غزة والرد الإيراني على دولة الاحتلال
تاريخ النشر: 18th, April 2024 GMT
كما كان متوقعًا، أنفذت إيران تهديدها لدولة الاحتلال بضربة صاروخية؛ ردًا على استهداف الأخيرة مبنًى تابعًا لسفارتها في دمشق قبل أيام، ذهب ضحيته عدد من قياداتها العسكرية، الأمر الذي وضعته طهران في إطار الاستهداف المباشر لأراضٍ إيرانية (بسبب رمزية السفارة)، وتوعّدت بالرد عليه. وإذا كان ثمة زوايا عديدة لتقييم الحدث كمتغير مهم في المنطقة، فإن علاقته بالعدوان على غزة – تأثرًا وتأثيرًا – تأتي في مقدمة هذه الزوايا في المرحلة الراهنة.
ثمة تباين كبير في توصيف ما حصل، وكذلك في تقييم مظاهره ونتائجه بين إيران من جهة والاحتلال من جهة ثانية، وينسحب ذلك على المتابعين والباحثين، ويشمل ذلك عدد المسيّرات والصواريخ المستخدمة، وعدد ما وصل منها بعد تخطّي دفاعات الاحتلال ومن دعمه، ومدى الأضرار المباشرة للقصف، فضلًا عن الآثار غير المباشرة، ويشمل ذلك أيضًا معرفة موعد الرد ونوعيته وحدوده، وربما تفاصيل أخرى متعلقة به، والأسلحة المستخدمة، وغير ذلك الكثير.
إلا أن مما لا يختلف عليه الكثيرون، أن إيران لم تكتفِ بسردية "الصمت الإستراتيجي" هذه المرة، بل أنفذت تهديدها بالرد، وأن الرد كان مركّبًا من الناحية الجغرافية، إذ شاركت ببعض تفاصيله أطراف أخرى غير إيران، وعسكريًا من حيث الأسلحة المستخدمة، وأنها المرة الأولى التي تستهدف فيها طهران بشكل رسمي ومعلن عمق الأراضي "الإسرائيلية"، وليس عبر الأطراف أو الأذرع المحسوبة عليها، وأن الرد كان محددًا ومحدودًا في ظل سعي الأخيرة لئلا يتسبب بتصعيد كبير، أو اندلاع حرب موسعة قد تضعها في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وليس فقط دولة الاحتلال.
وبغض النظر عن التباين في زوايا والتوافق في أخرى، إلا أن أهم دلالات الضربة التي وجهتها إيران، أنها متغير جديد في معادلات المنطقة، فهي المرة الأولى لاستهداف إيراني مباشر وبشكل رسمي وعلني لدولة الاحتلال، والمرة الأولى بشكل عام في المنطقة بعد الصواريخ التي كان أطلقها الرئيس العراقي صدام حسين عليها في سياق مختلف تمامًا. وهي بهذا المعنى، سعي إيراني حثيث وجاد لاستعادة معادلة الردع والتوازن السابقة، التي حاول الاحتلال كسرها بعملية السفارة في دمشق.
وبالتالي، يؤشر ذلك على مرحلة جديدة في المنطقة بقواعد اشتباك مختلفة هذه المرة، إذ إنّ ما يكسر من قواعد الاشتباك السابقة مرة، يصبح أسهل على الكسر ويتحول على الأغلب لقواعد جديدة. بكلمات أخرى لم يعد قصف الداخل "الإسرائيلي" خطًا أحمر بل أمرًا يمكن أن يتكرر في سياقات وظروف محتملة في المستقبل القريب، أو المدى البعيد، وهذا أمر يغير الكثير من الحسابات والتوازنات في المنطقة.
تداعيات الرد لا يمكن الجزم بها من الآن، إذ ستعتمد على ما إذا كانت "إسرائيل" سترد على الرد الإيراني أم لا، وشكل هذا الرد ومكانه وباقي تفاصيله، وما إذا كان ذلك سيتسبب بسلسلة من الردود التي يمكن أن تتحول لمواجهة شاملة، أم أن الأمر سيقف عند حدود الرد الإيراني بقناعة "إسرائيلية" و/أو ضغط أميركي.
القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي، تحدث عن معادلة جديدة حذر الاحتلال من اختبارها، مفادها: "إذا هاجم الكيان الصهيوني مصالحنا وممتلكاتنا وشخصياتنا ومواطنينا في أي لحظة، فسوف نقوم بهجوم مضاد عليه". الأمر الذي يعني أن ثمة قوالب قد كُسرت، وقواعد اشتباك جديدة يمكن أن تحل مكان القائمة، وبالتالي فقد دخلت المنطقة في مرحلة جديدة كليًا، إذا لم تكن العودة لمعادلات الردع وقواعد الاشتباك القديمة حلًا مفضلًا من الجميع.
موقع غزةلم تعلن طهران أن الرد يستهدف وقف العدوان على غزة، ولا نصرة مقاومتها، ولا حتى أعلنت أنها تأتي في إطار مواجهة مفتوحة مع الاحتلال، وإنما كرسالة تحذير لما يمكن أن تفعله مستقبلًا في حال استمرّ استهدافها. بهذا المعنى، فغزة ليست حاضرة في قلب دوافع الردّ الإيراني، لكن ذلك لا يعني أنها غير حاضرة في الحدث بالمطلق تأثرًا وتأثيرًا.
ففي المقام الأوّل، أتى الاستهداف "الإسرائيلي" للمستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا؛ بسبب دورهم في دعم المقاومة الفلسطينية، على ما قال الاحتلال، وأكّدته كتائب القسام في بيان لها. كما أن الرد الإيراني المباشر بهذه الطريقة لم يكن ليحصل لولا معركة "طوفان الأقصى"، وما تبعها من تطورات منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أزالت الكثير من هالة القوة حول الاحتلال، وكسرت هيبته، وكشفت بعض ثغراته وفتحت الباب أمام معادلات جديدة في التعامل معه.
هذا، مع عدم إغفال أن الاحتلال ومن خلفه الولايات المتحدة الأميركية، ينظران للفعل الإيراني من زاوية الحرب في غزة، إذ طالما كان لطهران سهم مهم في مراكمة القوة في القطاع، كما كان لعدد من القوى المحسوبة عليها في كل من لبنان واليمن والعراق، مساهمات في هذه الحرب إسنادًا لغزة، فضلًا عن أن الخطاب المؤسس لمعركة "طوفان" الأقصى في الأساس كان يتحدث عن حرب شاملة وفق منطق "وحدة الساحات".
لكن، وحتى بعيدًا عن السياق السابق للعلاقة بين إيران وقوى المقاومة الفلسطينية وتحديدًا حماس، وإضافة لتأثير غزة الواضح – من خلال معركة "طوفان الأقصى" وتداعياتها – على معادلات الردع بين إيران ودولة الاحتلال، تبدو غزة في موقع التأثر كذلك بالرد وتداعياته، بشكل مباشر أو غير مباشر.
في المدى المباشر، كان ملاحظًا أن العمليات العسكرية "الإسرائيلية" في قطاع غزة جوًا وبحرًا تراجعت وانحسرت أضرارها في تلك الليلة، كما كان واضحًا سعي نتنياهو للاستفادة من الحدث لاستعادة فكرة المظلومية والدعم الغربي، وتحصيل مكاسب من واشنطن، لكن هذه التأثيرات – الإيجابية والسلبية – سياقية وظرفية ومؤقتة.
على المدى البعيد، لا يمكن الجزم باتّجاه وحجم تأثير الحدث في العدوان "الإسرائيلي" على غزة بشكل خاص، والقضية الفلسطينية في العموم، إذا ما اتجهت الأمور للتصعيد الموسع، أو الحرب الشاملة، فذلك مرهون بنتائج هذه المواجهة المحتملة، وتداعياتها على الأطراف المنخرطة فيها، وعلى المنطقة ككلّ.
وعليه، فإنّ سيناريو استمرار الاستهداف، والاستهداف المقابل، يمكن أن يفيد غزة – مقاومة وشعبًا – أو يضرّها حسب مآلات هذا السيناريو في نهاية المطاف، وكذلك حسب مدته وسقفه والأطراف المنخرطة به… إلخ.
لكن، في المقابل، فإن اكتفاء دولة الاحتلال بتلقّي الرد الإيراني وعدم الرد عليه، رغم محدودية آثاره المادية عليها، سيعني أن التأثير على غزة سيكون محدودًا وضئيلًا؛ بمعنى استمرار الحرب البرية "الإسرائيلية"، بما في ذلك احتمالات دخول رفح، إلا أن ذلك يبقى خيارًا غير مرجح بكل الأحوال.
الاحتمال الأرجح، هو استفادة قطاع غزة من الرد الإيراني بشكل غير مباشر. ذلك أن ما حصل، مع احتمالات الرد "الإسرائيلي"، وسيناريو التصعيد المتدرج أو المنفلت، يعني أن احتمالات خروج الأمور عن السيطرة بالكامل، وتحولها لحرب إقليمية موسعة أو مواجهة شاملة، تتعاظم مع الوقت، وتصبح راجحة، وهو ما سيعزز مساعي الاحتواء وضبط الأمور، وبالتالي دعم جهود وقف الحرب على غزة؛ تجنبًا للسيناريو الذي لا تريده واشنطن، على الأقل في المرحلة الحالية.
في الخلاصة، وإن لم تكن غزة عنوان الرد الإيراني أو دافعه الرئيس، إلا أنها حاضرة ضمن عوامل تهيئة الأرضية له من جهة، ومتأثرة بسيرورته ومآلاته النهائية من جهة ثانية. لا نرجح أن يكون ذلك التأثير مباشرًا وسريعًا وكبيرًا، لكن الأحداث مترابطة بشكل كبير وملاحظ، ما يعزز فكرة التأثير طويل المدى، وغير المباشر، لا سيما أن الأمر برمته متعلق بمعركة "طوفان الأقصى"، وما تسببت به من تطورات.
لقد فتحت معركة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، صفحة جديدة في المنطقة، فتحت بدورها البابَ على تطورات متسارعة – مقصودة أو غير مقصودة – يبني بعضها على بعض؛ لترسم وجهًا جديدًا للمنطقة بإرادة الدول والقوى المنخرطة أو رغمًا عنها أو عن بعضها.
إن المنطقة بعد "طوفان الأقصى" ليست كما قبلها، ولن تعود على الأغلب لما كانت عليه، فقد أسست المعركة لمرحلة جديدة يسعى مختلف الأطراف الإقليمية للتكيف معها طوعًا أو كرهًا، وما زالت تأثيرات المعركة المنكشفة حتى اللحظة أقل بكثير مما سيتّضح لاحقًا حين تتهيأ ظروفه.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الرد الإیرانی طوفان الأقصى فی المنطقة على غزة أن الرد یمکن أن من جهة إلا أن ا یمکن
إقرأ أيضاً:
كتاب فرنسي جديد يكشف: غزة تحت الاحتلال.. مأساة إنسانية وتواطؤ دولي
سلط الكاتب الفرنسي فرانسيس غيل، الضوء، على آخر ما صدر من كتب عن المؤرخ الفرنسي جان بيير فيليو، Un historien à Gaza (مؤرخ في غزة) الذي سافر إلى غزة عدة مرات خلال السنين الماضية، وقضى شهرا في المناطق الفلسطينية من كانون الأول/ ديسمبر 2024 إلى كانون الثاني/ يناير 2025.
وأشار الكاتب عبر مقال له، إلى أن، المؤلف جان بيير فيليو، هو أستاذ دراسات الشرق الأوسط في معهد باريس للدراسات السياسية وباحث في مركز CERI الفرنسي المتخصص في الدراسات الدولية وزميل في مركز برشلونة للعلاقات الدولية CIDOB وزميل زائر في كينجز كوليج بجامعة لندن.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
شهد الأسبوعان الماضيان تغيراً ملحوظاً في لهجة زعماء كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، فيما بدا أنه طي لصفحة ما كان سائداً من قبل بينهم من تكرار للحديث عن أن لدولة الاحتلال الإسرائيلي الحق في الدفاع عن نفسها. هذا مع العلم أن عدداً من زعماء أوروبا الآخرين، وخاصة في إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا، تبنوا منذ وقت طويل موقفاً أكثر نقداً لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
والآن، يستخدم رئيس الوزراء البريطاني، السير كير ستارمر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني، تعبيرات أشد قسوة للتنديد بحرب دولة الاحتلال الإسرائيلي على أهل غزة، إذ راحوا يهددون بتعليق الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل. بل لقد قال المستشار ميرز، والمعروف عنه أنه من أشد المؤيدين للدولة اليهودية، إنّ: "ما تفعله الحكومة الإسرائيلية في غزة لم يعد بالإمكان تبريره بالقتال ضد حماس".
ينسجم هذا التبدل مع موقف الرأي العام، بل لقد فتح الباب على مصراعيه أمام جدل في ألمانيا حول ما إذا كان ينبغي عليها أن تستمر في تزويد إسرائيل بالأسلحة. تعكس هذا التغيير تغطية الإعلام الفرنسي للأحداث، فمؤخراً صار الإعلاميون والأكاديميون المنتقدون للسياسة الإسرائيلية يحظون بوقت أطول في البرامج التي تبث لتمكينهم من التعبير عن وجهات نظرهم. إلا أن هذه الكلمات لم تؤثر بعد في السياسة الإسرائيلية.
جاءت صور الأطفال الرضع الذين أصابهم الهزال وهم في أحضان أمهاتهم اللواتي لم يعد بإمكانهن إرضاعهم لتذكر المشاهدين بتلك الصور التي وثقت فتح معسكرات الإبادة الألمانية في عام 1945 والرعب الذي ظهر على وجوه الضباط الأمريكيين والبريطانيين حينما وقعت أعينهم على مشاهد لبشر تركوا في أوضاع أشد انحطاطاً من أوضاع كالحيوانات.
لسوف يتذكر الناس أواخر شهر مايو (أيار) 2025 باعتبارها اللحظة التي وجد الزعماء الأوروبيون فيها أن من المستحيل لفظياً الاستمرار في إنكار حقيقة تأكيد الزعماء الإسرائيليين، ما بعد هجوم السابع من أكتوبر والذي قتل فيه 1139 إسرائيلياً وأجنبياً، على أنهم سوف يخرجون 2.3 مليون فلسطيني قسراً من قطاع غزة.
كرس جان بيير فيليو، أحد أشهر المؤرخين الفرنسيين المتخصصين في المنطقة، كتاباً للحديث عما لا يعرفه كثير من الناس عن تاريخ هذا القطاع العجيب من الأرض. لغته منضبطة، وكلماته جراحية. ليس من النوع الذي يعبر صراحة عن المشاعر العاطفية، سواء في كتبه المنشورة أو في مقابلاته التلفزيونية.
جمله مصاغة بلغة فرنسية كلاسيكية لا تشوبها شائبة. يتكلم كما لو كان قاض يقدم خلاصة لقضية ما. تمكن في ديسمبر (كانون الأول) الماضي من السفر إلى غزة وأمضى شهراً هناك، حيث نزل ضيفاً على المنظمة غير الحكومية "أطباء بلا حدود".
من المعروف أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يمنع مندوبي الصحافة الدولية من الدخول إلى غزة، التي قضى نحبه فيها ما بين شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وشهر إبريل (نيسان) 2025 ما لا يقل عن 232 صحفياً، خمسة وعشرون منهم من النساء. طبقاً لما صدر عن لجنة حماية الصحفيين، يعادل الصحفيون الذين قتلوا في غزة ثلاثة أرباع أولئك الصحفيين الذين قتلوا حول العالم في عام 2023 وثلثي الصحفيين الذين قتلوا حول العالم في عام 2024.
يخلص فيليو إلى أنه "لا يوجد شك بأن الجيش الإسرائيلي وحده يتحمل المسؤولية عن الموت العنيف لأولئك الذين مهنتهم إعلام الناس." ولذلك يعتبر كتابه "مؤرخ في غزة" إدانة ساحقة لسياسة الانتقام التي تمارسها دولة الاحتلال الإسرائيلي والتي من شأنها أن تحولها إلى دولة منبوذة.
بينما ينتقل بالسيارة عبر شارع صلاح الدين، يشرح لماذا يتوجب عليهم أن يمضوا فيه ببطء، وذلك أن الناس الذين يسيرون على الأقدام بلغت منهم المعاناة والألم والقصف الدائم أنهم لم يعودوا يسمعون السيارات. على امتداد الطريق يقابل رجلاً مسناً يقول له إن مصيره أشبه ما يكون بمصير الشاة التي تُعلف بما يكفي لإبقائها على قيد الحياة إلى أن يحين موعد التضحية بها في العيد كل سنة. من بين معارفه القدامى، يحظى الشخص النازح في المتوسط بما لا يزيد عن متر ونصف المتر المربع ليعيش فيه – الفلسطينيون أشبه بمن تحطمت سفينتهم.
الرائحة الكريهة المنبعثة من أطنان من النفايات، ومحطات معالجة المجاري المدمرة، ونقص المياه، أمر لا يطاق. يذكرنا الكاتب بما عبر عنه البابا فرانسيس حين لخص الوضع في غزة قائلاً: "هذه ليست حرباً، بل ممارسات وحشية".
تتعرض المستشفيات بشكل ممنهج ومنتظم للقصف، ويموت الرضع بسبب البرد والجفاف والمرض، ويتم استهداف الأطباء والممرضين، وتدمر المدارس والجامعات، ويقوم الجنود الإسرائيليون عن عمد بتدمير الكتب والوثائق الأكاديمية. يتعرض الفلسطينيون "لعنف يليق بيوم الحساب.".
تم تدمير الكثير من المباني والكثير من الأسواق، حتى أن فيليو يفقد القدرة على معرفة المكان الذي يتواجد فيه. لا شيء مما شهده في أفغانستان وسوريا وأوكرانيا أعده لما يراه في غزة. وهذا يفسر "لماذا لا تسمح إسرائيل للطواقم الصحفية الدولية بالوصول إلى مثل هذا المشهد الصادم".
وفيما عدا ما تنشره صحيفة "هآريتز"، لا يرى الناس في دولة الاحتلال الإسرائيلي العنف اليومي الذي تتعرض له غزة. وحكومات أوروبا وأمريكا الشمالية "التي تحرص في العادة على الدفاع عن الحرية لا تفعل شيئاً من أجل حمل إسرائيل على تخفيف التعتيم الشديد الذي تفرضه." ثم يعرب فيليو عن دهشته إزاء قلة التعاطف في الغرب مع الضحايا المدنيين لحقول القتل هذه.
إنه لا يتغاضى عن الانقسامات المريرة ما بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهي الانقسامات التي تشجعها دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك الإمارات مؤخراً، والتي وقعت على عقد شراكة استراتيجية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
تتفادى دولة الاحتلال الإسرائيلي قضف المستشفى الذي شيدته الإمارات العربية في رفح، فتراه واقفاً لم يمسسه سوء وسط ركام المباني المدمرة من حوله. يزعم الإماراتيون أنهم يتصدرون "العمل الإنساني" في غزة، ولكنهم في الواقع يختبرون أعماقاً جديدة من المكر. يفهم فيليو أكثر من غيره مجريات الأمور داخل كل من حماس ومنظمة التحرير، بما في ذلك وسائل حماس الصارمة في فرض سيطرتها على قطاع غزة، والحكايات البائسة للاقتتال الداخلي، وتاريخ قوة النخبة داخل حماس، كتائب القسام.
كما يلاحظ أن من ينتسبون إلى الطبقة الوسطى من الناس لاذوا بالفرار من غزة، ويجد أن كثيراً من الشباب الفلسطينيين لديهم أكثر من مجرد الاستعداد للانضمام إلى حماس، وذلك على الرغم من تكبد قواتها خسائر جسيمة على يد دولة الاحتلال الإسرائيلي.
يمكن الاستدلال بأحداث مختلفة على تعطل القانون الدولي، ومنها: الاستراتيجية الحالية من قبل الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي والتي تقوم على خصخصة المساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة، وتشجيع دولة الاحتلال الإسرائيلي لرؤوس الإجرام مثل أبو شباب على مهاجمة قوافل المساعدات الإنسانية، وتجريف دولة الاحتلال الإسرائيلي للمقابر الإسلامية زاعمة أن ذلك وقع نتيجة لما تقول إنه "مجرد إهمال"، ثم لا يطول بها المقام حتى تعيد إلى المستشفيات في غزة شاحنات مملوءة بالجثث المجهولة المتحللة.
وبينما يتم التنصل من الالتزام بالقواعد التي تم الاتفاق عليها بعد عام 1945 وتحل محلها سيادة القوة الوحشية، ويتم التلاعب بوسائل الإعلام، ويوصف أعداء دولة الاحتلال الإسرائيلي بأنهم حيوانات، يلتزم الزعماء الغربيون الصمت، متجاهلين تراجع نفوذهم عبر العالم.
يخلص المؤلف إلى القول إنه "منذ السابع من أكتوبر 2023، تُركت غزة وأهلها في حالة من الاختناق بسبب مأزق ثلاثي الأبعاد – الانسداد في الحالة الإسرائيلية، والانسداد في الحالة الفلسطينية، والانسداد في الحالة الإنسانية. أما الانسداد الإسرائيلي فهو ناجم عن رفض دولة الاحتلال الإسرائيلي معاملة غزة إلا من وجهة النظر المتعلقة بأمن الدولة اليهودية، دون أي اعتبار للواقع الإنساني داخل غزة..
مثل هذا الخداع الذاتي لم يحل دون أن تشهد دولة الاحتلال الإسرائيلي أكثر الأيام دموية في تاريخها. وأما الانسداد الفلسطيني فناجم عن اهتمام الفصائل الفلسطينية بخدمة مصالحها الخاصة على حساب سلامة وتكامل الشعب الفلسطيني. وأما الانسداد الإنساني فناجم عما سبق ذكره، إذا لا فائدة من التظاهر بتقديم المساعدة على المدى البعيد لسكان لازالوا يحرمون من أي أفق سياسي ومازالوا يعيشون تحت رحمة سلطة محتلة".
لا مفر أن تكون الكلمات الأخيرة لبواتر سمولنار من مقاله المنشور في عدد العشرين من فبراير 2018 من صحيفة لوموند تحت عنوان "غزة على شفا الاختناق"، والذي يقتبس منه فيليو ما يلي:
"تمثل غزة لكل العالم نوعاً من المختبر الجنوني الذي يحاول فحص كم سيبقى مليونان من الخنازير الغينية على قيد الحياة داخل قفص زجاجي محكم الإغلاق.
لا تنهار غزة فقط على رؤوس "أهل غزة من النساء والرجال والأطفال. بل إن غزة تُسقط أعراف وأحكام القانون الدولي التي استغرق بناؤها كثيراً من الجهد عسى أن تتمكن البشرية من تجنب تكرار ما شهدته الحرب العالمية الثانية من توحش وهمجية".
بمعنى آخر، تفتح غزة الباب على "عالم خسيس.. تترك شؤونه ليتولاها شخص مثل ترامب ونتنياهو وبوتين وحماس"، إنه عالم جديد يتسارع تشكله بفضل تخلينا عن غزة.