لجريدة عمان:
2025-12-14@18:06:37 GMT

هل كلامُنا رجيعٌ مكرورٌ؟

تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT

«سُحقا لمن سبقونا فقد قالوا ما قُلْنا»، دوما كنتُ أتساءل عن نظرة التصغير والتقليل لِلاّحق منظورا إليه في ميزان السابق، وكانت اللّغة هي المدخلُ الرئيس لإظهار أنّنا محضُ أصداء لأصُولِ أصواتٍ تأسّست معانيها ومبانيها منذ أمدٍ، وكلّما تقدّمنا في الزمان فَقَدْنا أُلْق الأشياء، وبكارة المعاني، فهل يسير الأمر هكذا، أي على الشكل الذي عبّر عنه ابن رشيق في محنةِ الصراع بين القديم والمُحْدث، في مقام التنازع بين أفضليّة السبْق للشعر الجاهليّ وما نحا نحوه من شعرٍ شبيهٍ، ودونيّة الشعر المُحْدث باعتبار تأخّره الزمني وصناعته في زمن قد استقرّت فيه المعاني على الألفاظ، وأتى الأقدمون على ممكن المعاني، ولم يترك للاّحق إلاّ فَضْلة، على قولِ الفرزدق: «إنّ الشعر كان جملًا بازلًا عظيمًا فنُحر، فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وزهير كاهله، والأعشى والنابغة فخذيه، وطرفة ولبيد كركرنه، ولم يبق إلا الذراع والبطن فتوزّعناهما بيننا»، وقوله هو إعلانٌ انتهاء الجدّة في ابتكار المعاني الشعريّة، كما أعلن دُعاة الأخلاق اكتمال الأخلاق وتحقّق نموذجها الأوفى، وكما ادّعى الفقهاء انتهاء النظر الفقهيّ واكتمال مدوّنته، فصدّوا بابَ الرأي، وفتحوا باب الاقتداء والاحتذاء.

وهي فكرةٌ خطيرةٌ متى سادت وصارت يقينا واعتقادا، فالقدماء ليست لهم أسبقيّة الزمن، وإنّما كانوا مجيدين في فضاءاتهم ومقاماتهم التي احتوتهم وتأثّروا بها، ولم يأكلوا كلّ المعاني، ولم يأخذوا الجَمَل بما حمل، وإنّما فيهم الغثّ وفيهم السمين، والسمين منهم في أدبه غثّ وسمين، فأشعار الأعشى وزهير وامرؤ القيس وغيرهم هي أشعارٌ قليلة المعاني وفيرة الألفاظ، لا تصنَع معجزةً في القول لا تُؤتَى، ومعانيهم -كما ذكر ذلك أغلب الدارسين- هي معان سطحيّة، فتبقى أشعارهم ذات مرجعيّة تأصيليّة تأسيسيّة، وحسبُها أن تكون كذلك. إنّ فكرة أنّ الأوائل قد أتوا على جامِّ المعاني، ولم يتركوا لنا ما به نُعبّر خارج دوائرهم هي الفكرة العقيدة التي أغلقت باب الاجتهاد في تاريخ الفكر العربيّ، وأدّت بالفكر العربيّ إلى التآكل والذوبان والاجترار، ثقافة الاجترار جلبت إلينا ثقافةً سادت هي ثقافة الاستحمار لخلْق شعوب لا تؤمن بذاتها، وإنّما ترى أنّها تُواصل طريقا قد مُهِّدت وتأسّست وانتهت على قول ابن رشيق في كتابه «العُمدة»: «أنّ مثل القدماء والمُحدَثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثمّ أتى الآخر فنقشه وزيّنه»، يقتصرُ دورنا على التزيين والتجميل دون الابتكار والابتداع والاختراع (يُمكن لهذا السبب كانت فكرة الإبداع في الفكر العربي مرفوضة) وهذه فكرةٌ خطيرة جدّا، فالإنسانُ باقٍ دوما على اجتراح المعاني، وعلى مواجهة المعاني الحادثة التي لم تكن في الزمن الماضي. ولذلك فإنّ المقولات التي يُردّدها أنصار الإيمان بأنّ فكرنا هو رجيعٌ وتكرار وإعادةٌ على هيئة قولة قيتغنشتاين السابقة «سحقا لمن سبقونا فقد قالوا ما قلنا» وعلى هيئة ما قاله زهير بن أبي سُلمى (وهو صادقٌ في قوله باعتبار نُدرة المعاني وقلّتها في الفضاء الجاهليّ الذي كان يعيشه): ما أرانا نقولُ إلا رَجِيعًا/ ومُعادًا من قولِنا مكْرُورا. وفي رواية أخرى: ما أرانا نقولُ إلا مُعارًا/ أو مُعادًا من قولِنا مكْرُورا. أو قول عنترة: هل غادر الشعراء من متردّم /أم هل عرفت الدار بعد توهّم. وقس على ذلك من أقوالٍ يُرسّخها الفكر العربيّ تحديدا على أنّنا في زمن دائريّ قائم على الاستعادة، ومبنيّ على أنّ الرجوع إلى الماضي هو الفضيلة المُطْلَقة، وأنّ كلّ انفصالٍ عن الماضي هو الضلال والفراغ والانبتاتُ، هي مقولاتٌ دالّة على عقليّة سائدة في التفكير العربيّ لا ترى الزمن يسير بشكل خطّي إلى الأمام، بل تراه دائريّا، فضْل اللاّحق في استعادة السابق أو في البقاء في جُبّته. لقد فوجئت بابنتي عندما شبّت تسألني في غرابةٍ ودهشة، تقول: «ما أصْبَركم تجلسون فارغي الاهتمام تُنصتون إلى أغنية تدوم ساعتين، تُعيد فيه المغنيّة الجملة عشرين مرّة»، أو تقول: «من هذا الذي يطرب لعبد المُطّلب وهو يُكرّر ويعيد «حبّيتك وبحبّك وححبّك على طول»، أو كيف تطربون لأغنية تقول «ساكن في حيّ السيّدة وحبيبي ساكن في الحسين»، وتضحك منّا وتتعجّب، فأجد في كلّ ملاحظاتها منطقا ووجاهة، نحن من جيلٍ آخر يحبّ أن يشمّ أوراق الكُتب، لا يتفاعل كثيرا مع الكتاب الإلكتروني، لأنّا ارتبطنا مع الكتاب ارتباط وجود لا ارتباط تحصيل معرفة فقط، غايتنا منه ليست نفْعيّة فحسب، وإنّما علّمونا أنّ الكتاب هو الصديق وقت الضيق، وأنّه نِعم الرفيق. ولكن يجب أن نفهم أنّ هذا الجيل ينحت معانيه التي تخصّه، والتي تجعله يَسْخر ممّن يجلس لساعات يُنصت لأسطوانات مكرورة، أو يتصفّح كتبا صفراء بالية. هذا الجيل لا يُكرّر معانينا وإنّما يبني معانيه ويبني عوالمه التي ستصبح لاحقا بالية وقديمة، نحن نسير في خطّ مستقيم، لا حظّ فيه للتكرار، إلاّ إن فَهمْنا التَكرار بالمعنى الفلسفي النقدي الذي فيه يكون جوهر الإنسان قائما على معاني جوهريّة -وفق عبارة حازم القرطاجنّي- هي المعاني التي تتحكّم في وجود الإنسان في صورتها المطلقة، مثل الحبّ والكراهيّة، والغضب، الكُره، السعادة، الحزن، وهي المعاني الجوهريّة التي يعمل الإنسان على إخراجها في أشكالٍ تُظهرها. الفكر الحديثُ يقرّ ألاّ وجود لشيء مُكرَّر، لا أقوال تتكرّر وتُعادُ لسانيّا، وإن أعدنا نفس العبارة، فقد أعادها متكلّم مختلف في مقام مختلف وفي زمن مختلف، يُصبح التكرار إعادة صياغة، ونحن نعيد صياغة أنفسنا كلّ يوم بشكل جديد. إنّ مقولة مثل مقولة م. بلانشو في كتابه «الحوار اللامتناهي»: «من ذا الذي سيُولي عنايته لقولٍ جديد، قول لم يُنقل؟ ليس المهمّ أن نقول، وإنّما أن نكرّر القول، وفي هذا التكرار، أن نقوله مرة أخرى أوّلَ مرة»، يتلقّفه دعاة الفكر الدائري على أنّه إثباتٌ وتثبيتٌ لفراغ معانينا وجواهرنا، وأنّ عمْقنا في استعادة ما قيل، والحقّ أنّ المقولة أعمق وأنفذ، فالجدّة وابتكار المعاني حاصلة في نسق معرفيّ قائم. محمود درويش على سبيل المثال، وهو صنّاع المعاني، فاتق المباني، مخترعٌ في الشعر أبوابا لم تكُن فيه، هو سُلالة حركةٍ شعريّة كاملةٍ انطلق منها حتّى يُنْفِذ جديده، ويُلقي مِنْ فيه كُبّةً من الشعر لَم تُلْق في فَم غيره من الشعراء القدامى. هامّ جدّا أن نخرج من جبّة الماضي ونحن فيها، أن ننقدها ونحن آتون منها، وأن نخرج من فكرة أنّ الخلاص ماثلٌ في الاقتراب من القديم وفي استرجاعه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الفکر العربی وإن ما

إقرأ أيضاً:

مطار صلالة.. البوابة التي لم تُفتح بعد؟!

 

 

 

خالد بن أحمد العامري

 

يتكرر الحديث في المجالس العامة ومنصات التواصل الاجتماعي حول مطار صلالة وأسعار التذاكر، وتتسع التساؤلات حول سبب بقاء الوضع على ما هو عليه رغم مناشدات المواطنين، ورغم الإمكانات الكبيرة التي يمتلكها المطار وما يمكن أن يرفد به الاقتصاد الوطني.

المطار يتمتع بطاقة استيعابية تصل إلى مليوني مسافر سنويًا، مع جاهزية بنيوية وتقنية لرفع هذه القدرة مستقبلًا إلى أكثر من ستة ملايين مسافر، ما يجعله أصلًا استراتيجيًا غير مستغل بالشكل الذي يتناسب مع مقوماته الحالية. كما يُعد ثاني أكبر مطار في سلطنة عمان بعد مطار مسقط الدولي، وحائز على تصنيف خمس نجوم للمطارات الإقليمية من "سكاي تراكس" (Skytrax) نظير جودة خدماته.

لقد أصبح واضحًا أن المشكلة لا تكمن في «الجدوى الاقتصادية» كما يشاع؛ بل في منهجية التخطيط التي تحد من نمو القطاع وتقلل الاستفادة من الإمكانات المتاحة؛ فعند مطالبة المواطنين بخفض أسعار التذاكر على خط صلالة- مسقط، تأتي الإجابة بأنه "خط غير مُربح". ومن حق المواطن هنا أن يتساءل: كيف يمكن لخط داخلي يعتمد عليه الآلاف في الاتجاهين يوميًا أن يكون غير مرُبح؟

وإذا كان البعض يرى أن هذا الخط غير مُجدٍ اقتصاديًا، فإن الحل المنطقي هو فتح المجال أمام مشغل اقتصادي ثالث يتخذ من مطار صلالة مركزًا لعملياته؛ بما يعزز المنافسة ويخفض الأسعار، ويخلق ربطًا جويًا أوسع على المستويين الإقليمي والدولي.

ويمتلك مطار صلالة مقومات مهمة تؤهله ليصبح مركزًا محوريًا للربط الجوي بين مناطق ذات كثافة سكانية وتجارية عالية، وخاصة شرق إفريقيا وشرق آسيا ودول الخليج العربية.

كما إن عقد شراكات في مجال الطيران والخدمات اللوجستية، إضافة إلى برامج تحفيز الاستثمار، كفيل بتحويل مطار صلالة إلى مركز دولي ومحوري أمام شركات الطيران المختلفة، مما سيسهم في خلق فرص عمل واسعة في الوظائف المباشرة لقطاع الطيران والخدمات المساندة، وكذلك الوظائف غير المباشرة في السياحة والنقل والشحن والخدمات الملاحية، وزيادة عدد السياح طوال العام وليس فقط خلال موسم الخريف.

وفي هذا السياق، فإن إنشاء ورشة لصيانة الطائرات داخل المطار، إلى جانب مبنى تموين الطائرات، سيجعل من مطار صلالة محطة تشغيلية مكتملة، وهو ما من شأنه تشجيع شركات الطيران الاقتصادية والإقليمية على اتخاذه مقرًا لعملياتها.

أما على مستوى الشحن الجوي، فإنَّ إنشاء قرية لوجستية متكاملة داخل المطار سيرفع طاقة الشحن ويعزز التكامل اللوجستي مع ميناء صلالة، بما يحولهما معًا إلى منظومة واحدة تدعم سلاسل الإمداد العالمية وتعزز موقع السلطنة على خارطة التجارة الدولية. فرغم أن توسعة ميناء صلالة خطوة مهمة، إلّا أنها تبقى ناقصة دون ربطها بمركز شحن جوي فعال داخل المطار.

إنَّ تحقيق هذه الرؤية لن يكون مجرد تحرك اقتصادي؛ بل خطوة استراتيجية لتعزيز مكانة الاقتصاد الوطني، ورفع كفاءة منظومة النقل، وتحقيق مستهدفات رؤية «عُمان 2040»؛ فمطار صلالة يحتاج إلى قرار يطلق إمكاناته الكامنة؛ ليصبح بالفعل البوابة التي تفتح آفاقًا اقتصادية واعده.

مقالات مشابهة

  • مطار صلالة.. البوابة التي لم تُفتح بعد؟!
  • إسلام عيسى: حماس علي ماهر غير طبيعي.. والحديث عن تفويته للأهلي «كلام مُضحك»
  • «لا تسمع كلام الشامتين»| شريف منير ينضم لصوت «السقا»: كلنا بنحبك يا صلاح والعالم كله معك
  • فلنغير العيون التي ترى الواقع
  • إعلاميون من أجل الحرية توضح كلام رئيس الجمهورية: لتوخي الدقة في نقل الاخبار
  • فكرة غير موجودة.. جنش يعنرض على اتهامات التفويت لمصلحة الزمالك
  • ياسمين عبد العزيز: الشهرة تمنعني أخرج مع أي شخص خوفًا من كلام الناس
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • برّي يرفض كلام برّاك.. السفير الاميركي: المفاوضات المباشرة هي مدخلٌ للحلّ
  • سرقة فكرة أم توارد خواطر؟.. يوتيوبر يلاحق الإعلامية منى عبد الوهاب قضائيًا بتهمة الاستيلاء على برنامجه