أيضًا‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬2015‭ ‬كتب‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬أشتية‭ ‬دراسة‭ ‬هامة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬رؤية‭ ‬لاستراتيجية‭ ‬الصراع‭ ‬المستقبلى‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬وكأنها‭ ‬كتبت‭ ‬البارحة‭ ‬مذكرًا‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬فى‭ ‬حسابات‭ ‬إسرائيل‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬‮«‬إسحاق‭ ‬رابين‮»‬‭ ‬خامس‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬إسرائيلى،‭ ‬الذى‭ ‬انتهت‭ ‬حياته‭ ‬بإطلاق‭ ‬الرصاص‭ ‬عليه‭ ‬ومقتله‭ ‬فى‭ ‬4‭ ‬نوفمبر‭ ‬1995‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬قاتل‭ ‬يهودى‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬إيجال‭ ‬عامير‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬رابين‮»‬‭: ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نصبح‭ ‬يومًا‭ ‬لنرى‭ ‬فيه‭ ‬غزة‭ ‬تغرق‭ ‬فى‭ ‬البحر‭.

‬لقد‭ ‬تم‭ ‬إغراق‭ ‬غزة‭ ‬بالدم‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬2002‭ ‬و2009‭/‬2008‭ ‬وعام‭ ‬2012‭ ‬وعام‭ ‬2014‭ ‬والهدف‭ ‬السياسى‭ ‬لإسرائيل‭ ‬هو‭ ‬إبقاء‭ ‬غزة‭ ‬خارج‭ ‬النسيج‭ ‬الجغرافى‭ ‬والمؤسساتى‭ ‬الفلسطينى‭ ‬ودفعها‭ ‬نحو‭ ‬مصر‭.‬
إن‭ ‬الذى‭ ‬تقدم‭ ‬يدلل‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يدعو‭ ‬للشك‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المستقلة‭ ‬المنشودة‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬عام‭ ‬1967‭ ‬وعاصمتها‭ ‬القدس‭ ‬ليست‭ ‬فى‭ ‬عقل‭ ‬القيادة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬لا‭ ‬الحالية‭ ‬ولا‭ ‬غيرها‭. ‬وكل‭ ‬الذى‭ ‬تريده‭ ‬إسرائيل‭ ‬هو‭ ‬استمرار‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن‭. ‬والوضع‭ ‬الراهن‭ ‬هذا‭ ‬أمر‭ ‬غير‭ ‬مستقر‭ ‬بل‭ ‬متدهور‭ ‬تصادر‭ ‬إسرائيل‭ ‬خلاله‭ ‬ما‭ ‬معدله‭ ‬2000‭ ‬دونم‭ ‬شهريًا،‭ ‬ويزيد‭ ‬عدد‭ ‬المستوطنين‭ ‬بنحو‭ ‬ألفى‭ ‬مستوطن‭ ‬شهرياً‭ ‬أيضاً‭.‬
وعليه‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬برنامجهم‭ ‬السياسى‭ ‬بما‭ ‬يأخذ‭ ‬بالاعتبار‭ ‬هذه‭ ‬الحقائق‭.‬
معتبراً‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬المهم‭ ‬أيضاً‭ ‬هو‭ ‬الحقيقة‭ ‬التى‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬بين‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬ونهر‭ ‬الأردن‭ ‬أى‭ ‬فى‭ ‬فلسطين‭ ‬التاريخية‭ ‬يعيش‭ ‬نحو‭ ‬6.1‭ ‬مليون‭ ‬يهودى‭ ‬وهناك‭ ‬11‭ ‬أيضًا‭ ‬فى‭ ‬المنطقة‭ ‬ذاتها‭ ‬نحو‭ ‬6‭.‬1‭ ‬مليون‭ ‬فلسطينى،‭ ‬أى‭ ‬أن‭ ‬الميزان‭ ‬الديمغراف‭ (‬1:1‭). ‬ولكن‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬2020‭ ‬سيصبح‭ ‬عدد‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬بين‭ ‬البحر‭ ‬والنهر‭ ‬نحو‭ ‬53‭ % ‬من‭ ‬مجموع‭ ‬السكان‭ ‬بما‭ ‬يعنى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أقلية‭ ‬يهودية‭ ‬تحكم‭ ‬أغلبية‭ ‬فلسطينية‭. ‬وفى‭ ‬حال‭ ‬تآكل‭ ‬حل‭ ‬الدولتين‭ ‬بسبب‭ ‬الإجراءات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬فإننا‭ ‬سنجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬نزلق‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬الواحدة‮»‬،‭ ‬تمارس‭ ‬فيها‭ ‬إسرائيل‭ ‬أبشع‭ ‬أنواع‭ ‬العنصرية‭ ‬والتمييز‭ ‬والقهر‭. ‬ان‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬يعنى‭ ‬منعطفًا‭ ‬فى‭ ‬ديناميكية‭ ‬الصراع‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬مرئيات‭ ‬ديناميكية‭ ‬الحل‭.‬
ويختتم‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬أشتية‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬بقوله‭ ‬إن‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيونى‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ولا‭ ‬مرة‭ ‬مشروعًا‭ ‬دينيًا‭ ‬بل‭ ‬مشروع‭ ‬استعمارى‭ ‬اقتصادى‭ ‬استيطانى‭ ‬جاذب‭ ‬للمستوطنين،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الدين‭ ‬إلا‭ ‬إحدى‭ ‬ذرائع‭ ‬هذا‭ ‬المشروع‭ ‬الذى‭ ‬رعته‭ ‬الدول‭ ‬الاستعمارية‭ ‬والذى‭ ‬بدأ‭ ‬كمنفعة‭ ‬متبادلة‭ ‬بين‭ ‬بريطانيا‭ ‬والحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬وكل‭ ‬لأسبابه‭.‬
 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الدكتور محمد أشتية إطلاق الرصاص

إقرأ أيضاً:

يهود في مواجهة الصهيونية

أثارت الحركة الصهيونية منذ نشأتها جدلًا واسعا بين شخصيات وعائلات ومفكرين يهود في أوروبا وأميركا، الذين رأوا فيها خطرا على اليهود أنفسهم، زاعمين أن الأساس الذي قامت عليه يرسخ الانفصال عن الأوطان الأصلية التي ينتمون إليها، ويقوّض مبدأ الاندماج الذي كان لعقود صمام الأمان لبقائهم في مجتمعاتهم.

وبرزت أصوات يهودية عبرت بكل وضوح عن حرصها على اليهود، معتبرة أن الفكر الصهيوني يهدد وجودهم، وأن إقامة وطن قومي في فلسطين سيُعرّض ولاء اليهود في أوطانهم للتشكيك ويؤجج النزعات المعادية لهم.

ومثلت هذه المواقف -وبعضها ينطلق من معتقدات دينية- تيارا فكريا يهوديا معارضًا للصهيونية، رأى أن خلاص اليهود يكمن في الإصلاح الاجتماعي والسياسي داخل المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، لا في مشروع قومي ضيق منفصل في فلسطين قد يعمّق عزلتهم ويستدعي المخاطر عليهم.

صمويل مونتاجو رفض الصهيونية بوصفها مشروعا يتناقض مع مبدأ اندماج اليهود في مجتمعاتهم (غيتي)عائلة مونتاجو

قدمت عائلة مونتاجو البريطانية نموذجا بارزا لليهود السفارديم الذين تبنّوا التوجّه الاندماجي في مواجهة المشروع الصهيوني، فقد وقفت هذه العائلة، التي كان لها حضور اقتصادي وسياسي مؤثر في بريطانيا منذ القرن الـ19، موقفا نقديا حادا من الحركة الصهيونية، انطلاقا من قناعة راسخة بفصل الدين عن القومية، ورفض فكرة تحويل اليهود إلى جماعة سياسية مستقلة عن أوطانها الأصلية.

وقد أسس صمويل مونتاجو (1832-1911) بنك "صمويل مونتاجو وشركائه" وأسهم بشكل ملموس في ترسيخ مكانة لندن كمركز مالي عالمي، حيث منحه النفوذ الاقتصادي والسياسي موقعا استشاريا لدى الخزانة البريطانية.

وعلى الرغم من اهتمامه بالشؤون اليهودية وزياراته المتعددة إلى فلسطين وروسيا والولايات المتحدة، فقد رفض الصهيونية بوصفها مشروعا يتناقض مع مبدأ اندماج اليهود في مجتمعاتهم القومية.

إعلان

وكما يرصد الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" فقد كان هذا الموقف متجذرا داخل العائلة، حيث سار ولداه، لويس صمويل مونتاجو (1869–1927) وإدوين صمويل مونتاجو (1879-1924) على النهج نفسه.

إدوين صمويل مونتاجو اقترح أن يُحرم كل صهيوني من حق التصويت في بريطانيا (غيتي)أقلية غريبة

وقد تبلور اعتراض إدوين مونتاجو، الذي تقلد مناصب وزارية مهمة في الحكومة البريطانية وعلى رأسها وزير الدولة لشؤون الهند، بشكل واضح في معارضته الصريحة لوعد بلفور قبيل صدوره عام 1917، محذرا من أن إقامة وطن قومي لليهود سيؤدي إلى نزع حقوق المواطنة عن اليهود البريطانيين، ويُكرّس صورة اليهود كأقلية غريبة محصورة في "غيتو قومي" معزول عن المجتمعات الأخرى.

ولم يكتف مونتاجو بالاعتراض السياسي، بل اعتبر أن المشروع الصهيوني يستند إلى رؤية دينية مغلوطة، ويزج باليهود في صراع قومي لا أساس له. وكتب ساخرا "بلفور ووريث آل روتشيلد لا يمكن أن يُنظر إليهما كمخلّصين يحققون النبوءة الدينية".

واقترح في مواجهة صعود النفوذ الصهيوني أن يُحرم كل صهيوني من حق التصويت في بريطانيا، بدلا من نزع الجنسية عن اليهود غير الصهاينة، معتبرا المنظمة الصهيونية كيانا يعمل ضد المصالح الغربية البريطانية ويهدد وحدة النسيج الوطني في الداخل.

وتكشف مواقف عائلة مونتاجو عن انقسام مبكر داخل الجاليات اليهودية تجاه الصهيونية، بين تيار اندماجي رأى في المشروع الصهيوني انحرافا عن التقاليد الدينية وانعزالا عن الواقع القومي للدول، وبين تيار قومي انفصالي حمل هوية دينية وسياسية مزدوجة، وسعى إلى بناء كيان يهودي على حساب التركيبة السكانية والتاريخية لفلسطين.

غودمان رأى أن الصهيونية تسعى لعزل اليهود من خلال خيار قومي لا يقل قسوة (موقع جامعة هارفارد)موريتز غودمان

يُعد موريتز غودمان (1835-1918) من أبرز المفكرين اليهود الألمان أواخر القرن الـ19، ومن الشخصيات التي لعبت دورا مهما في النقاش الفكري حول هوية اليهود ومكانتهم في المجتمعات الغربية، وتولى منصب كبير حاخامات فيينا منذ عام 1894.

وقد أسهم بعمق في دراسة تاريخ التربية والثقافة اليهودية في الغرب خلال العصور الوسطى، مركزا في أبحاثه على تفاعل الجماعات اليهودية مع البيئات غير اليهودية وتأثرها بها ثقافيا وحضاريا.

وكما يرصد والتر لاكير في كتابه "تاريخ الصهيونية" فقد برز غودمان بوصفه أحد المدافعين عن مبدأ اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، مع الحفاظ على خصوصيتهم الدينية، دون أن يتحول هذا الاندماج إلى انصهار ثقافي أو ذوبان في الأغلبية.

ومن هذا المنطلق وقف موقفا ناقدا بشدة من المشروع الصهيوني الذي طرحه ثيودور هرتزل في كراسته الشهيرة "دولة اليهود" عام 1896.

وكان هرتزل قد أرسل أول خطاب إلى غودمان سنة 1895، مُعتبرا إياه أحد الشخصيات الثلاث التي يمكن أن تنقل حلم الدولة اليهودية إلى حيز التنفيذ، إلى جانب البارون دي هيرش واللورد روتشيلد، إلا أن غودمان خيّب ظنه حين رفض الفكرة برمتها.

تفكيك فكرة الشعب اليهودي

وفي ردّه على أطروحة هرتزل، نشر غودمان كُتيبا بعنوان "اليهودية القومية" سنة 1897، هاجم فيه الأسس التي تقوم عليها الصهيونية، وسعى لتفكيك فكرة "الشعب اليهودي" بوصفها غير تاريخية ولا واقعية.

إعلان

وطرح سؤالا جوهريا على أنصار الصهيونية: من هو اليهودي الأكثر وفاء لهويته؟ أهو الذي يتمسك بشعائر دينه ويندمج في محيطه الوطني والحضاري؟ أم ذلك الذي يتخلى عن الدين لكنه يتشبث بانتماء عرقي لا سند له سوى الرغبة في التمايز؟

وكان غودمان يرى أن الصهيونية تعكس عقلية الغيتو بشكل مقلوب، وأنها تسعى إلى عزل اليهود مجددًا لا عن طريق الاضطهاد، بل عبر خيار قومي لا يقل قسوة، وهو ما أغضب رموز الحركة الصهيونية مثل هرتزل وماكس نورداو اللذين هاجماه بضراوة، إذ كانا ينظران إلى اليهودية كهوية ثقافية أو قومية لا كديانة، وسعيا من خلال الصهيونية إلى إقامة كيان قومي يُخرج اليهود من أوروبا لا بالدمج والقبول، بل بالهجرة والانفصال.

ولهذا السبب -وكما يذكر المسيري في موسوعته- فإن غودمان يمثل بذلك تيارا عقلانيا داخل الفكر اليهودي الأوروبي، حيث رأى أن مستقبل اليهود يكمن في تعميق انتمائهم الوطني داخل أوطانهم، وليس في الهروب من التحديات الاجتماعية والسياسية عبر مشروع قومي انفصالي.

هيرمان كوهين من أبرز المفكرين اليهود الذين تبنوا مشروع الاندماج داخل المجتمعات الأوروبية (غيتي)هيرمان كوهين

برز هيرمان كوهين (1842-1918) في المشهد الفكري الألماني أواخر القرن الـ19 كواحد من أهم أعلام الفلسفة الكانطية الحديثة، ومن أبرز المفكرين اليهود الذين تبنوا مشروع الاندماج داخل المجتمعات الأوروبية الحديثة.

ونشأ في بيئة دينية، وبدأ تعليمه بهدف أن يصبح حاخاما، لكنه تراجع عن هذا المسار وانصرف إلى دراسة الفلسفة، ليحصل على درجة الدكتوراه ويتولى التدريس في جامعات ألمانية مرموقة، حيث أسهم في تأسيس مدرسة ماربورغ الفلسفية الشهيرة.

وفي إطار دفاعه عن اندماج اليهودية في المجتمعات التي عاشت فيها، وبغية الدفاع عنها ضد بعض الهجمات الغربية التي طالتها، والتي نتبين منها نقمته من الصهيونية التي ترسخ للعرقية والانعزالية، رده على المؤرخ الألماني هاينريش ترياتشكه عام 1879 ضد اليهود الذي وصف اليهودية بأنها "ديانة عرقية تعادي القيم الغربية وتتنكر لها" واعتبر اليهود بأنهم "أمة داخل أمة".

وكما يرصد بول منديز-فلور، في كتابه "اليهود الألمان: هوية مزدوجة"، فقد كان رد كوهين في العام التالي عبر كتابه "اليهودية: اعتراف" مؤكدا أن يهود ألمانيا مواطنون ألمان متكاملون، لا يعانون من أي ازدواج في الانتماء، بل يجمعون بين إيمانهم الديني والولاء المدني للدولة، وأوضح أن الدولة الحديثة بما تحمله من قيم عقلانية وإنسانية ليست نقيضا لليهودية، بل تمثل امتدادا لها في سعيها نحو العدالة والمساواة.

وفي عام 1888 تصدى كوهين أيضا لادعاءات أكاديمية طالت التلمود واتهمته بالسماح لليهود بخداع غير اليهود، فألف كتيبا بعنوان "الحب الأخوي في التلمود" دحض فيه هذه المزاعم، وربط بين مفهوم "الشعب المختار" وفكرة الإصلاح الأخلاقي العالمي، مستشهدا بأن جوهر الرسالة التلمودية يتجلى في تقديم الله بوصفه نصيرا للغريب، وليس حاميا لامتياز عرقي.

ومن خلال أعماله الفلسفية والدينية بحسب المسيري، قدّم كوهين رؤية عقلانية ليهودية منفتحة ترفض الانغلاق القومي وتؤمن بوحدة الإنسانية، وقد شكل هذا التصور أساسا لرفضه الحاسم للمشروع الصهيوني، الذي رآه ضربا من القومية الانفصالية التي تهدد بفصل اليهود عن مجتمعاتهم الأوروبية.

وبالنسبة لكوهين، فإنه لا يمكن الحديث عن خلاص لليهود خارج أطر الدولة الحديثة، ولا عن هوية يهودية حقيقية خارج الالتزام بالقيم الأخلاقية الكونية.

هانز كون (وسط) من أبرز المفكرين اليهود الذين تناولوا فكرة القومية بمنظور نقدي (غيتي)هانز كون

يُعد هانز كون واحدا من أبرز المفكرين اليهود الذين تناولوا فكرة القومية بمنظور نقدي، وطرحوا رؤية مغايرة للرؤية الصهيونية التي حولت الهوية اليهودية إلى مشروع قومي ضيق.

إعلان

وقد وُلد كون في براغ ودرس فيها، ثم استقر في فلسطين عام 1925، لكنه غادرها عام 1934 بعد أقل من عقد، ليستقر في الولايات المتحدة حيث عمل أستاذا للتاريخ.

وتركز اهتمامه البحثي على دراسة القومية بوصفها ظاهرة تاريخية متعددة الأبعاد، وارتبط اسمه بعدد من المؤلفات المرجعية في هذا المجال، مثل: فكرة القومية (1944)، عصر القومية (1962)، ومقدمة للدول القومية (1967).

كما ألّف كون دراسة عن 3 شخصيات يهودية بارزة هي آحاد هاعام وهايني وكارل بوبر، ويعكس اختياره لهذه الأسماء توجها نقديا واضحا للفكر القومي الصهيوني الذي خضع في نظره لمفاهيم أحادية لا تنسجم مع الروح العالمية لليهودية.

وفي دراسته "صهيون وفكرة اليهودية القومية" انتقد كون المفهوم الصهيوني القائم على العودة إلى "الأصل" معتبرا أن التفاعل مع الحضارات الأخرى هو ما يصنع التميز الثقافي والإبداع، لا الانعزال القومي.

ويقول إن أعظم الأسماء في التاريخ اليهودي الحديث، مثل هايني وماركس وبرغسون، لم يظهروا إلا بعد انفتاح اليهود على العالم وانخراطهم في حضارات أخرى.

ويرى أن العودة إلى الجذور ليست بالضرورة فضيلة، وضرب مثالا بفرنسا التي لم تتضرر من تبنيها لغة الغزاة الرومان، بل كانت القاعدة القانونية الأوروبية كلها قائمة على القانون الروماني الذي فُرض من الخارج لا من داخل البنية الثقافية الأوروبية.

ويركز كون في قراءته للتاريخ اليهودي على التوتر القديم بين تيارين داخل الفكر الديني: تيار ديني عالمي يؤمن برسالة أخلاقية مفتوحة على الجميع، وآخر قومي يسعى إلى إقامة كيان سياسي خاص، ويستشهد بقصة طلب بني إسرائيل تنصيب ملك عليهم في عهد النبي صمويل، إذ كان المقصود من القصة أن يكونوا عبادا لله لا خدما للدولة.

وبعد تأسيس الدولة لم يتردد الأنبياء في مهاجمتها كما فعل عاموس وإرميا اللذان أعادا تفسير مفاهيم مثل "الشعب المختار" و"أرض الميعاد" مؤكدين أن الاختيار لا يمنح امتيازا، بل يحمّل مسؤولية أخلاقية صارمة، وأن العقاب الإلهي سيكون أشد على بني إسرائيل إذا انحرفوا، لأنهم الطرف الذي "عُرف" من بين جميع الشعوب.

وفي تحليله لظاهرة معاداة اليهود، أشار كون إلى التباين بين النظرة الصهيونية والنظرة الاندماجية، فبينما تعتبر الصهيونية معاداة اليهود ظاهرة أبدية ملازمة لكل الأغيار، ورأى أن هذه الظاهرة اجتماعية وليست قدرية، وأنها قابلة للانحسار كلما زادت المجتمعات البشرية عقلانية واستنارة.

وهذا الموقف، كما يرى المسيري، يعكس إيمان كون العميق بأن التقدم الاجتماعي والسياسي كفيل بتفكيك العنصرية، بعكس النظرة الصهيونية التي تكرس الانفصال كحل دائم.

كما انتقد كون الطرح الصهيوني لحقوق اليهود، مؤكدا أن مطالبة الصهيونية بالاستقلال الجماعي تتناقض مع التقاليد الليبرالية التي تركز على حقوق الفرد داخل وطنه، لا على تشكيل كيانات جماعية منفصلة، وأن هذا الطرح -حسب رأيه- يسيء لليهود الذين يطمحون للعيش مواطنين كاملي الحقوق في بلدانهم الأصلية، ويعزز الشك في ولائهم.

ورغم غزارة إنتاجه الأكاديمي، تجاهلت معظم الموسوعات اليهودية موقف كون من الصهيونية، وركّزت فقط على أبحاثه العامة حول القومية، ولم يبرز هذا الجانب إلا في سيرته الذاتية التي نشرها عام 1964 تحت عنوان "الحياة في ثورة عالمية" حيث عبّر بوضوح عن موقفه الرافض لتحويل الدين إلى مشروع سياسي.

وبلغت الرؤية العالمية لدى كون ذروتها في تأكيده على أن المساعدة الإلهية ليست حكرا على جماعة يسرائيل، وأن الإله في المفهوم التوراتي النبوي يساعد كل الشعوب بما فيها مصر وآشور.

مقالات مشابهة

  • يهود في مواجهة الصهيونية
  • جامعة أسوان تكشف عن القائمة المبدئية لمرشحي عمادة كلية الحقوق
  • شئون القدس: الاحتلال الإسرائيلي يستهدف الصحفيين ويمارس القتل لطمس الرواية الفلسطينية
  • في ذكرى وفاته.. قصة حب نور الشريف لنادي الزمالك
  • مينا نبيل نجل ياسر جلال وأروى جودة في للعدالة وجه آخر
  • كريمة أبو العينين: تراهم يستوعبون؟!
  • وزارة العدل السورية تدعو متضرري محكمة الإرهاب لتقديم شكاويهم
  • العودة إلى زمن (المصابيح الزرق) لحنّا مينه.. علامة مبكرة من روائع الرواية العربية الحديثة
  • النقض تؤيد إعدام سيدة قتلت جارتها المُسنة وقطّعت جثتها بالفيوم بدافع السرقة
  • الجزائر تدين بشدة وترفض المخططات الصهيونية بغزة