لجريدة عمان:
2025-07-31@00:40:58 GMT

عين «الفراهيدي» التي لم يغمضها الغياب

تاريخ النشر: 26th, June 2024 GMT

حين سألت السيد عبدالله بن حمد البوسعيدي -رحمه الله-، عن كيفية الموازنة بين مسؤولياته الوظيفية التي كان آخرها رئاسته لمجلس إدارة الجامعة الشرقية ومواظبته على متابعة الفعاليات؟ أجاب: «أحرص على اقتناص الفرص بعد ساعات الدوام لأحضر فعالية، فالعمل الوظيفي له وقته والاهتمامات الثقافية لابدّ أن تجد لها فسحة من الوقت المتبقي»، هذه الـ(لابدّ) التي ألزم نفسه بها لم تأت من فراغ، فهو يعتبر الزاد المعرفي هو النسغ الذي يمدّ الإنسان بطاقة إضافيّة لمواصلة حياته، وهذه الاهتمامات تعود إلى النشأة، فهو وُلد في بيت تتوفّر به مكتبة كبيرة، ولوالده دور في توجيه اهتماماته، فالسيد حمد بن سيف البوسعيدي كان فقيها وقاضيا وقد أوكلت إليه ولاية عدد من المناطق، وله كتب عديدة أبرزها: (الموجز المفيد نُبذ من تاريخ البوسعيد) الصادر عام 1995م، بأكثر من طبعة، و(إرشاد السائل من أجوبة المسائل)، و(قلائد الجمان من أسماء شعراء عمان)، فورث من والده حبّ المعرفة، وقد أتيحت للسيد عبدالله، بوقت مبكّر من حياته، حضور المجالس الأدبية برفقة والده، وكانت تلك المجالس «عامرة بعلماء الفقه والمشايخ، هذه النشأة في هذا المناخ الثقافي أسهمت كثيرا في توجهاتي، اللاحقة مع حرصي -والكلام للسيد عبدالله- على تنمية القدرات الذاتية بالاطلاع على ما يدور في أروقة الحياة الثقافية داخل السلطنة وخارجها».

وهذا الشغف المعرفي المبكّر جعله يحرص على حضور الفعاليات، والندوات، وفتح بيته لضيوف السلطنة من الأدباء والفنانين والأكاديميين، فجعله صالونا ثقافيا، وخلال عمله سفيرا للسلطنة في القاهرة، ومندوبا دائما للسلطنة في جامعة الدول العربية بمرتبة وزير، في الأول من فبراير 1989م، أسّس في القاهرة صالونا ثقافيّا أطلق عليه اسم (صالون الفراهيدي) نسبة إلى العالم اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي، صاحب كتاب (العين) بهدف إبراز الدور الحضاري لعمان عبر التاريخ، والتعريف بالثقافة العمانية، في الخارج، إيمانا منه أن السبيل الوحيد لتقريب وجهات النظر هو الحوار، فمن خلاله يمكننا « الإجابة عن التساؤلات ومحاولة النهوض من العثرات وتلافي السلبيات والمحافظة على الخصائص والميزات» كما أشار في مقدمة كتاب (حوارات صالون الفراهيدي)، مبينا سبب تسمية الصالون باسم الفراهيدي لأنّ «ابن عمان واحد من رموز هذه الأمة اعتزازا بأصالة الثقافة العربية وسعة أفقها ونزعتها الدائمة إلى الحوار والتجديد»، كما أشار إلى ذلك في الكتاب الذي صدر الجزء الأول منه عام 1998م.

وكانت انطلاقة الصالون يوم 29 أكتوبر 1996م في حفل كبير رعاه معالي دكتور عصمت عبدالمجيد الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية وتجاوز الصالون فكرة تبادل الأحاديث عبر جلسات مفتوحة، فوضع له برنامجا ثقافيا، على هيئة حلقات جرى خلالها تقديم أوراق عمل، وقد تنوّعت موضوعاتها بين اللغة، والأدب والشعر، والسياسات الدولية، والعلاقات الثقافية، ومن بين الموضوعات التي نوقشت في الصالون (الخليل بن أحمد الفراهيدي وجهوده في الدراسات اللغوية العربية ) و(الدلالات الحضارية لموسوعة السلطان قابوس لأسماء العرب) و(المدائح النبوية في الشعر العربي) و(التواصل الحضاري بين مصر وعمان) و(الحب في الشعر الإلهي) و(عمر بن الفارض الشاعر الصوفي) و( رابعة العدوية) و(نظرات في التجربة الصوفية في شعر الشاعر العماني اللوّاح ) و( أبعاد التواجد العربي في شرق أفريقيا ) و(أثر اللغة العربية في اللغة السواحيلية) و(نشأة الصحافة العمانية في شرق أفريقيا ) و(عمان في عيون الرحالة)، بمشاركة قامات ثقافية عربية عالية من بينها: الدكتور أحمد هيكل، والشاعر فاروق شوشة والدكتور صلاح فضل والدكتور أحمد درويش، والدكتور يونان لبيب رزق، والدكتور محمد صابر عرب، وجمال الغيطاني.

وبعد عودة السيد عبدالله إلى مسقط، أسهم في دعم الحراك الثقافي، من خلال رعايته، وحضوره ومداخلاته في الندوات، ووضع علاقاته الثقافية في خدمة المشهد، فهو يحتفظ بعلاقات إنسانية عميقة مع أبرز رموز الثقافة العربية، وكان من مؤسّسي الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء، ورغم كل هذه الأنشطة، ظلّت فكرة إحياء (صالون الفراهيدي) في مسقط تشغله، رغم أن بيته -كما أشرنا- كان صالونا ثقافيا مفتوحا، وبعد جهود تمكّن من ذلك، وحضرنا في 5 مايو 2015م حفل تدشين الصالون الذي أقيم بجامعة السلطان قابوس، وكعادته في العمل، وضع خطة دقيقة لعمل الصالون، وسعى لتنفيذها على أرض الواقع، لكن مشاغله العديدة حالت دون ذلك، وفي لقاءاتنا الأخيرة أكّد حرصه على ترجمة مفردات تلك الخطّة، ضمن برامج ثقافية عديدة رسمها في الجامعة الشرقية، إلى جانب تحويل مكتبة والده إلى مرفق ثقافي في ولاية (سمد الشأن)، وكان قد وضع لها مخططا يشمل إقامة ندوات ومحاضرات ومعارض وتمّت فهرست الكتب فهرسة إلكترونية علمية وشملت تلك الفهرسة أكثر من خمسة آلاف كتاب، كما ذكر لي، وذلك لتيسير عمل الباحثين وسهولة الاستخدام وتوفير المعلومة، لكنّ الموت عاجله، بدون إنذار مسبق، ليرحل ولكن (عين) الفراهيدي تبقى مفتوحة ولن يغمضها الغياب.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مأزق الوحدة العربية الكبرى

في هذا العالم الواسع الذي يعيش فيه قوميات، وأعراق، وطوائف، وديانات، وإثنيات عديدة ومختلفة، تسعى في معظمها إلى التعايش، والتوحد في وجه الأخطار المتعاقبة، وأن تكون جماعات قوية، وفاعلة، يطل العرب في هذا الزمن الغريب، وبكل أسف، وكأنهم خارج الزمن، وخارج المنظومة الاجتماعية المتعارف عليها، يظهرون في صور مختلفة، ومتخلفة، بدءا من التناحر، والاقتتال، والاحتشاد الطائفي والمذهبي، وانتهاء بالمؤامرات الصغيرة، والمشكلات الخفيّة، وكأنهم في غابة لا نظام لها، ولا قانون، فبينما تتجه الدول إلى الاتحادات، وتنسيق المواقف، وتنظيم الصفوف، في مواجهات كبيرة، وخطِرة تكاد تلتهم وجودها، يظل العرب في دوامة الصراعات الضيقة، دون رؤية واضحة، ودون بوصلة محددة، يتجهون إلى مصايرهم دون وعي في أحيان كثيرة.

ورغم أن قواسم الاتفاق، والتوحد أكثر من الاختلافات بين الدول والشعوب العربية، إلا أن العمل الفردي يغلب على معظم السياسات، ولذلك باءت محاولات الوحدة كلها بالفشل، فلم تنتهِ المشاكل الحدودية، وظلت التناحرات الطائفية والمذهبية في بعض الدول قائمةً، وهذا ما يجعل هذه الدول مفتتة، وممزقة، وغير فاعلة، بل أن لدى شعوبها أزمة هويّة واضحة، ولعل حرب «غزة» الحالية أظهرت ذلك المأزق، وكشفته بشكل واضح، فبينما يتغنّى العرب في إعلامهم، وكتبهم الدراسية، وفي وجدانهم القومي بالعروبة، والتاريخ والمصير المشترك، يبدو الواقع السياسي وكأنه بعيد جدا عن هذه الشعارات، بل وقريب من مواقف عدوٍ «كلاسيكي» ومعروف إلى وقت قريب، إلا أن الضبابية بدت واضحة على الموقف العربي الواحد، مما يجعل تلك الشعارات مجرد لافتات بائسة.

إن الوحدة أصبحت ضرورة حتمية لكي يستعيد العرب مكانتهم، ويستثمروا مواطن قوتهم، ويعملوا من أجل المستقبل، فالدول التي تعيش على أكتاف غيرها، يظل مصيرها معلقا بيدي عدوها، ويظل القرار السيادي منقوصا مهما بدا غير ذلك، فالحسابات العربية غالبا ما تُبنى قبل كل شيء على مصالحها مع الدول الكبرى، حتى ولو كان ذلك على حساب جارة شقيقة، يربطهما مصير مشترك، وجغرافيا، ودين، ومصالح أبدية، ولكن الواقع يقول: إن الضعيف لا يمكن أن يعتمد على ضعيف مثله، فهو يحتاج إلى دولة قوية تحميه، ونسي العرب مقولتهم الشهيرة، وشعارهم الكبير «الاتحاد قوة، والتفرق ضعف»، ولم يلتفتوا إليه في واقعهم، ولم يطبقوه في حياتهم السياسية.

إن الدول الكبرى لديها قناعة راسخة بأن الدول العربية يجب أن تظل ضعيفة، وتعتمد عليها في كل شاردة وواردة، وأن أي تقارب عربي يعني خطرا على وجودها الاستراتيجي في المنطقة، لذلك تعمل ليل نهار على إشعال المشكلات بين الدول العربية، وتوليد الخلافات، وخلق العداوات مع الجيران، وإبقاء الوضع على ما هو عليه، حتى يسهل عليها كسر هذه الدول، وتفتيتها، ليكون لها اليد الطولى في مصيرها، وتضمن وجودها العسكري لأطول مدة ممكنة، ولكن على العرب أن يعرفوا أن كل سرديات التاريخ تثبت أنه ليس للضعيف مكان في عالم القوة، وأن حزمة الحطب لو اجتمعت فلن يسهل كسرها، ولذلك على هذه الدول المتحدة في كل شيء إلا في الواقع، أن ترى المستقبل بعيون أوسع، وبحكمة أكبر، وتعلم أن الوقت حان للملمة الأوراق، والبدء في رحلة العمل الطويل والشاق في سبيل حلم «الوحدة العربية الكبرى».

مقالات مشابهة

  • السودان يرد على الجامعة العربية
  • د. منال إمام تكتب: الدبلوماسية الثقافية.. أداة إستراتيجية لحماية الأمن القومي المصري
  • مأزق الوحدة العربية الكبرى
  • الملحقية الثقافية القطرية بالمملكة المتحدة تحتفي بتخريج 156 طالبا مبتعثا في المملكة المتحدة وأيرلندا
  • عودة موفقة لزفيريف بعد شهر من الغياب
  • «الأعوام الثقافية» تعمق الروابط مع إندونيسيا
  • كواحدٍ من رموزها الثقافية.. مدينة برمنغهام تعلن تفاصيل جنازة أوزي أوزبورن
  • إنطلاق “جوائز فلسطين الثقافية” في دورتها الثالثة عشرة – 2025/2026
  • بمشاركة أكثر من 40 عارضا..افتتاح صالون الخدمات المالية الموجهة لدعم الاستثمار
  • صالون الشئون العربية بـ«الصحفيين» يدشن تعاونا مع المنتدى الإستراتيجي ينطلق بـ«إعلام تحت القصف»