تقطع العلاقات مع جمهورية مصر العربية إبان اتفاقية كامب ديفيد، وكذلك الحياد في اتفاقيات مدريد وأوسلو ووادي عربة، وبقيت محايدة في الحرب العراقية الإيرانية، ولم تتدخل في الحروب التي تستعر هنا وهناك من حينٍ لآخر؛ فلم تتدخل في حرب ليبيا، ولا الصومال، ولا اليمن، ولا السودان؛ بل أغلقت أجواءها أمام الاستخدام العسكري لأي من الطرفين المتنازعين.
وقد كانت الوسيط لإطلاق عدد كبير من المحتجزين للعديد من الدول، كما إنها كانت وسيط الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، وحاليًا تقوم بالوساطة ذاتها بين أمريكا وإيران للوصول إلى اتفاقية ثابتة وملزمة ومحكمة.
ومؤخرًا تدخلت السلطنة لإطفاء الحرب الملتهبة بين أمريكا واليمن، والتوصل للاتفاق على وقف إطلاق النار بين الطرفين، وهي حرب بالغة في التعقيد، لكن الدبلوماسية العُمانية المعهودة كان لها التأثير السلس الذي يتواصل مع الفرقاء برقة النسيم، وعذوبة الودق، وشذى الياسمين.
كل ذلك بهدوء ودون صخب إعلامي أو ضجيج القنوات الفضائية أو جعجعة الحناجر، كعادتها عُمان تبتعد عن المنّ والأذى.
إن الطائر الميمون الذي يقلّ المقام السامي لحضرة مولانا صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - بين العديد من عواصم العالم بين الحين والآخر، إنما يحمل على جناحيه غصن الزيتون ومرتكزاته وأهدافه، هو نشر السلام والتسامح؛ فعُمان تلتقي ولا تودع، وتجمع ولا تفرّق، وتلمّ ولا تشتّت، وتمُدّ يد السلام والوئام والتسامح والأُلفة للجميع.
حفظ الله عُمان وسلطانها وشعبها.