السُّودان: دبلوماسية الصّمت خيرٌ من دبلوماسيةِ الانفعال
تاريخ النشر: 23rd, June 2024 GMT
جمال محمد ابراهيم
(1)
ضاعفتْ المواجهات العسكرية، وقتل المدنيين بصورة متواترة ، إلى تقليـص فُـرصِ اداء فاعلٍ للدبلوماسـية السّودانية مقابل تصاعد الأداء العسكري المدمّـر للـبلاد. يكفـي أن نرى القـنـوات الفضائية تبثّ تهافـتا دبلوماسياً ، ما كان سيحدث ولا يتوقّع أنْ يصل إلى ما وصل إليه، ما شهدناه في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن، حـول الحــرب في السّـودان، بين ممثلي دولتيـن عربيتين، هُـما السّودان والإمارات.
لعلّ أولى الملاحظات هنا، تتصل باستعجال الطرف الذي سارع برفع الخلاف بين الطرفين إلى مجلس الأمن للنظر في ما اشتكى منه الطرف السوداني من تدخل لدولة الامارات لصبِّ الزّيت على نار الحرب الدائرة في السودان. إن العجلة هي ما مثلتْ تجاوزا من طرف الدبلوماسية السودانية للمنصات الإقليمية المتاحة لرفع مثل تلك الشكوى إليها وأولها هي الجامعة العربية .
وثاني الملاحظات هو الذي مثلته تجاوزات الدبلوماسية السودانية ، في عدم صبرها على الوسائل الدبلوماسية الثنائـية التي تتيح للبلدين مستويات عـديدة من التعامل الحصيف الجاد. لقد كان من الممكن إحتواء مثل تلك الخلافات عبرها ، خاصة لما بين بلدين لهما من علاقات الأخوة الثنائية والتاريخية العميقة، لو تم استصحابها وتفعيلها ، لما كانت ثمّة ضرورة لرفع الخلاف إلى منصّات الجامعة العربية، ناهيك أن يصل إلى الأمم المتحدة ومجلس أمنها.
(2)
لعلّ استعجال حكومة الأمر الواقع السودانية تصعيد شكواها إلى مجلس الأمن ضد دولة تشاد لتدخلها في حرب السودان الدائرة الآن ، وهي دولة تقاسم السودان حدودا تبلغ آلاف الكيلومتراتلم يكن متوقعاً . لربما كان من الممكن معالجة أمر ذلك الخلاف واحتواءه لو أتيح للدبلوماسية الثنائية بين السودان وتشاد، أن تقوم بدورها للحفاظ على علاقات الأخوة الأفريقية والجوار، وأن لا تعمد لتصعيدها، وللسودان تاريخ أبوي ناصع في استقرار دولة تشاد. والأمر نفسه بقال عن علاقات السودان ودولة أفريقيا الوسطى ، وهي الطرف الثالث الذي طاله اتهام مستعجل للتدخل تأثيرا غير مرغوب في الحرب الدائرة في السودان وفي دارفور التي تتاخم أراضي دولة تشاد.
ولك أن تعجب لمه لم تعمد حكومة الأمر الواقع في السودان على إقحام دولة ليبيا في الشكوى المرفوعة لمجلس الأمن ، إذ من الشواهد لعديدة ما قد يثبت تهاون السلطات الليبية إدخال سيارات دفعٍ رباعي بالآلاف وليس المئات عبر الحدود الليبية السودانية إلى داخل السودان ، ومعروف تاريخ الجوار السوداني الليبي الذي شهد هذا النوع من التدخّلات . غير أن الدبلوماسية السودانية نجاهلت اتهام ليبيا ، ربما لحسابات تخصّ علاقاتها مع طرف من الأطراف التي تتنازع على الحكم في ليبيا .
(3)
لسنا هنا بصدد إثبات حقيقة أو خطل تلك الاتهــامات التي أعلنها السودان، وهـو يتقاتل مع نفسه على حساب مواطنيه، ولكن الذي يلفت النظر هو ما نرى من ضعف في تفعيل التواصل الدبلوماسي بين السودان وتلك الدول التي رفعت حكومة الأمــر الواقــع شكواها ضدها إلى مجلس الأمن . من الأعراف الدبلوماسية ما يتيح تدرّجاً معلوماً تتمّ عبره معالجة ما ينشب من خلافات بين الدول . عند بدء مثل تلك الخلافات مثلاً، يقع التنبيه عبر تبادل رسائل خاصة بحكم وجود التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين المختلفين، ثم يرتفع مستوى التواصل بايفاد مبعوثين إن اقتضى الحال . أمّا إن استعصى الأمر بعد ذلك، فيكون المجال مفتوحاً لوساطات أخوية ممّن لهم صلات بين تلك الأطراف ، أو أن تلجأ الأطـراف لحل خلافاتهما باللجوء إلى المنصّات الإقليمية التي تجمعهم لتلافي التصعيد، وتبقى بعد ذلك منصّة الأمم المتحدة آخر ما يشتكى إليه.
فيبقى السؤال المحيّر : لماذا هرع السودان في استعجالٍ دبلوماسي قد لا يكون مبررا، للشكوى لدى الأمم المتحدة ، دون استنفاد الخطوات الأخرى المتاحة. .؟
(4)
لو كانت للجامعة العربية أدوارٌ في معالجة الخلاف بين السودان ودولة الإمارات ، لما وجدت حكومة الأمر الواقع ما يدفعها للشكوى للأمم المتحدة ، إذ الخلاف بين دولتيـن عربيتين تجمعهما تاريخيا علاقات عميقة من التعاون والشراكات بحكم روابط العقيدة واللسان والثقافة. ربما وقوع حرب غزة بعد نحو ستة أشهر من حرب السودان، قد شغل الجامعة العربية ، والخشية أن تكون لبعض أعضاء تلك الجامعة من يرى منطقا في تفاوت التعامل مع بعض دولها بحكم تصنيف لا تخرجه الألسن، عن دول في المركز وأخرى في الهامش فوقع نسيان أو تناسي حرب السودان . لكننا لم نشهد توجها في ذلك الاتجاه ، ولا سمعنا من حكومة الأمر الواقع في السودان تململاً أو استياءاً ، بل تابع الجميع إسراعها للشكوى لدى مجلس الأمن ، لنشهد نوعا من الدراما الدبلوماسية المحزنة باستعراض لم يكن مناسبا أن يقع تحت قبة الأمم المتحدة .
ولك أن تسأل عن الاتحاد الأفريقي وهو المنظمة السياسية الاقليمية التي تجمع السـودان مع دولة تشاد وأفريقيا الوسطى وبقية دول غربي أفريقيا، إذ لا تجد له دوراً مؤثرا بحكم ما اتخذ من قرار حاسم بتجميد عضوية السودان لإثر وقوع انقلاب عسكري لا يجيز الإعتراف به ميثاق ذلك الإتحـاد. .
(5)
وهكذا وجدتْ دبلوماسية السودان والبلاد في حرب مع نفسها طابعها أفريقي ، تتعامل مع ظرفٍ أفضى بها إلى ما يشـبه العـزلة في إقلـيمها. يستعصِي عليها التعامل لايجــاد حلول لحربها العبثية تحت مظلة المنظمة الأفريقية، بحكم تجميد عضويتها فيه ، فيما ترى تتناسى الجامعة العربية السودان بحكم أزمة طابعها أفريقي لا تعـنـيها كبيـر عناية ، فـيمـا انشغالها بأمر حرب اسرائيل ضدّ فلسطين بات أدعى.
غير أنّ تلك العزلة كما هو واضح ، تسبّب فيها السودانيون أنفسهم، إذ بتساهل تعاملهم مع بعض أطرافٍ خارج حدود بلادهم ، خاصّة بعد إســقاط نظام الطاغـية البشـير، منحتْ تلك الأطراف فرصاً للتأثير في مجريات الحرب لتتسع دوائرها ، فكأنها صارت حـرباً إقليمية بين أطراف أجنبية ذات مصالح، مثلما فيها من أجندات تحـرّك من بعـيد طرفي الحرب في السّودان، بخيوطٍ من تحالفات خفية ، جعلتها تتواصل، يوما بعد يوم وشهراً بعد شهر، ليكون احتمال ترشــيحها للتـدويل، أقرب من إمكان إيقـافـهـا.
(6)
لكن لا بدـَّ من ملاحظةٍ هــامّة ، تتصل بأداء دبلوماسية السّـودان في هذا الصـدد.
لعلّ المتابعين لمسوا كيف نال اتساع دائرة الحرب من انهيار مؤسّسات الدّولة كـافـة ، بما فيها ومنها جهاز الدبلوماسية السّـوداني الذي تمثله وزارة الخارجية. لقد ظلّ أهـمّ دور لتلك الدبلوماسية، يتمثّل في تقديمها النّصح لصاحب القرار السياسي الأوّل في إدارة علاقات السودان الخارجية. غير أنَّ صاحب القرار السياسي هنا، هـو ما يسـمّى المجلس السّـيادي. ذلـك مجلس بات هيكلا يتهاوى تماسكه بسبب تشتت التصريحات وتضارب البيانات تصدرَ على ألسنة أعضـائه، الشيء الذي أربك أداء تلـك الدّبلوماســية لـيـراها المراقـبون، تابعـاً لبعض قـراراتٍ فطـيرة، لا ناصحاً يُعـيـن في ضبط رصانتها صياغة ومحتوى . تنظر في أحوال معظم بعثات السودان الخارجية، لتجد أنّ الصوت الأعلى من بين أغلــب أصوات سفرائها، هو صوت ممثل السودان في الأمم المتحدة ، يصـارع بأسـلوب انفعـالـي يضـرّ بمنطق شكواه أكثر ممّـا ينفعها . ولنا أنْ لا نلومه الـلوم كله على انفعاله، فـهـو دبلوماســيٌّ قد انقطع عن مهنـته لأكثر من عشرين عاما.
وَيبقىَ التساؤل ماثلاً حول أحول السّـودان الذي كان رقـمـاً مؤسّـساً ومؤثراً عـلى المستويين العــربي والأفريقي والدولي، ولعقودٍ طويلة منذ استقلاله عام 1956م ، فإذا هـو الآن ريشة تتخطفـها رياح الطامعيـن قبل الأبعـدين، وشعبها بين نازح ولاجيء ومقتول .
القاهرة – 21 يونيو/حزيران 2024
jamalim@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: حکومة الأمر الواقع دبلوماسیة السودان الجامعة العربیة الدبلوماسیة الس الأمم المتحدة دبلوماسیة الس فی السودان مجلس الأمن دولة تشاد فی الس
إقرأ أيضاً:
السودان ومجلس الأمن الدولي: سبع جلسات في الأشهر الستة من هذا العام، ماذا هناك ؟
إذا تجاوزنا حساب الجلسات التي عقدها مجلس الأمن الدولي، بخصوص السودان، خلال العام 2024، فإننا نلاحظ أن المجلس خصص لموضوعات السودان، منذ بداية هذا العام، نحو سبع جلسات أو يزيد، إذ لم يكد يمضي شهر من الشهور الستة الماضية، إلا وتم عرض موضوع السودان على أنظار المجلس، مع ملاحظة أن المجلس خصص في مايو الماضي جلستين لموضوع السودان، الأمر الذي يثير أكثر من علامة استفهام حول المقصد النهائي الذي ترمي إليه “حاملة القلم”، حكومة المملكة المتحدة، من وراء ذلك.
آخر جلسة عقدها مجلس الأمن حول السودان كانت يوم الجمعة الماضي، وكانت من شقين، جلسة مفتوحة و أخرى مغلقة، بحث فيهما تطورات أوضاع السودان وخصص غالبية مداولاته فيها للأوضاع الإنسانية.
و تأتي جلسة الجمعة الماضية ضمن سلسلة طويلة من الجلسات العلنية و المغلقة ظل يعقدها المجلس منذ اندلاع الحرب فى السودان و بصورة مكثفة خلال هذا العام، كما أشرنا، دون الخروج بنتائج ملموسة تفضي إلى إنهاء الحرب و المعاناة الإنسانية للملايين من النازحين و المحاصرين من خلال الضغط على مليشيا الدعم السريع المتمردة و رعاتها الإقليميين، وإلزامهم بوقف تقديم الدعم العسكرى و اللوجستي للمليشيا.
ويرى مختصون في شؤون مجلس الأمن، أن السبب الرئيسي وراء عجز المجلس عن اتخاذ خطوات و قرارات أكثر حسماً تجاه المليشيا و تصنيفها كجماعة إرهابية، ومعاقبتها على عدم تنفيذ قراراته، يعود إلى للنفوذ الكبير للراعية الاقليمية للمليشيا، وعلاقاتها المتشعبة مع عدد من الدول دائمة العضوية فى المجلس، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
متحدثون راتبون
خلال الجلسات المتتابعة للمجلس، طوال الأشهر الستة الماضية، يتم التركيز على الجوانب الإنسانية والمعاناة التي يتعرض لها السودانيون جراء الحرب، وغالباً ما تتحدث مساعدة الأمين العام لشؤون أفريقيا في إدارة الشؤون السياسية وبناء السلام وإدارة عمليات السلام، مارثا أما أكيا بوبي، ومساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، توم فليتشر، والمبعوث الشخصي للأمين العام للامم المتحدة إلى السودان، رمضان لعمامرة، كما درج المجلس على الاستماع لمن يسميهم “ممثلي المجتمع المدني” وهم في الغالب، ناشطين، تمولهم منظمات دولية.
وفي حال كان موضوع إحدى هذه الجلسات مخصصاً للقضايا الصحية مثلاُ يخاطب الجلسات المدير العام لمنظمة الصحة العالمية أو أحد مدراء منظمة أطباء بلا حدود.
ردود السودان
وما لم تكن الجلسة مغلقة – وقد حدث هذا مرة واحدة على الأقل – تحاط البعثة الدائمة للسودان في نيويورك علماً بالجلسة وأجندتها، مسبقاً، وتعد ردها الكتابي على التقارير التي تعرض أمام الأعضاء، حتى كاد السفير الحارث إدريس أن يصبح العضو رقم (16) في مجلس الأمن!!
مطالب على المنضدة
وقد ظل السودان، عبر مندوبه الدائم، يضع أمام المجلس مطالب محددة كل مرة ، يمكن إجمالها في إدانة سلوك المليشيا المتمردة واعتبارها جماعة إرهابية وحظر أنشطتها وتحركاتها، وتصنيف قادتها عناصر إرهابية و إدانة سلوك دولة الإمارات لتورطها في الانتهاكات الممنهجة والإبادة الجماعية بالسودان، والضغط عليها لوقف دعمها للمليشيا المتمردة وإلزامها بدفع تعويضات عن الخسائر التي لحقت بالسودان والسودانيين.
حاملة القلم :
مصدر دبلوماسي رفيع تحدث لـ”المحقق”، آثر حجب اسمه، قال إن مجلس الأمن عقد عدة جلسات بخصوص الحرب فى السودان معظمها بإيعاز من بريطانيا، كونها، فيما يتعلق بأوضاع السودان فإن كل المبادرات و مشروعات القرارات تصدر عنها، باعتبار أنها حاملة القلم عن السودان، وهذا وضع قد يحتاح أن يعيد السودان النظر فيه !!
جانبها التوفيق
المصدر أكد بأن بريطانيا لم توفق إطلاقاً حتى قبل الحرب، في محاولاتها لتمرير أجندة بعينها، وقد لازمها ذلك منذ أيام بعثة فولكر .
و اعتبر المصدر أن كل ذلك يأتي فى إطار محاولات ضغط من بريطانيا، التي تقف إلى جانبها كل من أمريكا و فرنسا، بهدف الإضرار بالحكومة القائمة في السودان.
و مضى المصدر قائلاً: “لحسن الحظ لم يوفقوا حتى تم طرد فولكر رغماً عن أنفهم” وأن الشئ الوحيد الذي نجحوا فيه هو التمديد لفريق الخبراء المعني بالعقوبات على دارفور حيث تم ذلك بعد أن كان، في فترة من الفترات، على وشك إلغاؤها لكن نجحوا فى الابقاء عليها.
لهذا ..فشلوا
أما فيما يلي موضوع الحرب في السودان و فرض عقوبات فلم ينجحوا فيها إطلاقاً بفضل حسن التنسيق مع كل من روسيا و الصين.
الطرفان
المصدر أشار إلى أن جلسات المجلس دائماً تركز تحديداً في حالة فرض عقوبات أن تفرض على الطرفين كما يسمونهم “طرفي القتال”، و تتم المطالبة بأن يجلسوا لطاولة المفاوضات
إلى ماذا ترمي حاملة القلم؟
مصادر دبلوماسية في نيويورك تتابع أعمال مجلس الأمن، تحدثت إلى موقع “المحقق” الإخباري، أبدت خشيتها من أن المجموعة الغربية ممثلة في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، تخطط لشكل من أشكال “التدخل الإنساني” في السودان، خاصة وأنها سبق وأن ألمحت لذلك، وحاولت أن تمهد لقرار يحدد مناطق “محايدة” داخل البلاد تكون خارج سيطرة الدولة، يؤوب إليها السودانيون لتلقي العون الإنساني، وتدار بواسطة الأمم المتحدة.
المحقق – مريم أبشر
إنضم لقناة النيلين على واتساب