د. عصام محمد عبد القادر يكتب: الوجدان بين الاهتمام والإهمال
تاريخ النشر: 6th, May 2024 GMT
ما نمتلكه من أحاسيس ومشاعر ندرك من خلالهما السعادة والألم والرغبة والعزوف والإيجابية والسلبية والإقبال والإعراض والاهتمام واللامبالاة والقوة والهوان والصمود والتراجع يكمن في الوجدان، ومن يعي ذلك جيدًا يدرك أهمية التربية الوجدانية التي تحض الفرد على الانضباط في السلوك والاتزان الانفعالي وتقدير الحاجات والاحتياجات وفق ضروريتها ومعلومية الحقوق والواجبات واحترام الآخرين والتعاون معهم في ضوء إيجابية تحض على الانخراط في المجتمع لتحقيق غايات سامية تؤكد ماهية الإعمار.
وإذا ما رغبنا في أن نكسب أبنائنا المتعلمين معارف ومهارات من خلال ما نقدمه لهم من مهام أنشطة تعليمية أو عبر محتوى تعليمي يعكس ما نصبو إليه؛ فإن هذا الأمر بات مرهونًا باهتمامنا المباشر وبصورة مقصودة بالجانب الوجداني وثيق الصلة بما نقدمه لهم؛ حينئذ نستطيع القول أننا زودنا المتعلم بشكل من أشكال الخبرة المتكاملة التي تضمن مجالات التعلم الثلاثة، ويُعد ذلك نجاحًا مبهرًا؛ حيث يتسق مع صحيح فرضيات ومبادئ التعلم البنائي؛ فيصبح متعلمنا مرنًا في استقباله لمفردات التعلم، ومتحملًا للمسئولة حيال تحقيق ما يرسم له من أهداف خططت لها أنشطة تعليمية بصورة مقصودة.
أصحاب الخبرة في الميدان يتوافقون على مُسَلّمة تجاه ما يؤدي إليه الجانب الوجداني لدى الفرد إذا ما تم الاهتمام به؛ فيصبح إيجابيًا متفاعلًا راغبًا في إقامة علاقات اجتماعية متزنة، يستطيع أن يتحكم في مشاعره وعواطفه، ومن ثم يتخذ من القرارات أصوبها وأفضلها؛ فيتمكن من أن يحقق إنجازًا تعليميًا غير مسبوق، وبل ويضع من البدائل ما يواجه به التحديات أو الصعوبات التي قد تقف حجر عثرة حيال اكتسابه خبرة ما، أو تحد من التعمق في مكونها ومكنونها، وفي ضوء ما سبق يكتسب متعلمنا الصحة النفسية التي تعينه على استكمال مسيرة التعلم وتحفزه كي يحدث الاستدامة المرتقبة في طلب مزيد من خبرات التعلم النوعية.
وفي ظل تفاقم استخدام وتوظيف التقنية الرقمية وتنامي الإنجذابات التي تمخضت عن فرط التواصل الرقمي؛ بما أفقدنا التركيز على جوانب الاهتمام بالعاطفة وما أدى لضعف تواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، وما نراه من سلوكيات باتت غريبة على مجتمعاتنا وخطرًا على مقومات بقاء الثقافة، وما نشاهده من ترك وتفريط تجاه تمسك شباب الأمة المصرية لميثاق القيم والمبادئ النبيلة التي نؤمن بها ونعتقد في نفعها المطلق لدعم الهوية المصرية؛ فقد أضحى الاحتياج لإيقاظ الضمير الجامع متوقفًا على اهتمامنا للجانب الوجداني لدى أبنائنا؛ لنصبح قادرين على مقاومة السلبيات المشار إليها سلفًا، ومن ثم ندشن سياجًا نحمي به ثرواتنا البشرية التي هي أغلى ما نمتلك.
إن الارتقاء الفكري وما يحدثه من تغير ملحوظ في المهارة أو الممارسة أو الأداء؛ لهو نتاج حقيقي للوجدان الذي ساعد في إشباع الاحتياجات وساهم في تنمية الثقة بالذات ولبى ماهية التكيف والتوافق النفسي لدى الفرد، وأكد على ضرورة التمسك بمقومات التفاؤل والبعد عن مسببات التشاؤم وأسباب الإحباط؛ لتتوافر معايير الصحة النفسية التي حوت في مكونها على صحة العقل والبدن؛ لشخص يسدد ويقارب ولا يغالي ولا ينحرف بتفكيره لمنحى توجه بعينه؛ فجودة الحياة بالنسبة له غاية يضع لها أهدافه المستقبلية، بما يجعله يستحسن طرائق وأساليب التعاون والمشاركة؛ ليتأكد في نفسه ضرورة تعضيد روابط التواصل مع الآخرين.
ولندرك أن ثمت محددات يتوجب توافرها كي نتمكن من تنمية الوجدان في إطاره ومساره الإيجابي؛ حيث إن المهددات تعرقل بلوغ الفرد لأن يصبح مبتكرًا أو يمتلك كفايات الرضا النفسي أو التعليمي أو الوظيفي؛ فنحن نريد دون مواربة أن تنمو نفسيات أبنائنا نموًا صحيحًا؛ فلا تحاط بمشكلات واضطرابات نفسية أو تتمحور في السلوك الظاهر والخفي منه، ونرغب في أن تحدث تكيفات تقوم على شباع احتياجات وجدانية تؤدي لتعظيم ماهية العطاء والمحبة والانتماء لكيان الأسرة وحضن الوطن وفق فلسفة الولاء والإخلاص في القول والعمل بما يسهم في أن يكون شريكًا فعليًا في النهضة والإعمار.
وعلى كل حال لا يتوقف الاهتمام بالوجدان عند حد مساعدة الفرد على ضبط السلوك واكتساب الخبرات المربية العلمية والعملية والحياتية منها أو على الإنتاج والالتزام بقواعد النظام العام أو المؤسسي؛ لكن الأمر مرتبط بأن تنمو لديه أحاسيس ومشاعر عبر حواسه المختلفة؛ فيصبح له سمع واعٍ وبصر ناقدٍ وملامسة للبواطن وحديث له مذاق؛ فيستمتع بمفردات الطبيعة وجمالها، ويبحر في تفاصل الكون المُعجز، ويقرأ تفاصيل الأحداث ومجرياتها بفهم عميق وتدبر وتأمل، وتبدو ملامح الجمال محيطة في ظاهره وجوهره، وتلكما الشخصية السوية التي نسعى بكل ما نملك أن نوجدها.. ودي ومحبتي.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
حجاج بعدسة الهاتف.. توثيق رحلة العمر بالصورة والكلمة.. سيلفى فى الحرم بين لحظة الخشوع وذاكرة الكاميرا.. ضيوف الرحمن لـاليوم السابع: نوثق أسعد أيامنا.. أبنائنا يسعدوننا بالفيديوهات وهى جزء من طقوسنا اليومية
في كل موسم حج، تحضر مشاهد الإيمان والخشوع بقوة، لكنها باتت تتجاور اليوم مع مشاهد من نوع مختلف تمامًا، تحمل طابعًا عصريًا يوثق التجربة من زوايا لم تكن مألوفة قبل سنوات.
فكاميرات الهواتف المحمولة تحولت إلى رفيق لا يغيب عن أي خطوة في رحلة الحجاج، والصور الذاتية "السيلفي" أصبحت جزءًا من سرد الحكاية التي يرويها كل حاج على طريقته.
منذ اللحظات الأولى لانطلاق الرحلة، يظهر حرص كثير من الحجاج على توثيق كل تفصيل، في المطارات، في الحافلات، وأثناء الإحرام، تلتقط الصور تباعًا وكأنها مشاهد سينمائية متسلسلة.
وعند الوصول إلى الأراضي المقدسة، يتحول الهاتف الذكي إلى عين ثالثة لا تنام، تتابع الطواف والسعي، وتسجل دعوات الحجاج ودموعهم وهم يقفون على صعيد عرفات، أو أثناء رمي الجمرات في منى.
في لقاءات أجراها موفد اليوم السابع بالأراضي المقدسة مع عدد من الحجاج، عبّر كثير منهم عن رغبتهم في أن يحتفظوا بكل لحظة من هذه الرحلة التي قد لا تتكرر مرة أخرى.
يقول حاج خمسيني إنه أراد أن يشارك أبناءه هذه اللحظات العظيمة، فكان يصور مقاطع قصيرة يرسلها إليهم أولًا بأول. يضيف أن ابنه الأصغر، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة، كان يتابع كل فيديو ويطلب منه أن يصور أماكن بعينها في الحرم ليراها.
أما حاجة أخرى فأنشأت مدونة مصغرة على منصات التواصل الاجتماعي، توثق فيها يوميات الحج منذ لحظة الاستعداد في مصر حتى وصولها إلى مكة والمدينة.
تقول إنها شعرت أن هذه الرحلة تمثل "رحلة العمر" فعلًا، وكان من الطبيعي أن توثقها بكل ما تستطيع، لتبقى الذكرى حية في قلبها وقلب من تحب.
لكن الظاهرة لم تمر دون جدل، فهناك من يرى أن الإفراط في التصوير، خصوصًا في أوقات المناسك الكبرى، قد يشتت الحاج عن التركيز والخشوع.
ويرى البعض أن التوثيق ليس في حد ذاته مخالفًا، لكنه يصبح مشكلة حين يتحول إلى شاغل دائم للحاج، ويأخذ من وقته وجهده وتركيزه، وأن بعض الحجاج يلتقطون عشرات الصور في وقت الوقوف بعرفة، وهو وقت يعد من أشرف اللحظات في عمر المسلم، وكان الأولى أن يُستثمر في الدعاء والذكر لا في ترتيب زوايا التصوير.
وفي مقابل هذا الرأي، يرى آخرون أن التوثيق بات جزءًا من ثقافة العصر، ولا تعارض بين العبادة وبين تسجيل اللحظات المهمة. فالحاج، في نظرهم، يملك الحق في أن يحتفظ بما يساعده على تذكر تلك اللحظات، ومشاركتها مع من لم ينالوا فرصة الحج بعد.
اللافت أن بعض الحملات المنظمة للحج أصبحت تتجاوب مع هذا التوجه الجديد، حيث تقوم بعض الشركات بتوفير خدمات تصوير احترافية للحجاج، أو تنظيم جلسات تصوير تذكارية في مواقع رمزية، مع التأكيد على احترام خصوصية المناسك وعدم الإخلال بأجواء العبادة.
من جانبها، أطلقت وزارة الحج والعمرة في السعودية عدة حملات توعوية على مدار السنوات الماضية، تحث الحجاج على الالتزام بالضوابط الشرعية والتنظيمية خلال التصوير، خاصة في المناطق المزدحمة أو أثناء أداء المناسك الجماعية، حفاظًا على النظام العام وسلامة الجميع.
ويرى البعض أن هذه الظاهرة قد تتطور في المستقبل لتصبح جزءًا من منظومة تنظيمية، حيث يمكن للحاج أن يوثق رحلته بطريقة منظمة، دون أن يتسبب ذلك في أي إرباك أو إخلال بالمناخ الروحي العام، بل وربما تصبح الصور والفيديوهات لاحقًا جزءًا من أرشيف رقمي عالمي يسجل مشاعر ملايين المسلمين في بقاع الأرض أثناء أدائهم هذا الركن العظيم.
تتفاوت الآراء بين مؤيد يراها ذاكرة مرئية تبقى للأجيال، ومعارض يخشى أن تُفقد الرحلة طابعها الروحاني، لكن المؤكد أن الحج اليوم ليس فقط رحلة روح، بل أيضًا رحلة توثيق ومشاركة، تسافر فيها المشاعر والإيمان والعدسات معًا، وتحمل كل صورة قصة، وكل مقطع فيديو دعاء.
مشاركة